المنشور

عبدالإله العرب فنان الخط الباقي

رحل عن عالمنا الشهر الماضي فنان الخط العربي والتشكيل الفني عبدالإله العرب، زميل مرحلة الدراسة في قاهرة السبعينات. التقيته في شقة شقيقي الفنان التشكيلي عباس الموسوي، كانوا مجموعة من الفنانيين يدرسون الفنون وهندسة الديكور والخط وغيره أيام ذروة البعثات والمنح الدراسية المقدمة لأبناء البحرين في مختلف التخصصات، وكانوا مذ ذلك الوقت يجربون ابداعاتهم وحصيلة خبراتهم الأكاديمية في الرسم والخط والتشكيل ويشاركون بها في المعارض الفنية في القاهرة.
الطالب الهادئ الوقور الذي يتوارى خجلا حين يعبر عن نفسه، روى لنا انه وصل إلى قاعة المحاضرة ذات يوم مبكراً قبل غيره في أول اأسبوع دراسي له في منتصف السبعينات، فقام بخط عدة كلمات على اللوحة، حين وصل الأستاذ والطلبة انبهروا بالمستوى الفني الرفيع الذي يمتلكه هذا الطالب الوافد القادم من البحرين.
طلب منه أستاذه في الأيام التالية أن يحل مكانه في غيابه. صار الطالب أستاذا على زملائه في الشهر الأول للعام الدراسي، ونال لاحقا استحقاق الجمهورية للطلاب الاوائل من الرئيس الأسبق أنور السادات في دبلوم الخط العربي، اما شيخ الخطاطين العرب السيد إبراهيم فقد وصفه بأنه “واحد من أهم الخطاطين الشباب الذين مروا على تاريخ معهد الخط العربي”، وقد ونشأت بينهما صداقة عميقة امتدت طويلاً. تتلمذ عبدالإله في القاهرة أيضاً على يد مجموعة من كبار الخطاطين، وأساتذة الزخرفة والتذهيب والمتخصصين في خط المصاحف، وتعرف خلال دراسته في مصر على النماذج الخطية المختلفة لكبار الخطاطين العرب والأتراك على مختلف العصور، كما اقتنى العديد من الكتب والكراسات والمجلدات التصويرية المهمة في هذا المجال.
قصة عبدالإله مع الخط بدأت حين كان صبياً صغيراً يجوب أحياء المنامة مدفوعا بنداء غامض لم يجد له تفسيراً، كان يلتقط قطع الفحم والألوان ويخط الحروف على جدرانها ويكسو مآتمها ولوحاتها وأعلامها، كان في التاسعة عشرة من عمره حين انبثقت التجربة البرلمانية الاولى في البحرين، بيد أنه كان مشهوراً ومعروفاً بموهبته الفنية اللافتة فأوكلت اليه هو وستة خطاطين آخرين مهمة خط دستور مملكة البحرين عام 1973.
بعد عودته من الدراسة في مطلع الثمانينات حصل على وظيفة خطاط ومخرج فني في قوة دفاع البحرين، فخطّ المراسلات الحكومية ومجلة القوة وغيرها، لاحقاً جاءته فرصة أخرى للعمل في منظمة الخليج للاستشارات الصناعية في الدوحة، اتجه عبدالإله إلى العمل التجاري طوال فترة الثمانينات، إذ كان الطلب شديداً على الخطاطين من قبل شركات الإعلان المحلية والأجنبية، في أعقاب الرواج الاقتصادي الذي عرفته منطقة الخليج، وقد راكم عبدالإله خلال هذه الفترة تجربة فنية وبعض المخرات المالية وظفها لتأسيس أول مدرسة للخط العربي عام 1990 بهدف إحياء الخط العربي والإرتقاء به، وجعله صنعة وفناً، وقد استقطبت المدرسة عدداً من خطاطي البحرين، كما تتلمذ فيها عدة مجموعات من الطلاب البحرينيين والعرب والأجانب الراغبين في إتقان حرفة الخط العربي، بعد المدرسة التي كانت حلم عبدالإله منذ صغره تفرق روادها شيئاً فشيئاً وانحسر الطلب عليها ما اضطره لإغلاقها .
تفرغ فيما بعد للمعارض الفنية والرسم والخط والزخرفة الإسلامية والتذهيب والتشكيل، وكان بارعاً في توظيف الحرف العربي في التشكيل، وحصل على أول جائزة تقديرية مرموقة في تركيا من قبل مركز الأبحاث للتاريخ والثقافة والفنون الإسلامية، واختير كعضوٍ دائم في اللجنة الدولية لفن الخط بإسطنبول، وهكذا عُرف الفنان اقليمياً ودوليا، وطارت شهرته وأينعت تجربته، فتلقى المزيد من العروض للمشاركات في المعارض الفنية المختلفة خطاً وتشكيلاً وتصميماً وزخرفة.
بعد الرسم على الورق والأختام وطوابع البريد، وفي منتصف التسعينات اتجه للرسم والتشكيل على السجاد محققاً ابتكاراً جديداً وغير مألوف فنياً في بلدنا، وفي عام 2011 استعانت “شركة الندى للأزياء والهدايا” ببعض أعماله التي تمّ تحويلها وطبعها على الحرير واستخدامها للوشاحات والأزياء الراقية، وقد لاقت رواجاً كبيراً، وأضافت بعداً وقيمة فنية لأعماله القديمة، أو المتحصلة على الجوائز.
ويجمع الفنانون البحرينيون على أن عبدالإله يعدّ امتداداً لاساتذة الخط العربي الكبار الذين سطروا ابداعتهم في الخط العربي على اختلافه، وقد تلازمت الموهبة مع الدراسة المتخصصة مع الإطلاع الدائم والتجريب، إضافة إلى التفرغ التام والممارسة الطويلة الممتزجة بالثقافة والمعرفة الادبية وبتراث الشعر العربي.
كان الروائي والكاتب حسين المحروس ينوي كتابة سيرة الخطاط عبدالإله، إيماناً منه بأهمية هذا الفنان في مسيرة الفن البحريني، إلا أن المشروع تعطل بعد مباغتة المرض للفنان ، حيث فضل الإنزواء والعزلة في السنوات الأخيرة، قانعاً بحياة بعيدة عن التجمعات والأضواء، رغم أنه كان يزمع إعداد بحث شامل عن الخط العربي القديم منذ 300 عام في البحرين وخارجها، وقد جمع مادته وصوره ومستنداته وظل ينتظر الفرصة لإطلاقه.
ولم يسع عبدالإله عرب لحياة مديدة أو طموح مادي كبير وقنع بما تجود عليه مبيعات لوحاته من مردود متقطع وغير ثابت بعد أن اكتسحت التقنيات الإلكترونية الحديثة، أغلب الفنون ونافست فن الخط، بل وسحبت البساط والرزق من أيدي الفنانين والمحترفين.
الفنان الرقيق الهادئ المثقف الملتزم المخلص لموهبته وعمله وابداعه ظلّ يقول: “لا أريد من من الحياة شيئاً سوى قصباتي وألواني وسجائري وركن صغير ومريح أمارس فيه عملي بهدوء”.
أغرم عبدالإله بالأدب العربي الكلاسيكي، وبالمتنبي وأبي نواس والجواهري وأبو العلاء المعري، حتى في أيام مرضه كان الكتاب رفيقه وسلواه، وإذا سئل عن صحته اجاب: “تعجبين من سقمي/ صحتي هي العجب”، في اشارة إلى قصيدة أبي نواس الشهيرة، “حامل الهوى” .
كنا نتمشي مع زميلنا عبدالإله في شوارع القاهرة، وكان يرصد الأخطاء في اليافطات الإعلانية وأسماء المحلات، ويردد أن مصر هي أم الخطاطين العرب فكيف يجورون على الخط العربي؟ إذ لا شيء يضير هذا الفنان كرؤيته لكلمة عربية معوجة أو متجاوزة لأصول الخط العربي الأصيل بكل انواعه.
كثيرة هي الأوسمة والجوائز التي حصل عليها عرب وكان جديراً بها، إلا أن إنسانيته وحسه الفني الراقي وتعامله الإنساني وكرمه الذي بلا حدود يظل عصياً على النسيان. أهدى عبدالاله العديد من أعماله إلى اصدقائه وأهله وزملائه وتلامذته وأبناءهم، اشتغل لهم وساعدهم ودرّبهم وصمم أغلفة كتبهم ويافطات مشاريعهم وبطاقات أفراحهم بالمجان وبلا مقابل.
لم يندم عبدالإله على شيء في حياته بقدر ما كان نادماً وحزينا ًعلى إغلاق مدرسة الخط العربي وهي مشروعه وحلمه الذي اشتغل عليه طويلا وتأمل منه الكثير وخرج منه بخسارة مالية ومعنوية، وكان يقول: اننا يجب ان نقتدي باليابان التي ما زالت تعتني بالخط الياباني الأصيل وبالأدوات القديمة نفسها باعتباره جزءاً من تراثها وحضارتها.
توزعت أعمال عبدالإله على عدد من المتاحف العربية في بلدان الخليج، واهمها لوحة “الحق يعلو” وتكوين الحرف “ح” التي فازت بالمركز الأول في بينالي القاهرة عام 1988، ثم احتلت مكاناً في متحف البحرين الوطني لاحقاً.
إن سيرة عبدالإله جديرة بأن توثق من قبل معاصريه ومجايليه وزملاءه، أما أعماله القديمة والحديثة فلابد وأن يحتضنها معرض فني دائم، اعترافا بموهبته وتقديرا لجهوده وابداعه في تطوير مهنة الخط العربي الأصيل.

اقرأ المزيد

نبع الوفا

أمان يا أرض الخلود الخالدة بنبض الزمان
حرزك.. أمان الله ودُعاء المصطفى وأهل الوفا

من خلقت الدنيا وتفاصيلك على نهج الجنان
مليون نخله والعيون اتحوفها جَهْر وخفا

والتين واللوز الحمر .. وعِدّ ما تشاء من فضْل كان
يحعل من البحرين جسمٍ في حَضن هذا البحر نام وغفا

روعة جمالك يا وطن إنّ البحر شالك وصان
لك داخله لول ودُررّ .. ثروات ما قالت: كفى

الناس مشعل طيب يضوي ارجاءها ويحيي المكان
وللضيف نار يقيدها قاصي الحشا .. كلْما لفى

من ريحة المشوم أُجزم يا وطن إنّك حَضن نبع الحنان
وإنّك جنان أهل الوفا .. الوارفه .. الحِصن .. الدفا

في قلوبنا نبض يتغنّى: يا وطن انت الغلا وانت الضمان
من خان بك .. نُجمع معاً ونقول له : آاااخ وأفااا

ينمو على ارضك وئام الشعب والقاده ويُدان
كل خارجٍ عن مِلّة الحُبّ النقي وعبد الجفا

لك حُبّ يرتع في شغاف قلوبنا .. وبسّ بالبنان
أشّر .. وكلْنا لك فدا .. إيدٍ بإيد.. طبّ وشفا

لك نور يضوي قلوبنا وبه نهتدي لْبرّ الأمان
لك نور يضوي قلوبٍ تحبّك يا وطن.. ما قط طفا

في ماضِيِك كنت الحضارة.. الملتقى وكلّ المعان
وفي حاضرك انت التميّز والبطل والدهْر لعيونك صفا

اصعد تربّع يا وطن فوق القممّ واطلق عنان
انجازك التاريخي به ثوب الفخر طال وضفا

إن رحت عنْك .. تبقى الأبو.. وإن جيتلك أمّ واحتضان
يا أمّي ( البحرين) حضْنك راحتي وأمْن وعفا

خذتي شعار الاحتواء كالأمّ .. حُبٍ واتّزان
تغفر إذا إبنٍ خطى درب الخطا وزلّ وهفا

تبقين يالبحرين دانة حِسْن يفداها الحِسان
وتبقين أكرم من عطا واسخى بلد عاش وتسامح ثم عفا

لك نبتهل يا ديرتي كل مرةٍ يُرفع بها صوت الأذان
( الله وأكبر) يحرسك يا ارْض الجمال الخالدة ونبع الوفا

اقرأ المزيد

أموال الهيلوكوبتر الضارة بالدولة والمجتمع

تحدثنا في أكثر من مناسبة أن من يحكم العالم الرأسمالي اليوم هي الرأسمالية المالية. ولم يعد سرا على أحد أنها تستخدم المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين، كأدوات فعالة من أجل إخضاع كل نظام الإدارة العالمي وكل إقليم ودولة وطنية فيه، وما يسري فيها من نماذج وسياسات اقتصادية-اجتماعية ونظام مصرفي وسلوك مجتمعي وتشريعات ونظم، كلها لخدمة مصالح طبقة الرأسماليين الماليين – حكام هذا العالم.
يسمي البعض فوز الرئيس بايدن بالمرحلة الثالثة من إدارة أوباما، ويعني هذا الفوز تثبيت الرأسمالية المالية سيطرتها وقيادتها للعالم الرأسمالي من جديد. وقرار إصدار 1.9 ترليون دولار كدفعة أولى من برنامج التيسير الكمي الذي سيغرق البلاد بكميات هائلة من أوراق الدولار التي لا غطاء لها في الواقع الاقتصادي المادي ما هو إلا مدخل قوي لبرامج الإدارة الجديدة. وبذلك يتحقق حلم السيد بن برنانكي، الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بأن يصبح ممكناً نثر أوراق الدولار القليلة القيمة من على متن طائرة الهيلوكوبتر على الأفراد والشركات !!
المسافة بين البحرين وواشنطن حوالي 11 ألف كلم. فهل لطائرة هيلوكوبتر أن تقطع هذه المسافة من وراء المحيط الأطلسي؟ نعم، “هيلوكوبتر” بن برنانكي المالية – النقدية وصلت. نعني بذلك أن السياسة المالية النقدية المتبعة هناك تنعكس لدينا في كثير من جوانبها. كيف ؟
يجيب على هذا بشكل غير مباشر تقرير بعثة صندوق النقد الدولي (22 مارس 2021) بعد اختتام المجلس التنفيذي للصندوق مشاوراته مع مملكة البحرين (17 مارس) وفق المادة الرابعة من نظامه. ولنتناولْ ذلك ارتباطا بما جاء في تقارير أخرى في سياق تحليلنا التالي.
من نافل القول إن ميزانية الدولة لدينا لا تستند إلى خطة تنمية اقتصادية اجتماعية ثلاثية، خماسية أو عشرية. بل أن مبدأ التخطيط لا ينال الاعتراف، رغم أنه فرض دستوري. وإذا كنا قد سمعنا يوماً من بعض المسؤولين عن الإنتقال من ميزانيات البنود إلى ميزانيات البرامج (وقد صفقنا لذلك حينها)، إلا أنه سرعان ما طوى الصمت توجهاتٍ كهذه. الذي نشهده في السنوات الأخيرة هو أن وضع الميزانية يتمحور حول مسألة التوازن المالي، وحتى هذا الأخير ليس كأداة اقتصادية، بل كهدف بذاته. هذا النهج بكل ما جرَّه ويجرُّه من سياساتِ خصخصةٍ وتوظيف للعمالة الأجنبية على حساب الوطنية وضرائبَ غير مباشرةٍ وغير عادلةٍ ورفع للدعم عن المواد الغذائية والخدمات الضرورية للمواطنين وغلاء في الأسعار واستمرار ارتفاع سقف الدين العام وعبء خدمته خضع لنقد مرير من جانب كثيرين من المعنيين بالشأن الاقتصادي في بلادنا. بلا مواربة – هذه هي نتائج الأخذ “بالوصايا العشر” للمؤسسات المالية الدولية. لكن هذه المؤسسات لا تتوانى عن أن توجه نيران النقد للحكومات الوطنية عندما يقود هذا النهج الاقتصاد الوطني والبلاد إلى إخفاقات.
بداية يمتدح صندوق الدولي مملكة البحرين لأدائها الجيد في مكافحة جائحة كورونا، لكنه لا يمكن أن يُقِر، مباشرة أو إشارة، إلى أن هذا من فضل قوة الاستمرارية المتبقية من سياسة دولة الرعاية الاجتماعية التي عمل هو وغيره من مؤسسات شبيهة لتفكيكها.
لنبدأ من مشكلة المشاكل- الدين العام. بلغ مستوى الدين العام 133% من الناتج المحلي الإجمالي. ولتبيان خطورة هذا المؤشر نشير إلى أننا نقترب من المؤشر اللبناني البالغ 161.8% (تقرير فوربس، مارس 2021). وفي هذا الصدد “شدّد” التقرير على اتخاذ “تدابير دمج إضافية تتجاوز الميزانية الحالية لوضع الدين على مسار هبوطي ثابت وتقليل اعتماد الإيرادات المالية على أسعار المواد الهيدروكربونية”. كما دعا مدراء الصندوق إلى “خطة تعديل مالي طموحة” على المدى المتوسط و”تعبئة الإيرادات المحلية وترشيد الإنفاق”. طبعا، هذه عبارات عامة تجد محتواها الفعلي في ما يعرف بالوصايا العشر للصندوق والتي كرسنا لها مقالاً خاصاً في أحد أعداد “التقدمي”. بعبارة أخرى في إطار النهج الاقتصادي الحالي ومع تكرار هذه الحلول نرى سقف الدين العام يرتفع مع كل عام. فهل استمرار الصبر على هكذا نهج سيأتي أُكلَه يوما ؟
في هذا الصدد يتساءل واضعوا تقرير معهد التمويل الدولي (IIF) عن الطريقة التي سيقلص بها الاقتصاد العالمي هذا الحجم الهائل من المديونية دونما آثار متعبة على النشاط الاقتصادي؟ ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن الدين العالمي ظلّ لسنوات طوال يتزايد على حساب الإصدار النقدي وتوزيع القروض الرخيصة على الأفراد والمؤسسات. وهكذا فقط يتم تحفيز الاقتصاد عاما بعد عام. لكن أرتيوم دييف، رئيس دائرة التحليل في “إيه ماركتس” الروسية يرى أنه “عاجلا أم آجلا سيؤدي هذا إلى دورة جديدة من العجوزات وإلى انهيار مالي عالمي جديد”. وأنه “لا أحد يعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك. الواضح فقط هو أن الدول لن تستطيع سداد ديونها الهائلة”.
وهنا فارق كبير بين عجز الدول المتقدمة اقتصاديا والدول النامية عن سداد الديون. الديون العالمية مقومة بالدولار الأميركي أساسا وبالعملات الريادية الأخرى كاليورو والفرنك السويسري والين والجنيه الاسترليني. الولايات المتحدة، مثلا، يمكن أن تنتظر تزايد الفقاعات المالية حتى انهيار هرمها المالي، ومعه العالمي. غير أن سيادتها ليست مهددة من أحد في كل الأحوال. الصين – الدولة الاشتراكية، هي الأخرى سارت في طريق التيسير الكمي. لكن بهدف واضح، وهو تشجيع الشركات على الاقتراض للحصول على المزيد من التكنولوجيات المتقدمة. غير أن خطة التنمية الاقتصادية الاجتماعية 14 الجديدة تنظر إلى ظاهرة تعاظم الدين العام بقلق بالغ (رغم أنه بالعملة الوطنية في الأساس)، وستعمل على “تبريد” الدين ثم تصفيره سريعا. بالنسبة للدول النامية، وخصوصا الفقيرة الأمر يختلف. لن يطلب منك أحد سداد الديون، لأنك ببساطة لن تستطيع، كما أن ما بقي لديك من مال لم تعد له قيمة تذكر، خصوصا إذا لم تكن محصنا باحتياطات الذهب. هنا، إفلاس الدولة يؤدي ليس فقط إلى فقدان السيادة، بل ويهدد مفهوم الدولة الوطنية لصالح دمجها في النظام العالمي الجديد، الذي يدور عنه الحديث الآن كما في الخيال. الشركات الكبرى (بعد عمليات دمج هائلة فيما بينها) هي التي ستسيطر مباشرة على “الأراضي” ومن عليها (مجرد أجراء) وما في جوفها (ملكية خاصة). اللهم اجعله مجرد حلم مزعج. البلدان الأوفر حظا للإفلات من هذا المصير هي الأقل غرقا في الديون.
هذا على المستوى البعيد. أما على المستوى القريب والمتوسط فهناك مؤشرات مقلقة حقا. يشير تقرير الصندوق إلى أن الاحتياطات الدولية انخفضت، بحيث لم تعد تغطي أكثر من 1.4 شهر من الواردات غير النفطية المحتملة. للمقارنة نشير هنا إلى أن معدل الأمان العالمي هو خمسة أشهر. ويتوقع تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات أن يصل احتياطي البحرين من العملات الأجنبية 2.4 مليار عام 2020 مقابل 2.3 مليار دينار عام 2019. وفي حين تلجأ غالبية دول العالم، مع تفاقم الأزمة العالمية، إلى زيادة المكون الذهبي في احتياطاتها النقدية الذهبية، باعتبارها أكثر أمانا وارتفاعا مستمرا في قيمتها، إلا أن احتياطات البحرين من الذهب ظلت بمقدار 4.7 طن فقط حسب تقديرات مجلس الذهب العالمي لعام 2020، كما كانت عليه عام 2015. ولتبيان ضآلته يشكل هذا الاحتياطي حوالي 0.34% فقط من مجمل احتياطي الذهب للدول العربية. احتياطي نقدي – ذهبي بهذا القدر والتكوين يشكل خطراً على سعر صرف العملة المحلية الذي سجلّ تراجعا بمقدار -3.4% عام 2020.
يشير التقرير إلى اتسام الاقتصاد بالإنكماش عموما بنسبة -5.4%، والانكماش حاد في القطاع غير النفطي (-7%)، ما أدى إلى ارتفاع العجز المالي إلى 18.2% واتساع عجز الحساب الجاري إلى 9.6% من إجمالي الناتج المحلي لعام 2020. ومهما كانت توقعات تحسن مؤشرات النمو، إلا أن مستقبل النفط في ميزان وسوق الطاقة العالميين سيظل معرضاً للضغوط.
وفي حين ذكر التقرير أن البنوك ظلت تتمتع برؤوس أموال وسيولة جيدة، إلا أنه حث السلطات “على الحفاظ على تحليل استشرافي لمحافظ الائتمان المصرفية ومستويات المخصصات وإدارة الروابط بين البنوك السيادية بعناية.” لا نعرف تماما ما الذي تمّ وضع الإصبع عليه في الإشارة الأخيرة، لكن تجارب بلدان أخرى تسجل محاولة المصارف استغلال نفوذها لتوريط المصرف المركزي في معالجة الفشل، غالباً عن طريق الإصدار النقدي. نرجو أن لا يكون الأمر كذلك.
عوداً إلى بدء المقال، حيث قلنا إن السياسة المالية النقدية تنعكس عندنا بجوانبها السلبية. ترى ما الإيجابي الذي لا ينعكس لدينا ؟
تقول بلومبيرغ إن الرئيس بايدن يخطط لأول زيادة كبرى في الضرائب منذ 28 سنة (منذ عام 1993). وينطلق في ذلك من اعتقاده بأن الأميركيين بحاجة إلى سياسة ضريبية أكثر تقدمية، وتركز على مكافحة عدم المساواة. ولتمويل البرامج الاقتصادية ما بعد حزمة الدعم الثالثة (1.9 ترليون دولار) ستتم زيادة الضرائب على الشركات الكبيرة من 21 إلى 28%، بينما ستقدم الحوافز للشركات الصغيرة والمتوسطة. وستزيد الضرائب على دخل الأفراد الذين يزيد دخلهم عن 400 ألف دولار سنويا (12.6 ألف د.ب شهريا). وتجري دراسة فرض ضريبة أكبر على نمو رأس مال الناس الذين يحققون دخلا أكثر من مليون دولار سنويا. بتقدير Tax Policy Center ستدر الزيادة الضريبية على الميزانية حوالي2.1 ترليون دولار. ويمكن بسهولة ملاحظة أن هذه السياسة الضريبية، مباشِرة أولا، ولا تمس الفئات الدنيا ولا الشركات الصغيرة والمتوسطة بسوء. الضرائب لدينا معكوسة : غير مباشرة، وتستهدف الأضعف أولا !!
سندع جانباً حزم الدعم عن طريق أموال الهيلوكوبتر، والتي تعد كل مواطن بمبلغ 1400 دولار ومزايا إضافية للأطفال وتمديد إعانات البطالة وفئات معينة، ويقول عنها الخبراء أنها قبل نهاية السنة المالية الحالية (1 أكتوبر 2021) يجب أن تزيد دخل هؤلاء بنسبة 20%. إنها أموال ستتأتى عن طريق مزيد من الإصدار النقدي ومزيد من الدين العام. ولذلك فهي مُعابَة من قِبَل العديد من الاقتصاديين.
في مقابل ذلك، وهذا ما ندعو للأخذ به، أنه حتى في أميركا نفسها لا يزال يسري برنامج المساعدة الغذائية (Supplemental Nutrition Assistance Program) منذ عقود. ويسمى أيضا كوبونات الغذاء (food stamps)). وفي العام الأخير فقط زاد عدد الذين يستخدمون الكوبونات من 36 مليونا إلى 44 مليونا. ولا تزال في الكويت تمنح البطاقات التموينية للمواطنين، كما في بلدان كثيرة في العالم. هذا الدعم هو أضمن من حيث ذهابه لأهدافه مباشرة. كما أنه أقل كلفة من أموال الهيلوكوبتر الهائلة. إذ كلما زاد عرض النقود ارتفعت الأسعار الإسمية، ما يسمح بإعادة تدوير قسم كبير من الأموال لصالح التجار وشركاتهم الكبيرة.
ومهما أثار هذا عدم ارتياح البعض، إلا أننا لسنا مع تعميم الدعم (سواء من جهة “تمكين” أو وزارة العمل) لجميع الشركات صغيرها وكبيرها بنفس المبدأ، إذ سيعني ذلك عمليا، وكما هو حاصل، ذهاب الدعم في غالبه لكبار الشركات، وتمكيناً لها ضد الشركات الصغيرة والمتوسطة، بالضد من فكرة تمكين الأصل التي يجب أن تعني مساهمة الشركات الكبيرة في دعم الصغيرة والمتوسطة. فلا عجب أن نشهد تدهور أعداد كبيرة من هذه الأخيرة في مقابل، مثلا، أن تستولي شركة عائلية واحدة على مختلف مجالات الأعمال، من المصارف إلى وكالات السيارات إلى خدمات الأمن والمكاتب وحتى جمع القمامة !! إن دعماً على هذه الشاكلة لا يعتبر انحيازاً طبقياً لصالح الأغنى فقط، بل وإجهاداً للدولة والمال العام، وسيكون في نهاية المطاف على حساب زيادة الدين العام، في حين تطرح هذه الشركات في السوق إنتاجاً مستورداً في الغالب، وتوظف في الغالب عمالة أجنبية تحوّل الأموال للخارج وتضغط على قطاعات الخدمات في الداخل.
صندوق النقد أكدّ، كما في كل مرة، على مزيد من سياسة التقشف وتمكين القطاع الخاص للعب الدور القيادي في الاقتصاد. وفي هذا لبُّ “الإصلاح الاقتصادي” من وجهة نظره، على أن تكون الدولة مجرد “حارس أمين” لتحقيق هذه التحولات. في مقابل ذلك نقول إن إجراءات ما، مضادة للأزمة مطلوبة بالفعل، كالتي مررنا على ذكر بعضها، لكنها، متناثرة، لا تشكل برنامجاً متكاملاً لخروج اقتصادنا ومجتمعنا من الأزمة الحالية. هذا البرنامج يكمن ببساطة في تغيير النموذج الاقتصادي بشكل جذري، إلى نموذج يخلق اقتصاداً فعلياً، منتجاً، مترابط ومتكامل الأوصال، قادراً على إحداث التراكم الداخلي والتكاثر الذاتي، معبئ لجميع الموارد الداخلية من مادية ومالية وبشرية من أجل التنمية الداخلية. وإيجاد مثل هذا النموذج يحتاج إلى الإيمان بمبدأ أن تلبية حاجات تطور المجتمع وتعزيز دور وقدرات الدولة الوطنية أهم بكثير من تكثير أرباح الشركات، ولو بالمال الفقاعي. وبالطبع هذا بحاجة إلى كوادر بشرية مؤمنة بهذا المبدأ، وليست مبهورة بنموذج وطريقة عيش البلدان التي لم تعد متقدمة، بقدر ما هي متأزمة ليس اقتصاديا فحسب، بل وقيمياً وحضارياً.

اقرأ المزيد

ماذا بعد توصيات لجنة التحقيق الثالثة؟

ناقش مجلس النواب مؤخراً تقريرًا موسعًا للجنة التحقيق البرلمانية في أوضاع الصناديق التقاعدية وهيئة التأمينات الاجتماعية، وهو تقرير احتوى علي أكثر من 50 توصية عرضت من خلالها اللجنة رؤيتها وجملة تصوراتها لكيفية معالجة أوضاع مستقبل الصناديق التقاعدية، التي باتت أوضاعها تنذر بالكثير من العواقب الوخيمة اجتماعياً واقتصادياً منذ قرابة العقدين، وتحديداً منذ تداعى أعضاء مجلس نواب 2002-2006 لتشكيل اول لجنة تحقيق برلمانية في دعاوى افلاس الصناديق التقاعدية.

الجدير بالذكر أن التقرير الذي نحن بصدده هنا، هو الثالث من نوعه، وكذلك هي اللجنة بطبيعة الحال، فقد تشكلت على مدى العقدين المنصرمين ثلاث لجان تحقيق برلمانية، مما يدلل بوضوح على مخاوف واهتمام الشارع البحريني بمختلف شرائحه من أوضاع ملف الصناديق التقاعدية وأوضاع التأمينات الاجتماعية، خاصة أن تشكيل اللجنة الأخيرة، جاء في خضم لغط كبير حول أوضاع التقاعد والمتقاعدين بعد صدور مرسوم ملكي الغيت بموجبه زيادة ال 3٪ السنوية بالنسبة للمعاشات التقاعدية بالإضافة الى ثلاث مواد أخرى ذات صلة، ثم تبع ذلك إحالة الحكومة لمشروع بقانون يتعلق بإصلاح وتعديل نظام التقاعد، والمرسوم والمشروع هما حاليا قيد المناقشة والتفاوض مع الحكومة في اللجنة المختصة بذلك.

علي هذه الخلفية جاء تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية الأخيرة، والتي عبر بعض أعضاءها عن استياءهم أكثر من مرة من كيفية إدارة الملفات والتقارير الاكتوارية والاستثمارات، وصولا لإفصاحهم عن ارقام مغلوطة وردت في ما قدم للجنة من معلومات وتقارير كثيراً ما اثارت جدلاً وتعارضات علنية بين أعضاء اللجنة وهيئة التأمينات الاجتماعية، الأمر الذي استدعى التهديد برفع الأمر للنيابة العامة لوقف ما اعتبره رئيس مجلس إدارة التأمينات تعريضاً وتشويهاً لسمعة بعض المسؤولين في الهيئة، ولم يتم حسم هذه القضية بشكل تام حتى الآن، وهو بكل تأكيد تعبير عن الضيق غير المبرر للمعنيين في الهيئة بما عبر عنه ممثلو الشعب المؤتمنون، مثلهم مثل أعضاء مجلس إدارة التأمينات، على أموال واستثمارات الصناديق التقاعدية!

بطبيعة الحال لسنا هنا في وارد سرد التفاصيل التي تحدث عنها تقرير لجنة التحقيق والذي تجاوز عدد صفحاته الألف صفحة، لكننا بكل تأكيد حريصون على إيضاح موقفنا للرأي العام بصورة اكثر وضوحا، فملف التأمينات بقي على الدوام ملفاً مهماً بالنسبة لنا، وتحديداً منذ أن تقدّم رفاقنا في “كتلة الشعب” ومعهم أعضاء برلمان 1973 بقانون التأمينات الاجتماعية الذي بدأ العمل به منذ العام 1976، أي بعد حل المجلس الوطني حينها، كما تابع الشارع البحريني الموقف الصلب ل”كتلة النواب الديمقراطيين” في الفصل التشريعي الأول بعد استئناف الحياة النيابية، الداعي لوقف التلاعب بأموال ومقدرات المتقاعدين والمشتركين في هيئة التأمينات الاجتماعية، ووقف كل اشكال العبث غير المسؤول بأموال التأمينات الاجتماعية ابان لجنة التحقيق البرلمانية الأولى في برلمان 2002- 2006 .

وها نحن في كتلة “تقدّم” نساهم بجهد وافر هذه المرة في ما توصلت اليه لجنة التحقيق البرلمانية الثالثة عبر تقديمنا لمرئيات الكتلة، طارحين من خلالها حلولاً ومقترحات لإنقاذ التأمينات الاجتماعية وصناديقها التقاعدية مما ينتظرها من تراجعات وعجوزات وافلاسات تلوح في الأفق، متمنين أن يتمّ التعامل الرسمي هذه المرة مع ما طرحناه من حلول بالجدّية المطلوبة، وأن لا تركن تلك المقترحات والتوصيات جانباً مثل سابقاتها، بل يجب أن يتم الأخذ بها حفاظا على ديمومة واستمرارية الصناديق التقاعدية ومصالح المشتركين والمتقاعدين.

وباعتقادي أن تشكيل ثلاث لجان تحقيق خلال أقل من عشرين عاماً، يفصح بشكل واضح عن حجم القلق والمخاوف التي تنتاب الناس حيال مستقبلهم المعيشي والتقاعدي، معولين على ضرورة طمأنة الناس من متقاعدين ومشتركين في نظام التأمينات الاجتماعية على كفاءة وحسن إدارة أموالهم واستثمارات الهيئة، عبر قرارات وسياسات يجب أن ترسم بغرض تنمية تلك الاستثمارات والأصول بما يعود على أصحاب المصلحة من متقاعدين ومشتركين وعلى الاقتصاد الوطني والوضع الاستثماري في البحرين بمزيد من الفرص الاستثمارية الواعدة والتي يجب أن تقدّم بالفعل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني وبما يحقق الاستقرار والنماء لتلك الصناديق التي آن الآوان لأن تدار بشكل حرفي ومهني وبعيدا عن أي ارتجال أو إملاءت او توجيهات غير مدروسة.

اقرأ المزيد

الدولة المدنية في البلدان العربية

كثيراً ماكُتب عن الدولة المدنية وأهميتها، وهل تختلف عن الدولة العلمانية أو تتقاطع وتتداخل معها في كثير من المقومات والشروط، وماهو النموذج الافضل لبلداننا في الخليج والوطن العربي عامة، الدولة المدنية أم الدولة العلمانية، فالأولى تبدو مقبولة من بعض التيارات الفكرية والسياسية في بلداننا التي ترفض أي توجهات علمانية لأسباب عدة، وبعض الأحيان ممكن تتغنى بشعار الدولة المدنية وهي لا تؤمن به، ولكن لمقتضيات الحاجة والضرورة، ولمسايرة الأطراف الأخرى في المجتمع، وربما لتعزيز التحالفات مع بعض من القوى المدنية والعلمانية لصالح تحقيق أهدافها الاستراتيجية البعيدة، ونجد مثالاً واضحاً في ذلك أداء حزب النهضة “الأخوان المسلمون” في تونس، الذي يتعاطى مع الأمور ببراغماتية هناك، لكي لا يخسر مواقعه السلطوية مستفيداً من تجربة الأخوان المسلمين في مصر، متحاشياً تكرار سيناريو ماحدث هناك، فيعمل بالتكتيك السياسي ليخدم الاستراتيجية، حدّ القبول بفكرة الدولة العلمانية طالما تحقق أهدافه البعيدة المدى .

هل يمكن الدولة المدنية أن تتحقق في بلداننا الخليجية والعربية بعيداً عن حسابات وأهداف القوى الإسلامية بكل الألوان والتنوعات المذهبية التي ممكن أن تتفق عليه؟، إذا كانت السلطات الحاكمة تريد إحداث التغيير والإصلاح والتصدي لقضايا الفساد وسارقي المال العام والتوجه نحو بناء دولة القانون والمؤسسات والمشاركة الفعالة للمواطنين في القرار السياسي من خلال تشكيل المجالس النيابية والبلدية المنتخبة صاحبة الصلاحيات الواضحة، تضع حجر الأساس لولادة الدولة المدنية، التي لها مقومات رئيسية لا يمكن تجاوزها مثل السماح بحرية الرأي والتعبير والحريات العامة ووجود صحافة حرة وتشكيل منظمات وهيئات المجتمع المدني “الأحزاب السياسية، الاتحادات العمالية النقابية والنسائية والطلابية والثقافية”، ومشاركة المرأة في الحياة السياسية، التسامح والتعايش بين أفراد المجتمع والدولة، وبدون ذلك لا يمكن أحداث التغيير والإصلاح الجاد في أي بلد خليجي أو عربي.

ربما يقول قائل إن الأمور تأتي خطوة خطوة، ولا يمكن للتغيير أن يحدث دفعة واحدة في بلداننا التي يغلب عليها الطابع القبلي والأبوي، وهي محكومة بالعادات والتقاليد ولم تتطور فيها علاقات الإنتاج، وتترسخ فيها مفاهيم الحداثة والتغيير الجذري، واقتصادها ريعي غير منتج، ولكن عملية التغيير لن تحدث سواء كانت سياسية أو اقتصادية، إذا لم يسبقها تغيير في مناهج التعليم، لتواكب هذا العصر وتطوراته وأحداثه، ففي بعض البلدان الخليجية تشكل مناهج التعليم الحالية عائقاً لما تحتويه من معوقات في إحداث الإصلاح والتغيير المنشود، لابد من خطوات عملية في هذا المسار الأهم للارتقاء بالوعي المجتمعي، ومن ثم التوجه نحو وضع الأسس الديمقراطية وترسيخ مفاهيم الواجبات والحقوق للمواطنين، وفصل السياسة عن الدين، واحترام كل الديانات والمذاهب وحرية الرأي والمعتقد وعدم التمييز، وتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية، فكلها ركائز أساسية في قيام الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

كتب بعض الباحثين العرب عن الدولة المدنية، كلٍّ حسب فكره وتوجه السياسي يقرأ الواقع في بلاده، فعلى سبيل المثال فإن حسني الخطيب كتب في عام 2018 عن خصائص الدولة المدنية قائلاً: “أهم خصائص الدولة المدنية هو التمييز بين المجال العام والمجال الخاص، وعدم خَلْط الدين بالسياسة، وليس من وظائفها أيضاً مُعاداة الدين كما يذهب إلى ذلك خصومها، لكن من واجباتها وضع مسافة واحدة بينها وبين الأديان، وعدم السماح باستغلال الدين أو استخدامه لأغراضٍ خاصةٍ أو سياسيةٍ، مع تأكيد الاحترام لجميع الأديان وحق الإنسان في العِبادة وممارسة الشعائر والطقوس بحريةٍ ومن دون قيود، وذلك بما يُحدّده القانون العام الحاكِم، أي عدم التجاوز على حقوق الغير.

فيما يقول الباحث المغربي أحمد عصيد :”يدفع أنصار فكرة الدولة المدنية التي لا تعتمد في تشريعاتها على الإسلام كمصدر للتشريع، بأنها هي الضامن للاستقرار وأنها تستوعب معتنقي كافة الديانات المختلفة والتيارات الفكرية المتعددة بعكس ما يمكن أن تفعله دولة تقوم على أسس دينية أو يحكمها الإسلام السياسي. وفي حواره مع DW عربية، يقول عصيد : “إن الإطار السياسي الوحيد الذي يمكن من خلاله وجود تعددية دينية أو فكرية هو الإطار الديمقراطي العلماني، أما خارجه فلا يمكن احتواء هذه الصراعات بشكل سلمي “لأن الأنظمة الدينية تغذي الكراهية باسم الدين، بعكس الإطار العلماني الذي يساوي بين المواطنين”.

أما الباحث المصري أحمد بان، فيرى أن المشكلة الحقيقية هي في بنيوية تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي والتي لديها خطابان، “خطاب تصدّره للمجتمعات الغربية وللنخب الليبرالية والعلمانية وتتحدث فيه عن فكرة التعايش والقبول بالآخر وقبول التنوع وخطاب آخر داخلي فيه تعالٍ على الأفكار الأخرى، وهي نفسها لم تقبل التنوع داخلها لكي تقبل بتنوع آخر”.

هل تصبح الدولة المدنية الديمقراطية في بلداننا فقط فكرة لن تتحقق في المنظور القريب أو فكرة مؤجلة في ظل العديد من المعوقات والموانع، لأن مقومات وشروط قيامها لن تتوفر في الوقت الحالي والمسارات والتوجهات السياسية مختلفة في أكثر بلد عربي تتزايد فيه الخيارات الأمنية ومظاهر الاستبداد والقمع، والتضييق على الحريات العامة والديمقراطية وتنتهك فيه حقوق الإنسان وينتشر الفساد وتزداد أعداد الفاسدين وسارقي المال العام، ويبرز التطرف والغلو وكراهية الآخر في المجتمع.

اقرأ المزيد

تراثنا النسوي ما قبل نوال السعداوي!

تحسست في الكتابة نوع من الفن، وفي الفن ما يشبه فعل الكتابة، إنهما لا يعتمدان فقط على قوة العقل، بل على تلك الطاقة الروحية التي تتسرب إلينا من روح الفنان في لوحاته أو موسيقاه، ويحدث ذات الشيء حين يتعلق الأمر بروح الكاتب. كلاهما يجعلنا ننظر للعالم بدهشة وحس مرهف اتجاه القضايا الإنسانية واتجاه كل ما هو رتيب وعادي من حولنا رغم أنه لا يجب أن يكون عادياً بالنسبة للفنان والكاتب. لم أجد في الكتابة غرضا يعالج المشكلات العلمية في البدء، بقدر ما يعالج المشكلات النفسية والروحية للإنسان طوال تاريخه. أحمل دفترا خاصاً أدون فيه الشعر حين اشعر بالألم، وأكتب النثر حين أشعر بالغربة، وأبحث في تاريخ الإنسان، فعرفت أن العلم والأخلاق يتقدمان دائماً ليفندا الكذب الذي ينتهك الروح، ويقيد العقل عن السؤال بحبل دائري من المسلمات يلتف حول أعناقنا.

قرأتُ لأولئك الذين قرأوا التاريخ الإنساني بمنهجية مادية تاريخية. منحتني هذه المنهجية القدرة على الاعتراف بحدود الفكر الانساني: الدين، الفلسفة، العلم، اللغة، وكل حدث في تاريخ الإنسان أياً كان، فإن علاقة كل تلك الأشياء بما يحدث على الأرض أكبر بكثير مما يحدث في السماء، بل نحن نفهم ما في السماء من خلال حدود الأرض التي نسكنها، ولو غبت عن هذه الحدود لتغيرت السماء وتغيرت أسماؤها وطريقة نظرك إليها. ولأن القراءة المادية التاريخة تجعلنا نفهم حدود كل فكرة وكل حركة تاريخية فهي بالتالي تفتح الباب لعقلنا أن يحكم على الأفكار خارج نطاق التقديس، ولمشاعرنا للتعامل مع القضايا الإنسانية بشكل أكثر حرية وموضوعية.

أُكِنُّ مشاعر حب عظيمة لنساء عظيمات في حياتي، أولهن أمي التي تعبت في تنشئتنا وصبرت على تربيتنا، وأيضاً زوجتي التي قررت أن تعتمد على نفسها مبكراً وتتحمل جزءً من المصاريف الجامعية عن والدها. وبالرغم من أنني لا أفضل أن أنجب أحداً لهذه الحياة، لكن إذا قدِّر ذلك فإني أفضل أن تكون ابنة قوية وليس ابناً كما يحلم معظم الآباء. أجد الحب أنثويا، وأجد المرأة أكثر احتضانا لخصائصه، فهي الأكثر عاطفة والأكثر تعبيرا عن ضعفها الإنساني أمام المواقف التي تتطلب المحبة والرحمة، وربما هذا هو مصدر قوتها الذي نفتقر للقدرة على الاعتراف به. إذا كتب لهذه الابنة أن تجيء يوماُ فإني أريد لها أن تكون حرة، بعيدة عن الأخلاقيات التي تشجع على التحرش من الباب الخلفي المقدس، أو تحاكمُها على مظهرها أو خياراتها الفكرية.

من حبي لتلكم النسوة في حياتي أحببت كل النساء اللاتي دافعن عن حقوق النساء، ومَقَتُّ تلكم اللاتي يقفن كغصة في حلوقهن. وأنا أقرأ في التاريخ انجذبت نحو أولى النسويات في تاريخنا العربي الإسلامي (زرين تاج) أو قرّة العين القزوينية، كانت فقيهةً، شاعرةً، مُدرِّسةً، وباحثةً في العقائد، كل ذلك في زمن كان الفقه والعلم لا يراد لهما أن يخرجا من مجلس الرجال، تخيلتُها وهي داخلة على مجمع فقهاء فارس منتصف القرن التاسع عشر كاشفةً وجهها وهي تحدثهم عن فقه المرأة، إن كشف الوجه بالنسبة للمرأة أنذاك كان يعد نوعاً من السفور. تخيلت المشهد بينها وبين أولئك الذين سحبت عنهم بساط سُلطتهم، سلطة العلم واحتكارهم لحق التصرف فيه وتفسيره. لم يجابهّا أحد ولم يتمكنوا من رد حججها، فما كان منهم إلا توجيه التهمة التاريخية الجاهزة لأمثالها “الهرطقة والخروج عن الدين” فوضعت تحت الإقامة الجبرية، ثم قُتلت.

أحببت الرجال الذين نظروا للمرأة كروح لا جسد، أحببت ابن عربي الذي رأى بأن كل ما يصلح للرجال فإنه يصلح لما شاء الله من النساء، وقال: “إن الرجال والنساء يشتركان في جميع المراتب حتى في القطبية –وهي أعلى المراتب العلمية في التصوف- ولما اصطدم بالحديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة رد ذلك بقوله: إننا نتكلم في تولية الله لا تولية الناس”[مدارات صوفية ص87] وكان ذلك في زمن يردد فيه الناسُ مقولات مثل: “جنبوهن الكتابة والقراءة” كيف لا وقد درس على يد شيخته فاطمة بنت المثنى زماناً وأكن لها احتراماً وتقديراً كبيرين. وفي الوقت الذي كرر فيه الآخرون من شعراء وفقهاء: “إنَّ النّساءَ شياطينٌ خُلقنَ لنا ” كان جلال الدين الرومي يدافع عن مشاركتها للحياة العلمية والعملية، يقول في كتاب فيه ما فيه: “أنت ليلاً نهاراً تحارب طالباً تهذيب أخلاق المرأة وتطهير نجاستها بنفسك، أن تُطهر نفسك بها خيرٌ من أن تطهرها بنفسك”[فيه ما فيه: الفصل العشرون].

لقد صرح الرومي قبل أكثر من سبعة قرون بأن احتجاب المرأة عن الحياة إنما هو إفساد لمن يظن أنه يُصلح، لأن المسألة هي مسألة تربية جوهر الإنسان وليس قطيعة واحتجاب وعزلة، ذلك نوع قسري يفرض تهذيبا شكليا لا يحترم الذات الإنسانية، ففي نص آخر من ذات الكتاب يقول: “كلما أمرت المرأة أن احتجبي ازداد تلهفها إلى أن تظهر نفسها، وازدادت رغبة الخلق بتلك المرأة. وهكذا تجلس أنت في الوسط، وتزيد الرغبة عند الطرفين كليهما، وتظن أنك تصلح. ذلك عين الفساد. إذا كان لديها جوهرٌ يمنعها من أن تفعل فعلاً سيئاً، فسواء منعتها أم لم تمنعها ستمضي وفق طبعها الجيد وجبلتها الطاهرة…وإذا كانت على عكس هذا، فستظل تمضي في طريقها أيضاً، لا يزيدها المنع إلا رغبة على الحقيقة”[فيه ما فيه: الفصل العشرون]. قد يصدم البعض سماع هذا من رجل مسلم عاش في القرن الثالث عشر، لأننا اعتدنا على ترديد مقولات رجال الدين. للمرأة عند الأقطاب موقع أفضل مما هي عند رجال الدين، ولا يصدمك حين تقرأهم ما يصدمك حين تقرأ رجال الدين من أمور تمس المرأة وجوهريتها. لقد نظر الرومي لحجاب المرأة على أنه أمر جوهري وليس قطعة مادية، وهكذا نظر لآية الحجاب وإلى الله الذي خلق الإنسان وميزه بالعقل عن سائر المخلوقات. وإنه لمصيب تماما في فهمه للدين الذي يرتقي بالإنسان ويعبر عن تكريم الله له، وفهم الإنسان لمقاصد الله.

وُصفت قرة العين بالهرطقة وأُعدمتْ، لكنها في الجانب الآخر تسمى الطاهرة، واتخذها البابليون واحدة من ضمن أكثر الشخصيات قدسية، وبسببها تحتل المرأة مكانة رفيعة في البابية. ووُصِفَ ابن عربي في بعض الدوائر الدينية بالزنديق، والكافر الضال، ليس نتيجة رؤيته للمرأة، بل نتيجةً للطريقة التي رأى فيها لله على أنه الواحد الكثير في تجلياته، والحاضر بأسمائه في كل مِلَّة، فلم يحتمل ضيق الله في أذهان البعض تلك السعة الإلهية عند ابن عربي، فهو يمثل في الجانب الآخر وللكثير من الناس داخل التصوف وخارجه قدوة حسنة وقطب من أقطاب الله، وواحداً من ضنائنه على الأرض.

إن سفر العقل هو سفر الآحاد، لا تسافر الجماعات نحو الحقيقة. في يوم وفاة نوال السعداوي أذكر كل هؤلاء وإن كانوا يختلفون معها في الطريق، وفي بعض القيم، إلا أنهم كلهم نالوا ما نالت وعانوا ما عانت نتيجة دفاعهم عن حقائقهم، فرغم ازدراء الكثير وتصفيق الكثير، إلا أنها كانت كما أرادت أن تكون، لا تعيش حياة مزدوجة واحدة في الخفاء وأخرى في العلن، فذلك عندها مناقض للشرف. وذنبها كذنب أولئك أنها تكلمت بحقيقتها في زمان أراد لها أن تصمت وتذعن، ولكن التاريخ يثبت أنه ليس من نصيب هؤلاء إلا الخلود.

اقرأ المزيد

صدمة الغياب

عن دار السكرية للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة، صدر للشاعرة والقاصة البحرينية نعيمة السمّاك ديوان “نهارات فاطمة”، وهو الإصدار الرابع للشاعرة، بعد “طقوس امرأة – شعر، 2005″، “أيام خديجة – قصص، 2008 ، “سأحدثكم عن مريم – قصص – 2017″، ومن الديوان الجديد ننشر هذه القصيدة.

فرحتُ بكن
أنا أم لثلاث إناث
لكن أبيك غادر
فحطّ بقلبي حزن
يفوق العشرين عاما التي كنت
بعده لم أجد صدراً للبكاء
يجنُ عليّ الليل
لا شيء سوى الحزن
الليالي تطول
أسائل الجدران
يعود عبيد؟
فيرتدُ صوتي وحيداً
أأبق هنا إلى الآبدين
يزدرد البيت حزني
يشبع حتى الثمالة منه
أأبق هنا إلى الآبدين
دون رجل
دون زوج
دون أب
يمتدُ
يكبرُ حتى يخبُ عليّ
أقاسمه الحوش
الليوان
أواني الطهو والسدرة الكهلة
أرميه حَبَّا لدجاجات البيت
يضيعُ عساه
ويصغرُ حتى لعلي أنسى
أيا فاطمة: كفي
تواصل سردا مديدا، مديدا

اقرأ المزيد

الفن والتغيير

يمكن للفن أن يُغيّر المجتمع ويمكن له ألا يغيّره، وفي الحالة الأولى إن تهيأت له الظروف الموضوعية، فإنه يسهم في إحداث التغيير حيث أرى أن الفن كان له دور واضح وملموس في تغيير أنماط من سلوكيات افراد المجتمع، والعكس صحيح أيضاً، فحين لا تتوفر هذه الظروف لا يستطيع الفن أن يغيّر.

وقد كتب برتولت بريخت عن هذه الخاصية في الفن، التي تحرر نفس الانسان حيث قال: “إن مسرحنا يجب أن ينمي لدى الناس متعة الفهم والإدراك، ويجب أن يدربهم على الاغتباط بتغيير الواقع، لا يكفي أن يسمع متفرجونا كيف تحرر بروميثيوس، بل يجب أيضاً أن يتدربوا على تحريره والاغتباط بهذا التحرير، يجب ان نعلمهم في مسرحنا كيف يشعرون بكل الفرحة و الرضا اللتين يشعر بهما المكتشف و المخترع، وبكل النصر الذي يستشعره الفائز على الطغيان”.

و تأييداً لرأي بريخت أرى أن هناك فئة في المجتمع من المستحوذين على السلطة والثروة لا تهيئ الطريق لإنطلاق الفن الذي يسعى لخدمة وتغيير المجتمع، لان الفن – كما عرفناه ولمسناه – عملٌ راق وسامٍ يتضارب مع مصالحها الاقتصادية، أما الفن الذي تروج له تلك الطبقة من المجتمع فلا يعدو كونه عملاً تهريجياً وتسلية ليس إلا.

مما سبق، نؤكد على ضرورة إعطاء الفن دفعات إيجابية ليأخذ دوره المناط به، كما أشار إليه بريخت، والذي رأى أيضاً: “ان النظرة الجمالية السائدة في مجتمع يحكمه صراع الطبقات يتطلب أن يكون الأثر المباشر للعمل الفني هو إخفاء الفروق الاجتماعية بين المتفرجين، بحيث تنشأ منهم اثناء استمتاعهم بذلك العمل، جماعة لا تنقسم إلى طبقات وانما تكون وحدة إنسانية شاملة”.

ونستنتج من ذلك أن الفن سلاح إيجابي للتطوير، وقادر على إحداث التغيير والتقدّم، إذا ما لم توضع العقبات أمامه.

اقرأ المزيد

العرب والحداثة

لماذا فشل مشروع الحداثة في العالم العربي، وهل يتحمل المثقفون العرب المسؤولية؟
جاءت الإجابة من أحد المفكرين العرب بالقول: “نعم لأنهم لم يتجرأوا علي مواجهة التراثيين. حتي طه حسين تراجع عن مشروعه بعد أن هيج الاصوليون الشارع ضده وفصلوه من الجامعة”، أما البعض الآخر فإنهم “قنعوا بالحياة شمساً ومرعى.. واطمأنوا للماء في الغدران”، كما قال الشاعر الكبير نزار قباني.
وبالنظر الي ما شهدته أوروبا من مواجهات ومحاكم التفتيش للفلاسفة والمصلحين في العصور الوسطى بما سميت بالثورة اللاهوتية الأوروبية، ففي الواقع العربي لا يزال المثقفون في أبراجهم العاجية مكتفين بالتنظير دون التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. هناك دعوات لاطلاق مصالحة بين الدين والحداثة لمواكبة العصر والمصالحة التي ننشدها لا تتم بالاكراه لكن تحدث بقناعة ذاتية محضة.
بابا الفاتيكان في العصور الوسطى قال “الإيمان لا يفرض فرضاً علي الإنسان من الخارج.. واذا لم يكن نابعا من الداخل فلا معنى له”، وأحدثت صرخة البابا نقلة هائلة وتحولاً في الذهنية الأوروبية حيث فتحت حوارا مع الآخر المختلف فكريا وثقافيا، وباعتبار أن أمتنا تشهد حوارات الأديان والثقافات فالأولى، بل الأجدى، هو إقامة حوارات داخلية لتوحيد الرؤى.
أوجز المفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري بعبارة قصيرة وبليغة رؤيته للوضع العربي اعتقد انها تلخص الواقع بقوله “إننا كمسلمين لدينا أفضل المبادئ لكننا نعيش أسوأ الأوضاع “. ولا مخرج لنا من هذه الوضع المتردي من خلافات فكرية وثقافية ودينية إلا بتشخيص أوضاعنا عبر رؤية موضوعية تتقصي جذور المشكلة، ولا أظن أنها تستعصي على العلاج . إننا كأمة مسكونون بوهم يعشعش في تلافيف ذاكرتنا بأننا “أمة مهزومة وأننا خارج التاريخ “..ولن تقوم لنا قائمة بعد النكسات العسكرية والحضارية حتى بتنا في آخر قاطرة الركب الحضاري ..مما حدا بأحدهم الي إطلاق مقولته “أن العرب أمة منتصرة لكنها تندب حظها العاثر”.
يبدو أن الرؤية التي استند إليها الكاتب تكمن في إعادة الثقة بالنفس وقدرتها علي تجاوز أزماتها أولاً. الروائي الروسي الكبير تولستوي يقول “ليس هناك فرد ضعيف لكن ثمة من يهمل مواطن القوة لديه”، وعندما تتحسس مواقع القوة في عقل الأمة فإنها متوافرة متجددة في الطاقات الفكرية والعلمية عندها يمكن أن نبدأ الانطلاق والجميع مدعو للمشاركة في البناء ولا عذر لمن يتخلف .
ثمة أمر في غاية الأهمية يكمن في مراجعة التاريخ والمراجعة يتوجب أن تكون شاملة والمثال أيضا أوروبا، عندما قيض لها من ينتشلها من سباتها عندما كانت نحوها العقليات البابوية. الانطلاقة بدأت بعصر التنوير أولاً ومن ثم النقلة الكبرى إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة.
يتساءل الكاتب العربي المقيم في فرنسا هاشم صالح: “أين هم المفكرون في دولنا العربية الذين يمكن الرهان عليهم للخروج من هذا الواقع؟ أين هو فولتير العربي؟ وأين هو كانت ؟ وسبنونزا ؟ وهوجو واركون؟”.

اقرأ المزيد

التوصية رقم 47

قضيتان شغلتا الشارع مؤخراً؛ مكتسبات المتقاعدين ووضع صناديق التقاعد المخلخل، والأخرى تزايد العاطلين عن العمل وعلو شكواهم من غياب التوظيف المناسب لمهاراتهم وتأهيلهم العلمي. وكلا القضيتين حلهما مرتبط بالآخر.
لجنة التحقيق البرلمانية التي قدّمت تقريرها مؤخراً بعد 4 أشهر من الزيارات والاجتماعات واللقاءات تمخض عنه ما يقرب من خمسين توصية رفعها المجلس للحكومة لتطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع حفاظاً على ما تبقى من أموال المتقاعدين والمشتركين، التي لم يكفّ الخبير الإكتواري عن التلويح بنفادها قريباً وقريباً جداً.
وكان من ضمن تلك التوصيات الساعية إلى إعادة وضع صندوق التقاعد في مأمن عن خطر الافلاس التوصية رقم 47: “زيادة عدد المشتركين من العمالة الوطنية في صناديق التقاعد، وذلك من خلال توظيف العاطلين”. فإحدى وسائل رفد الصندوق بالموارد اللازمة التي من خلالها يستطيع مغادرة المنطقة الحمراء تضرب عصفورين بحجر واحد.
الغريب أن العاطل عن العمل يعاني بحثاً عن فرصة ومنفذ لسوق العمل، والموظف يعاني خوفاً من غده، وما إذا كان يستطيع أن يتقاعد قبل أن يباغته المرض والموت، وصغار مرتادي الأعمال يعانون بسبب التنافس غير الشريف بينهم وبين كبار السوق من جهة، وبين القرارات الوزارية التي تساوي صاحب مدخول خمسين دينار وصاحب الأرباح المليونية من جهة أخرى.
والمتقاعد يعاني الأمرّين، مرٌّ لقوت يومه ومعاشه التقاعدي الذي يتآكل ويصبح في مرمى الداعين إلى إصلاح صندوق التقاعد عبر بوابة جيوب الفقراء، والمرُّ الآخر الذي يعانيه هذا المتقاعد هو ما يحمله في رقبته من أبناء يعانون، بدورهم، كونهم مشمولين بما سبق ذكره، فمن بات لا يعاني إذاَ؟ سؤالٌ ذو شجون.

اقرأ المزيد