المنشور

سحر الكلام

قبيل أيام شاهدت بالصدفة لقاء تلفزيوني قديم بُث على قناة دبي زمان، استضافت فيه الإعلامية بروين حبيب الممثل السوري أيمن زيدان، شدّني اللقاء وتابعته حتى النهاية، ذُهلت حقا من براعة ضيفها في الكلام، وتمكنه من الإجابة بمنتهى الرشاقة على كل سؤال ُطرح عليه. بدا كمن يصد السهام عن نفسه دون أن ترمش له عين. اللافت في أجوبته الواثقة هو أنها إما ذات قيمة معرفية، أو بها إشارة ثقافية فنية أو تاريخية مهمة، حتى وإن وجه إليه سؤال شخصي عن طفولته وذكرياته كان يجيب عليه بشكل أخاذ.
بعيد هذا اللقاء رحت أستذكر بعض المقابلات التي شاهدتها على مدى أعوام وماهي الانطباعات والأقوال التي ظلت في ذاكرتي لتلك الشخصيات. وهذا شأن الذاكرة ولا دخل لي بذلك، هي تخلد ما تختار وتحذف ما لا تجده مثيراً! تأملت كيف كان الكلام يتسلل من أفواه الفنانين أو الشعراء أو الأدباء أو حتى بعض السياسيين.
إن اللقاءات التلفزيونية الحوارية والتي تتم وجهاً لوجه، كلاسيكية وقد لا تثير أبناء هذا الجيل، لكنها تبقى وسيلة تواصل مهمة بقدر ما تكشف عن جوانب، نوايا، ومعلومات تسكن فكر ووجدان المرء، معلومات قد لا تلمسها في الكتب، لكنها تنساب من بين أطراف الكلام.
لطالما وجدت متعة كبيرة في مشاهدة الحوارات مع العديد من الشخصيات باختلاف توجهاتها ومستوياتها الفكرية. حوارات تكاد تنقرض في عصرنا الراهن، مما يضطرني الأمر للتفتيش عنها عبر اليوتيوب أحياناً. وكم أستأنس حينما أقود السيارة وحدي، ويبث صدفة حواراً قديماً عبر البي بي سي الإذاعية.
بالرجوع لزيدان، استطعت مثلا أن ألتمس مدى اطلاعه وخبرته في مجال الفن والحياة بشكل عام. وبهذا بدا لي أكثر اقناعا كفنان لأن دوره لا يتمثل في تقمص الأدوار المسنده إليه فقط، بل في كونه يفهمها جيداً، ويدرس ظروفها وما يحيط بها اجتماعياً وسياسياً، معتبرا كل دور أداه بمثابة رسالة هامة يجب أن تصل المشاهدين وتؤثر بهم.
في أحد ردوده قال زيدان متهكماً: (نعم، لم يلق مسلسل “أخوة التراب” سيطاً واسعاً لأنه يبدو أن الناس غير مهتمة بقضايا التاريخ العربي، لكنهم وجدوا أموراً أكثر أهمية لعرضها على الشاشة). وفي تحدثه عن نشأته قال: (أنا تربيت ونشأت ضمن نسيج اجتماعي بسيط، حياتنا كانت تتسم بالبساطه، لدرجة أنه عندما فتح محل لبيع الساندويشات في الحي الذي كنت أقطنه، اعتبر أهل الحي هذا أمر جلل، فإذا تمّ ضبطك تشتري ساندويشه من ذاك الكشك المغطى بالستائرفأنت في عداد المتكبرين.. وروايتي لهذه القصة ليست غزلاً في الماضي لكن بي حنين شديد إليه).
لا شك أن كلاماً كهذا يجعلك واقعاً في شباك هذا الفنان، وستحظى أعماله عندك باحترام وفضول كبيرين. يحضرني أيضا هذا القول من إحدى مقابلات المفكر إدوارد سعيد قال فيه: (أنا أعيش في أمريكا منذ أكثر من خمسين عاماً، لكني لا زلت لا أشعر بأي انتماء لهذا المكان). لعلي نسيت جزءاً كبيراً من هذا اللقاء لكني احتفظت بهذه العبارة، وكما أشرت سلفاً ذاك شأن الذاكرة.
من بين اللقاءات الجميلة التي لا تمل كانت مع الفنان الراحل عمر الشريف، حوارات صريحة بلا تزييف أو مبالغة في القلق من الكلام، يتحدث بكل شفافية عن تجربته ولا يتوانى في ذكر بعض قصصه الشخصية بشكل كوميدي خفيف بلا أي تصنع، وتبرز (مصراويته) في أغلب لقاءاته رغم إنه فنان عربي نجح في بلوغ هوليود، لكنه لا يتوانى أبدا في الحديث عن مصر الأم ومدى فخره، وولعه بها. كما أستذكر حواراً قديماً للشاعر الأمريكي الراحل بيكوفسكي، سألته فيه المذيعة: “ماهو الحب؟”، فرد قائلاً: (الحب: هو الضباب الذي تلمحه في السماء قبل شروق الشمس، لكنه يحترق، يختفي ما إن يظهر أول ضوء في الصباح).
على ضفة أخرى هنالك لقاءات مخيبة للآمال، تحوّلت شخصياتها عندي لحالات غير مقنعة بعد الكلام. في أحد اللقاءات قال الفنان الراحل ملحم بركات عندما سألته المذيعة عن المرأة وكيف لها أن تحافظ على علاقتها بزوجها، ردّ بنبرة متعصبة وساخرة: (المرأة هي التي تحافظ على جمالها وتعمل رياضة وتنظف ورا أذنها، نعم المرأة هي نظافة وجمال!!) وكأنه بهذا الرد مندوباً يعمل لصالح شركة صابون الجسم.
وفي ردّ مستفز آخر أجابت الفنانة نجوى كرم عن سؤال حول حقوق المرأة فقالت: (أيه ما لازم حقوق المرأة تزيد عن حدها، المرأة الحقيقية هي اللي بتنظف البيت وتشتغل ببيتها وتطبخ لزوجها وتلبي طلباته وتشوف الأولاد!). والحق يقال إني لا أستطيع تجاوز هذا النوع من التصريحات، ولا فصلها عن شخصية الفنان الذي يغني مزهواً بنفسه على المسرح لكنه يعاني خواء على المستوى الفكري. عندي هو سبب كافي لأن يتجرد هذا الفنان من رداء الفن.
وكما قال سقراط: (تكلم حتى أراك).. نخلص إلى القول بأن أهمية الكلمة تبرز في ترسيخ مكانة الفرد، سيّما إذا ما أراد لنفسه أن يكون فناناً أو شاعراً أو أديباً. ما يعني أنه سيكون فريسة سهلة للانتقاد، كل جملة سيتفوه بها قد تخلق انطباعا حسناً أًو سيئاً عنه، وعليه أن يدرك كيف له أن يستغل موقعه في التأثير بالكلام. هذا الكلام الذي قد يرفع من شأنه، ويعزز صورته الإعلامية.
الحقيقة أن مشاهدة الحوارت رافد ثقافي جيد للتعرف على شخصيات كثيرة عن قرب، سيما حين لا تتيح لك انشغالات الحياة مجالا كافياً لقراءة الكثير من الكتب. تلك محاولة لقراءة وفهم تفكير شخصيات متنوعة، التعرف على فلسفتهم في الحياة، أرائهم حول قضايا واعتبارات تجري على الساحة. لكن الحديث مهارة، والكلمة قوّة، ولعل سبب عزوف بعض الشخصيات عن إجراء حوارات هو الجهل أو الخوف من سحر الكلام.

اقرأ المزيد

حول حجب صور المتفوقات

العصا (المثنى عَصَوَان؛ الجمع عُصِيّ وعِصِيّ) هو عود من الخشب يتوكأ عليها ويهش بها على الغنم، تلعب العصا دوراً كبيراً في حياة الناس ففي صغرهم يكون دورها للتباهي أو لإظهار القوة وللدفاع عن النفس، وغير ذلك من الاستعمالات.

يستخدم العديد من الإسلاميين في حواراتهم ونقاشاتهم مع التابعين لهم أو المختلفين معهم في الثقافة والفكر الدين/ الشرع (القرآن والسنة النبوية) كعصا غليضة تُرفع في وجه من يُحاججهم ويتباين معهم حول مسائل عديدة في الحياة.

على سبيل المثال، عندما يكون النقاش حول شكل النظام السياسي للدولة ويطرح الكثيرون رأيهم بضرورة اللجوء إلى النظام الديمقراطي يخرج علينا رجل دين يرعد ويزمجر بوجوب تطبيق النظام الإسلامي وليس لكم خيار في ذلك لأن هذا ما دعا له الله سبحانه وتعالى. لكن في الواقع أي شرع ونظام حكم إسلامي سيُطبق؟ هل هو نظام حكم الأخوان أم نظام حكم ولاية الفقيه أم نظام حكم السلف أم نظام حكم طالبان؟!

هكذا أيضاً في مثال آخر، عندما يدور النقاش حول لباس المرأة وإبراز أجزاء من جسدها يأتي رجل دين ويطرح خطاب يريد فيه إجبار النساء بلبس غطاء الوجه أو لبس العباءة السوداء أو لبس الجوراب لليدين والقدمين أو يرى حرمة وضع المساحيق على الوجه، وعندما يختلف مع أحدهم يقول له: هذا ليس رأيي ولا وجهة نظري، إنما هذا كلام الشرع وكفى.

العقليتان الدينية – المتشددة – والأبوية الذكورية المتخلفة تتقاطعان في النظر إلى المرأة كجسد وكعورة بالكامل، ولذلك يجب حجبها عن الرجال والمجتمع العام بقدر الإمكان. فمن الأفضل أن تقبع في بيتها خدمةً لزوجها وأولادها، أو أن يُختزل وجودها في المحيط النسوي الخالص. من هذه العقلية تنطلق الدعوات باسم الدين والشرع في منع نشر صور المتفوقات في وسائل الإعلام المختلفة. فالمرأة التي أصبحت وزيرة وقاضية ومعلمة ومهندسة وتشارك الرجل في العمل على نهضة المجتمع في كافة مجالات الحياة ليس لها الحق في نشر صورتها كمتفوقة في دراستها!

في الواقع مفردة الشرع هنا تخضع للفهم البشري للقرآن والسنة النبوية وهي متعددة بحسب مستويات عقولهم وأفهامهم وتنوع بيئاتهم واختلاف مراحلهم التاريخية. لذلك ليس من الموضوعية أن يأتي أحد رجال الدين أو الإسلاميين حين يُريد إقناع الآخرين في مسألة ما بقوله أن ما يطرحه هو الشرع ذاته وعينه وليس هو رأيه وفهمه.

علينا أن نُدرك جيداً أننا نعيش في مجتمعات متنوعة على المستوى العرقي والديني والاجتماعي والثقافي، حتى في دائرة الدين والمذهب الواحد توجد تباينات من الناحية الفكرية، فكيف إذاً خارج هذه الدائرة. إننا حين ندعو ونناضل من أجل نشر الديمقراطية والحريات السياسية والدينية والفكرية والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان الدولية، ونقف ضد الاستبداد والظلم، علينا أن نكون منسجمين مع مطالبنا وشعاراتنا اتجاه أنفسنا واتجاه الآخر المختلف معنا.

اقرأ المزيد

عن الحب المطلق

أغلب الأدباء أوفياء لطفولتهم، إنها مخزن كبير لتغذية أعمالهم الأدبية، وهي المكان الفريد الذي يجعلهم يشعرون بفرادتهم عن غيرهم، خارج تلك الطفولة تلتقي دروبهم في محطّات متشابهة، وإن اختلفت في بعضها، فإنّها تمضي في طريق مشتركة يسلكها البعض معا، لكنّ المتفق عليه، أن فضاء الطفولة ذاك، يبقى مثل أرض خصبة تكلّله الأمهات بعنايتهن وطيبتهن، وتضحياتهن وسلوكهن الذي يقرر مصائر أبنائهن.
لنقل إنه الحب الأول والدّائم والأخير لكل كاتب وشاعر وفنان. وهو حب لا يمكن اختصاره في النصوص المراهقة التي تشهد على تغيرات أجسادنا لدخول مرحلة البلوغ. حب الأم وما يحيط بها من مكوّنات الطفولة يصبح درعنا الحقيقي وربما الوحيد لمواجهة حياة بأكملها.
يختلف الأمر حين يعيش الشخص في كنف أمّه وعالمها، عن العيش في عالم بعيد عنها. كُتّاب كثر ظلّوا في طفولتهم وهم في عمر متقدم، وكتبوا نصوصا طويلة تكريما لأمهاتهم، خاصة عند اصطدامهم بالشعور باليتم وقد تجاوزوا الخمسين أو حتى السبعين.
الأكيد أن ارتباط الأدباء بأمهاتهم فيه سرُّ كبير معقّد، بيولوجي وروحي. وحين يكتبون في هذا الموضوع فإنّما يعيدون النظر في ماضيهم، يفكّكون شيفراته، ويحاولون فهم كل ما حدث لهم في تلك المرحلة المبكرة من حياتهم، ومن الغرابة أن خبايا كثيرة تطفو على السطح، وتصبح واضحة ومفهومة، حتى أن بعضهم يتحرّر من سطوة طفولته عليه، فيخرج من معتقله الطويل بعد عملية الكتابة تلك. البعض الآخر يجد مواساة لنفسه، فيما قسم كبير يرمم خساراته وفق ما عاشه من حياة مشتركة مع تلك الحبيبة الأولى …
ثمة اعتبارات مختلفة للكتابة عن الأم والطفولة العميقة. إنّها تمرين غير عادي لخوض الكتابة، أو لنقل أقسى تلك التمارين على الإطلاق. وأستعيد هنا تجربة الكاتب النسماوي بيتر هاندكه، التي أودعها في روايته “الشقاء العادي” (ترجمة بسّام حجار)، في خريف 1971 تبلّغ الكاتب خبر وفاة والدته انتحارا، كان في التاسعة والعشرين من عمره، وكانت في الواحدة والخمسين. انتحرت بعد حياة من الكدّ والوحدة. إبنة مزارعين سلوفينين متواضعين، حلمت بالتعلّم، ولكن الأقدار رمتها في مطابخ أحد الفنادق.
عدة أسابيع موت موتها، جلس هاندكه إلى نفسه، وأعاد بناء حياتها البسيطة. كانت تلك أولى محاولاته لمنحها صوتا هي التي عاشت حياتها عاجزة عن الكلام والتعبير. ما جعل الشعور بعدمية وجودها يلازمها إلى لحظة إنهائها حياتها.
تركت رسالة مؤلمة تقول فيها: “أنا أتحدّث إلى نفسي لأنّه بخلاف ذلك لا يمكنني قول أي شيء لأيّ شخص…” ويبدو أن للأمّ لغة أدبية جميلة، وما كل عجزها عن التعبير شفهيا سوى أحد أسباب تفوقها في الكتابة، وهي البذرة التي زرعتها في ابنها، وأثمرت بشكل فاق توقعه.
في مقطع آخر تقول: “أحسّني وحيدة لا رفقة لي سوى الأفكار المحبطة، كنت أودّ أن أكتب عن أشياء أكثر جمالا ولكني لا أعثر على أثر منها”.
ولكي يتوضّح جانب من صورة هذه الأم علينا أن نرى طفولة هاندكه في بيت تتجاذبه الطّاقة السلبية لزوج أمه القاسي في غياب تام لأي حضور لوالدته. جوٌّ عائلي ثقيل غير محتمل، يليه انتقال إلى مدرسة داخلية، ومكتبة فتحت آفاقا مضيئة له.
اهتمام هاندكه بشخصيات الهامش له مرجعية وثيقة بوالدته، بل إن وقوفه ككاتب في المشهد الأدبي أوحى طويلا لقرائه ونقاده ومنتقديه أنّه هو نفسه على الهامش، هذا قبل أن يعيد ترتيب العالم في أدبه وفق وجهة نظره، ويمنح لنفسه ولشخصياته أمكنة مرموقة ذات سلطة قوية فرضت نفسها فرضا.
على عكس والدة هاندكه، كانت والدة رومان غاري لا تكفُّ عن إلقاء دروس النجاح لطفلها، كونها كانت خبيرة في الفشل، وعرفت جيدا كيف يتنكّر للحالمين ويقطف ثمار أحلى فترة من عمرهم.
كل ما أملته من تعليمات لإبنها قبعت في رأسه، وتحوّلت لخارطة طريق، لكن عكس هاندكه تماما، انتحر غاري وليست والدته. وصف حبّه لوالدته بالحب المطلق، في كتابه “وعد الفجر” والذي كتبه لوضع نهاية للماضي الذي رافقه طيلة حياته مع عيني والدته، التي كتب عنها قائلا:” كانت لديها عينان حيث كانت الحياة جيدة لدرجة أنني لم أعرف إلى أين أذهب منذ ذلك الحين”
الكتاب الذي كرّسه لسيرته مع والدته وكفاحها الشرس للصمود رغم قساوة الظروف، حوّله المخرج الفرنسي إيريك باربييه العام 2017 إلى فيلم من أروع الأفلام التي شاهدت.
“مينة” أو “نينا” كما يسميها الفرنسيون، يهودية من أوروبا الوسطى، أفنت زهرة شبابها من أجل تربية ابنها بمفردها، امرأة طريفة، مضحكة أحيانا وساخطة أخرى، مزاجية، ناقدة لاذعة، حققت كل أحلامها بشأن ابنها رومان، فقد تمنت أن يكون كاتبا بحجم فيكتور هيغو، وبوشكين، ونيغينسكي، وسفيرا وبطلا وكان كل أولئك، حتى أنه ابتكر أسماء مستعارة وقّع بها وحقق النجاح نفسه في كل مرة.
عظمة هذه المرأة لا يمكن استخلاصها حتى من خلال المشاهد المؤثرة في الفيلم. بدون أدنى شك كانت في الواقع أكثر عظمة. عانت من مرض السكري، وقبل موتها بفترة كتبت له 250 رسالة ليتلقاها تباعا كما لو أنها حية، إلى أن عاد فعرف أنها ماتت منذ أكثر من ثلاث سنوات” من بين الجمل المؤثرة التي قالها:” في كل مرة تعانقك فيها امرأة يكون ذلك مجرّد عزاء لفقدانك أمك” .
يمكنني الآن أن أنتقل بكم إلى الضفة الأخرى ضفّة أدبنا العربي، حيث الجنّة تحت أقدام الأمهات، وحيث الأم وطن، والأم مدرسة إن أنت أعددها أعددت شعبا طيب الأعراق…
تقريبا نجد الصورة نفسها، وكأن الأمهات صُنعن وفق قالب واحد، فخرجن مثل الدمى متشابهات. من المعرّي إلى كتابنا الشباب، ووصفهن أو توظيف شخصياتهن في السرديات والنصوص الشعرية، كأنّه مُتفق عليه سلفا، خال من أي اقتران بتجراب الطفولة.
تنطبع في ذاكرتنا الصورة الدرامية المقدمة في السينما العربية، بدون تفصيلات، غير تفصيل مشترك “الأبناء يذاكرون والأم تحضر لهم الشاي والساندويتشات”.
تسقط سهوا سنوات طويلة من علاقة وطيدة تربط الفرد منا بأمه وطفولته. ربما تعددت الأسباب لإخفاء هذه المرحلة الحساسة من حياة أدبائنا، لكن نادرون من توقفوا عند تلك العلاقة، حتى في أسوأ صورها.
تروي مارغريت دوراس حكايات عن أمها يستحيل أن يرويها كاتب عربي. إذ يتبيّن لنا ونحن نقرأ نقمتها على أمها، وكراهيتها لها، أنّها دنّست إحدى مقدساتنا. وأذكر في حديث عابر أن أحد الشعراء العرب عبّر لي عن تحوّل حبه لأدب دوراس إلى كراهية منذ قرأ وصفها لوالدتها.
اختصرت دوراس والدتها في أربع كلمات: “مصيبة، حب، ظلم، رعب”. حياتها معها هي وأخويها كانت تدريبا شاقا. وقد انتهت حين أصيبت بالجنون. آني إيرنو تقريبا كتبت شيئا مشابها في كتابها “امرأة”، تجاوز دوراس في وصف بشاعة والدتها. إيرنو وصفت أمها بالخنزيرة، والمتسخة، والمقرفة.
وفيما نقرأ تلك الأوصاف نصاب بألم يخترق قفصنا الصدري ويستقرُّ في قلوبنا. أمهاتنا لسن هكذا، فهناك شيء سحري يحوّل قسوتهن إلى أمر قدري مقبول، طيبتهن تأخذ أشكالاً هلامية يصعب تحديدها، سذاجتهن لا توصف، جهلهن تفصيل في الغالب يغذي قصصنا الفكاهية. أنيقات في الأعراس والمناسبات العائلية، “مبهدلات” كثيرا باقي أيام السنة، يطبخن وينفخن ويسهرن على تنظيف وترتيب البيت وأهل البيت، فيما لا يجدن وقتا لأنفسهن. كنا سببا مباشرا لشقائهنّ. يا للحسرة !
هل سُرقت طفولتنا؟ أم أمومتنا؟ أم أنّ إنسانيتنا شوهت في مجتمعاتنا والسلام؟

اقرأ المزيد

وضَّاءَة

أُحدِّثُها..
وضَّآءَةً أينمَا سَرتْ
وأسْألُها..
والشوقُ عَن جَانبيْ يسعى
وفي كفِّها رُوحيْ..
كمَا الطفلُ..
ناعسٌ بريءٌ..
وفي أحَلامِهِ أملٌ يرعى
وفي الأُفقِ نورٌ..
من سَناهَا تحدَّرتْ..
سنابِلُه الخضْراءْ..
فوق الدُّنا شمْعَا
شرابُ يديها..
من جَناها مُعتَّقٌ
وأوتارُها تنسَابُ..
من رِقَّة طوْعَا
وفي كلِّ خيطٍ..
من جدائِلِ شعرِهَا
طيورُ تغنِّي..
تبتغي الزّهرِ والنبعَا

اقرأ المزيد

«المادة السوداء».. عوالم رباعية الأبعاد

أعادت لي رواية «المادة السوداء» للأمريكي بليك كراوتش، مشاهد أثيرة من فيلم «عقل جميل»؛ لا سيما بعد أن أسدلت الصفحة الأخيرة.. رأيت جنيفر كونيلي تمسح وجنة رسل كرو -يلعب دور عالم الرياضيات جون ناش- حاملة يده إلى موضع قلبها لتطمئن قلقه بهمسة آمنة: «هذا حقيقي»!

من خلال الاتكاء على الكثير من الصور الرمزية، يشير كراوتش بشكلٍ ما إلى أهمية تقدير قيمة الأسرة في المجتمع، فعلى الرغم من التقدم العلمي لا ينبغي الإغفال عن إخماد روح الدفء والحميمية بين أفراد البيت الواحد بفعل التطور والتكنولوجيا اللاهثة.

على نحو سيريالي وغرائبي في الوقت ذاته؛ تدور أحداث الرواية حول حادثة اختطاف عالم فيزياء وأستاذ في كلية صغيرة، يدعى جيسون ديسين. إذْ أجبره مجهول على قيادة سيارته، وظل يصوّب مسدسه تجاه مؤخرة رأسه ملقياً به في حظيرة طائرات! وبعد حقنه بعدد من الأمبولات يدخل في حالة من التشويش الذهني قبل أن يلتقيه عاملون في محطة علمية تقوم بأبحاث عن اختيارات الإنسان، تحمل اسم «فيلوسيتي»، وما يلبث أن يستعيد وعيه حتى يستوعب محاولتهم في إعطائه شخصية وحياة كاملة لشخص آخر! يرفض جيسون هذا الجنون ويقرر الهرب بصحبة طبيبة المحطة، ومن هنا تبدأ فصول عودته لأسرته عبر رحلة خطرة محفوفة بالبؤس والتشرد ومشادات درامية حادة بين الشخصيات المستمدة منه، تحمل اسمه وترفض واقعها.

وعبر حركة السرد تتفاعل أحداث الرواية وتتحرك هذه الكائنات المتشابهة اللا محدودة متوهمة بأنها تعيش في شخصية عالم الفيزياء، الكيان الهارب منها. يتوسم جميعهم ملامح تعيسة؛ يطمعون في خوض حياته واستلام وظيفته والاستيلاء على أسرته التي كوّنها في 15 عاماً بعد أن تنازل عن أحلامه الأكاديمية والمجد والثراء.

تتشابه الشخوص الروائية وكذلك الأرجاء والفنادق والنوادي الليلية، يتجلى بعضها مدمراً بلا حياة. إذُ يريد الكاتب أن يوحي بأن الخراب حين يطال الأنفس يلوّن بقتامته أماكنهم ومآويهم. ولا يوجد لهذا الخراب الذي يخيّم على فصول الرواية من مفارقة استثنائية عدا ريان هولدر -صديقه جيسون القديم- وهو الشخص الوحيد الذي أكمل طموحه العلمي ونال جائزة مرموقة، لكنه لا يظهر في غمار الأحداث سوى في مناسبتين، الأولى قبل اختطاف صديقه والثانية بعد اختفائه بعد أن حاول إقامة علاقة غرامية مع واحدة من شبيهات دانييلا – زوجة جيسون – .

في هذا العالم الشائب بالغموض تتعدد الرموز مثل الصندوق المظلم الموجود داخل مؤسسة فيلوسيتي، وهو ببوابات متعددة كل منها يذهب بمن يفتحها في طريق ويُلقى به في مكان غير مألوف لديه، وربما هو إيحاء من الكاتب لمصائر الشخص المتاحة التي تفرض عليه ليسلكها باختيار واحدة فقط.

في السرد مفاتيح يمكن من خلال متابعتها وتحليلها فك ألغاز مجرى الأحداث، لعل أعمقها أثراً تلك العبارات التي جاءت على لسان -جيسون- بطل الرواية وهو يدخل غرفة الطعام: “تقع نظرتي على النجفة المكعبة رباعية الأبعاد فوق مائدة الطعام. قدمتها إلى دانييلا في عيد زواجنا العاشر. أفضل هدية على الإطلاق!” فهنا يستبين لحظة فارقة، أخال أن كراوتش استرأى نحتها في مخيّلة القارئ بدلالاتها لفك بناء الرواية وهضم مرواغتها وطعمها السيريالي. ويعود مجدداً مقارباً حياة البطل في «فيلوسيتي»، ليشير إلى أن حياة الإنسان قد تكمن في 4 أبعاد: «ندرك محيطنا في ثلاثة أبعاد منها، لكننا لا نعيش بالفعل في عالم ثلاثي الأبعاد. علينا أن نضيف بُعداً رابعاً لنبدأ في وصف طبيعة وجودنا، لا يضيف الضلع الرابع بُعدا مكانياً. إنما يضيف بُعداً زمنياً. وهذا هو تفسير العوالم المتعددة الذي تقدمه ميكانيكا الكم، ويفرض أن كل نسـخ الواقع الممكنة موجودة. وأن كل شيء لديه إمكانية الحدوث، يحدث بالفعل. لكن في كون آخر»..

يتعمد الفنان التشكيلي أحياناً، إحداث صدمة بصرية بمزاوجة اللونيْن الأبيض والأسود، لكني أخال كراوتش رسم هيكلاً لخيال علمي كاتباً تساؤلات واقعية بلون أسود عريض حول خياراتنا في الحياة وقرارتنا وعثراتنا. إنها رواية قد تجعلك تستيقظ ليلاً تفكر في المحيطين بك وبالعادي البسيط الذي قد تجحف قيمة وجوده.

اقرأ المزيد

نفحات الكينونة

هل بمقدورنا، اعتماداً على ومضات الذاكرة، وقد استحالت الأشياء الأولى ذرّات في عواصف الحياة، أن نستعيد كلّ الصور كما ارتسمت في مخيلة الطفولة الفوضوية؟ وهل في طاقة الذاكرة أن تلملم كل هذه النثار المتشظي، وهي في كل الحالات لا تستقبل إلا بعيون وحواسّ مزاجية الالتقاط؟

فنحن، إذ نستذكر الأحداث والمواقف والحكايات والروائح والوجوه والأمكنة والأصوات، ربما ابتدعنا تصاوير لم يسبق لنا أن عشناها، أو ربما عايشناها من دون أن نقدر على استجلابها كما تستجلب كاميرات الديجيتال المتطورة الآن كل حيوات مواليد الجيل الجديد، منذ أن يخرج من بطن أمه مروراً بسنوات الطفولة المبكرة جداً وليس انتهاءاً بالمراحل التي تليها.
أن تكون قادراً على شحذ مخيلتك بنشاط لا يتكئ على كسل التكنولوجيا الحديثة وتخمتها الجارفة.. أن تنذر كيانَك لنبش دفاتر هذه الحقبة الأثيرة لهي نعمة جزيلة لا يعرفها إلا أهل التفكر والتعمق في جواهر العوالم لا في قشورها؛ حيث تظل عناصر المخيّلة مهجوسة بالحفر المتأمل، بناءً على مكابدة واستبطان عميقَيْن، في داخل طبقات هذه السنوات الكثيفة المتداخلة المتواشجة.

***
ذلك الطفل الذي وُلد في سنة اثنين وثمانين وتسعمئة وألف من شهر يوليو القائظ ما يزال يسكن في أحشاء وجودي، بالمعنى الأنطولوجي الغائر دوماً في الأعماق. وما تزال الطفولة ينبوعاً متجدداً يثري مخيلتي ويبعث الكثير من الإثارة وحب المغامرة، حتى ولو كنت ذاهباً إلى السوق لشراء حاجيات البيت، فكيف بي وأنا أهيّء كينونتي للخوض في مضائق الكتابة ومتاهاتها.
ولي أن أظن أنه كلما تقدمت بنا السنوات سنظل مشدودين بشكل أكبر إلى العودة نحو طفولاتنا. ولكن في حالتي هنا أكاد أقول إنني أشبه ما أكون أمام شريط فيلمي بالأبيض والأسود مبهم ومغبّش، لا يكاد يبين منه شيء طوال السنوات الخمس الأولى سوى ومضات متقطعة ملتبسة لا يتشكل منها أي خيط سرديّ يمكن التعويل عليه توخياً للدقة والوضوح الكاشفَيْن، وإنما خرائط تالفة ذات خطوط مبلبلة محفوفة بالأسرار والطلاسم والرموز، كما لو أنك عبثاً تتقفى آثارها بحثاً عن كنز مدفون في أعماق الأرض البعيدة.
ولكن، تظل الأنوية الأولى ملتصقة بنفسي المتأهبة باستمرار لإعادة إنتاج تلك الطفولة المتحررة من جمود الذاكرة الاجتماعية والعائلية والمتأسلبة، وربما يلازمني شعور خفيٌّ بالتمرد على لحظات الكبت القاهر لتدفق نهر هذه الطفولة بغزارة وتلقائية لا تلكؤها الإكراهات المقيتة من رُهاب لا مرئيّ وأبعاد أخلاقوية غائرة في اللاوعي الباطن الشقيّ. ولم يكن إلا حضور المخيلة الباهر جنباً إلى جنب مع الذاكرة كجناحَيْن تسافر من خلالهما العزلةُ إلى تضاريس الطفولة وفراديسها المفقودة، وليس هذا ما نسميه أحلام يقظة، ولم يكن ذلك احتذاءً بتأملات غاستون باشلار حين يُشير في قوله:” يبدو بأن حلم اليقظة الباحث عن الماضي والطفولة يحيي عدة حيوات لم تولد إلا في المُخيّلة”.
وليس ذلك استعادة وصفية تقريرية لحقبة ولّت وانتهت، وإنما هي إعادة تأمل واستبطان لمرحلة الطفولة بوصفها تجربة تمس الجسد والروح والوجدان بشكل لا نهائي غير متوقف عند نقطة زمنية محددة.

***
يقيناً لستُ ذلك الطفل الذي كنتُه. ولكن من يكتب الآن هذه السطور طفل آخر يتعالق مع ذلك الأول المتشح بشفافية الأحلام والبراءة والظِلال والأمواج. وكثيراً ما تشبّهنا -نحن الشعراء- بالأطفال تيمناً وتبركاً وادعاءً ومجازاً، لا على وجه التماهي والحقيقة، وإلا هل في طاقتنا وفي طاقة من حولنا ذلك؟ هل نحتمل -نحن الكبار- أصلاً أن نكون أطفالاً ولو ليوم واحد؟
نحلم أن نتناسخ في جسد ذلك الطفل وروحه وعنفوانه الكامل، في شهيق ذلك الزمان وزفيره، في سبحانية أمكنته المكتنزة بالأريحيّة والحنان. ولكن في عروق الدم غصة الاستحالة وحسرة السؤال على زمن وأماكن تبخّرت وتلاشت كما يتلاشى الماء في قرارة أرض سبخة.
الوقت انصهر وذاب مصبوباً في لعنة الشاشات والهواتف المجبولة على الشرور والفتن والويلات. والمزارع بأغلبها استحالت إلى كتل من الأسمنت البغيض. والسواحل ضحّلتْها وسحقتْها دفائن الشاحنات المتأهبة للردم ليلَ نهار، حتى اندثرت بأكثرها وصار بعضها مستنقعات تتخثر من وضر الزيوت والبواليع والقمامات وجِيَفِ الكائنات والأسماك الطافحة…

***

هل كنت أحلم، أم كنت ذلك الطفل حقّاً؟ أكانت أصابعي هي فعلاً تلك التي كانت تلامس موج البحر كما لو أنها تلامس ملاكاً من الماء؟

هل كنت ذلك الطفل، مستيقظاً يهمّ باحتساء كأسين من الشاي الأسود الممتزج بالحليب، في إشراقة صباح عطلة صيفية، متعجلاً خطواته الحافية نحو ضفة الساحل القريب من البيت، ليغمر نفسه في الأمواج الهادئة، أو آتياً بالطَشْت(المِشخال) المعدني المغطّى بالقماش الأبيض، إذ يخرقه في وسط سقفه واضعاً في قاعه مسحة من الطحين اجتذاباً واصياداً لأسماك المَيْد الصغيرة، بلا مبالاة بالزمن ومجرياته، بلا حساب لما كان وما سيكون.
على مبعدة نصف ميلٍ من البيت نمشي متلهفين إلى الصَّيْد. وأتذكر صفاء مياه ضفاف خليج توبلي أيامئذ، حيث يبين من خلالها لمعان ظهور أسراب المَيْدِ على تفاوت أحجامها.

أكاد أتخيل الفارق الهائل بين الطفلَيْن، بين ذلك الذي كان يهجم على الحياة بحواسه وأحلامه وبهجاته وشقاواته، حتى وإن لم يكن شقياً بما يكفي هناك، وبيني أنا الآن كطفل لا يملك إلا أن يتأسّى بالكتابة متألماً ومتأملاً في مضائق الزمان وشروخه وتحولاته.. لا يملك إلا أن يناجي الطفولة بمحبة وإصرار غامرينَ.. أن يُصليِ لتلك الألوهة الكامنة بجسد تلك الكينونة:

ذلك الغاطس في سِيف البحر
وهو يرى الكائنات تشعُّ وتستطيب هدوء الحياة وضوضاءَها..

***
أنا أم أنتَ أيها الطفل،
ذلك الذي يرى فجأةً
خوفَها وسط أعينها حين نصطادها
ونخبئها في أكياس النايلون..
وحين نكتفي بالحصادِ القليل
نهمُّ راكضين بها إلى الأمهات
حاملين لهنَّ البُشرى
بضعة أسماك من المَيْدِ
ما زلتُ أتنشّق في زَفَرِها نفحةً عميقةَ العطرِ والذكرى.

***
حنانيكِ أيتها الطفولة،
هبيني نفحةً من نفحاتك الطيّبة..!

*المقال جزء من كتاب يصدر قريباً

اقرأ المزيد

ديوالي

-ألو، مرحبًا عبادي.
-هلا حسون. ويش صاير!
-عصفور طاير فوق المناير. اسمع عبادي، عندي ليك خبر.
– ويشهو هالخبر؟
– حوطة البونيان.
– ويش لك بهم، هالبكوان.
– ما علينا من ديانتهم، بكرا عيد عندهم.
– زين. واحنا نعيّد وياهم يعني!
-لا… لكن نحشر روحنا معاهم، ماسمعت: حشر مع الناس عيد.
– حسون. مافهمتك زين.
– بكرا مر علي العصر وبتفهم السالفة.

أعرف حسون، حياته كلها مغامرات. هذا الصديق المنبسط دائمًا، مشرق الوجه، يتحيّن الفرص ليؤثث فضاءات الفرح في نفسه وصحبته.

قصير، رأسه مزروع وسط كتفيه، حتى ليكاد يلتصق، أظن أنه بدون رقبة! أسمر البشرة، عينان سوداوان لا يغادرهما الفرح. شعر قصير، أنف مضحك.

كأنه نبع فكاهة لا ينضب. حتى في لحظات الحزن، يصطاد دعابة من هنا وأخرى من هناك. يعيش الحياة يومًا بيوم، فلسفته البسيطة..استمتع بيومك وكفى.

للمغامرات طعم ومذاق آخر بمعيته. هو إيقاعها الموسيقي.

اليوم الجمعة عصرًا، موعدنا. ها أنا أطرق بابه.. طق طق طق، هذه أيضًا شفرتنا المشتركة.

يُفتح الباب، يُصافحني وجهه:
هلا بالعُبِد.

أخذني بالأحضان كعادته. لحظات ودلفنا معًا أزقة ودواعيس المنامة. مسجد الباخشة أمامنا وعلى اليسار البيت العود، جزيرة صغيرة وسط المكان، يحيطه شارع، يتفرع إلى طريق، فداعوس. الزقاق الضيق يلقينا بمواجهة ماتم الحاج عباس، نتجه إلى الأمام، ماتم النساء على يسارنا، بضعة أمتار ونتخطى المسجد والماتم الآخر. هنا بضعة بيوت، بعدها دكان سلمان حمادة على الزاوية. شرب الشربت هنا يعادل في مشهديته آيسكريم بكداش في سوق الحميدية بدمشق. حيوية شارع الشيخ عبد الله تبدأ فورة مُمَيزة عند هذه الزاوية.

من هنا تبدأ دكاكين الذهب. تسبقنا أرجلنا للداعوس المؤدي لورش الصياغة. رائحة زنخة وحادة تنبعث، أحد الصاغة يُقلب كرات صغيرًا في آنية كربونية. نغطي أنفينا ونحن نسير. مسجد بشمي على يميننا. دواعيس تسلمك لأزقة ضيقة. تكثر الجالية الهندية في هذا المكان، إنه بومباي مصغرة.

باعة الثياب، بقالات، مطاعم، دكاكين متنوعة. يسارًا، بعد مسافة بسيطة تربض مكتبة العائلة في الزاوية. هذا الزقاق يؤدي إلى معبد الهندوس. اعتدنا تسميته بحوطة البونيان.

أرض خلاء على شماله، مرتفعة قليلًا، هنا مزرعة المفاجآت، بعد الاحتفالات تنبت الألعاب فيها كبراعم متفتحة تحت ضوء الشمس.

زحام على البوابة المشرعة. ضحكات النساء والرجال. النساء بالساري الهندي المميز. الوجوه السمراء. النقطة الحمراء على الجباه.

قفز حسون عند اقترابنا، أصبح قردًا مشاكسًا، شبك يده بيدي، ولجنا المعبد. ألوان الزينات المتدلية من الحبال، خزان القصدير بحنفية نحاسية، نفتحها وإذا بسائل أبيض يتدفق.. حليب.. حليب عبادي!

نشرب حليبهم، كأننا نشرب من ضرع بقرتهم المقدسة. لم نكن نعلم عن ديانتهم شيئًا سوى أنهم يعبدون الأصنام ويقدسون البقر. إنه عيد الأضواء الهندوسي أو الديوالي.

قرع طبول، نهر من الأجساد يتدفق في الداخل، رطنات مختلفة، بوق يضحك فوق سارية، أقمشة متوهجة، لون الفلفل الأحمر والكاري الأصفر.
أغنيات هندية تحوم فوقنا. دخان أعواد البخور تتصاعد إلى السماء، يتفاخر المعبد بحضوره ويتألق. هيكل بشري يلتف بإزار أبيض وتتدلى من رقبته قلادة غريبة، شعر لحيته الكثيف، وشعره المنكوش يوحي بأنه كاهن. أنفه مشكوك بإبرة ذات شكل غريب.

ابتلعتنا الحشود، أتلفت يمنة ويسرة، أبحث عن حسن. أخذت في مناداته:
– حسون. حسون.. حسون.

فجأة انبثق قرب مظلة برتقالية، أعلام هندوسية، قلائد زهور صفراء وياسمين، أوراق شجرة الموز الكبيرة. كان وجهه ملطخًا بالألوان، يتقافز كالسبال ويلوّح أمامي بيديه:

-عبادي. عبادي.. تعال، وحين اقتربت صفعني بورقة مطوية، تناثر منها مسحوق الألوان! أخذت أتقافز معه، نسينا أنفسنا؛ تركناها للمرح، أو ربما هي تركتنا وذهبت تتسكع معهم.

حلّ المساء؛ فرقعت “البواريت”، الألعاب النارية تُشعل السماء. خلطة مُميزة، ألوان، أصوات، وروائح، علقت بنفسينا كما بثيابنا. هذه من ثمرات مغامرات حسون الرائعة-قلت في نفسي- وأنا أتشقلب فوق الدعامات الخشبية.

صدح أذان المغرب ونحن نلهو. عبادي أخذ يمسح وجهه وهو يسحبني للمغسلة. غسلت وجهي معه. رجعنا سعداء. عندما دخلت البيت رآني أبي ففزع.. رائحة البخور، آثار الألوان فضحتني. تلقيت صفعة أدارت رأسي:

– هايم والأذان أذّن والناس صلّت. وجهك مخربش بالألوان.. كم مرة قلت لك لا تتسكع معه. هذا ما يفهم كوعه من بوعه.
– رحنا الاحتفال.

– أي احتفال؟
– صوب حوطة البونيان.

اتسعت عيناه وتطاير الشرر، لطمة أخرى تلقيتها:
– رايح تحتفل مع الهندوس.. أسود الوجه.

لا زلت أشعر بالصفعة، رغم مرور السنين. ربما كان والدي مُحقًّا يومها. أقول في نفسي: لو قرأ الكتاب الذي في يدي، لصفعته دهشة “أمة من العباقرة”، هؤلاء هم البونيان يا أبي.

اقرأ المزيد

سيبكي طويلاً بعدك القصب

سيسألُ النايُ عن عينيك والكتبُ
ولن تجيبَ إذا ما اشتاقك القصبُ

ولن تحلق أنغامٌ مرفرفةٌ
تقولُ من دونما قول لنا: اقتربوا!

فإذْ بنا كفراشاتٍ محلقةٍ
تحوم حولك أنت العازف/اللهبُ

فلا نعودُ سوى بالبسمةِ ارتسمتْ
على الوجوه وهذا بعضُ ما تهبُ

أنت البصيرُ الذي خففت وحشتنا
منا لتُكشفَ عن أبصارنا الحُجُبُ

لكي نرانا كما كنا.. لو اقتربتْ
منا الذنوبُ لقالت: كيف أرتَكَبُ؟

لرحمة الله عد من حيث جئتَ وطِبْ
نفسًا! سيبكي طويلاً بعدك القصبُ

اقرأ المزيد

عازف الناي

لو كنتُ “بورخيس”
لكتبت قصة عن عازف الناي الأعمى
عند بوابة معرض الكتاب، هذا الذي
لمن يصغي جيداً، سيَعزف له
أي كتابٍ يختاره .
**
ولو كنتُ “إدغار آلان بو”
لكتبت عن ليلةٍ ـ في ظروف غامضةـ
اختفى عازف الناي
وكذلك جميع الحروف من الكتب.
**
ولو كنتُ “جلال الدين الرومي”
لقلتُ بأن الله ـ حرفٌ مفقودٌ في الأبجدية
لا يكشف عن نفسهِ، إلا لمن أصغى
لأنشودة الناي.

اقرأ المزيد

جواد العكري .. شمعة الجِيّل “السجن”

لم يكن يوم الأربعاء 23 يونيو 2021٢٣ كأي يوم، فقد حملت رسائل الهاتف وقت الظهيرة رسالة تقول “جواد العكري في ذمة الله”.. نزل الخبر عليّ كالصاعقة بالرغم أنني كنت مُتابعاً لوضع المرحوم جواد طوال فترة مرضه.

استعدتُ شريط الذكريات ومن أين أبدأ، فالعلاقة مع أبوالجود كما يحلو لنا تسميته ليست علاقة نسب عائلي فحسب، ففضلاً عن إنه إبن الخال وإبن العمة، فهو الصديق والرفيق.

نهاية عام 1973، عاد جواد العكري من سوريا بعد تخرجه من جامعة دمشق، كلية التجارة – قسم المحاسبة التي التحق بها عام 1969، عاد إلى لوطن مُحملاً بآمال واحلام، بيت، عائلة، فضلاً عن خدمة الوطن وقريته الديه وأبناء قريته من خلال النادي، فترشّح لمجلس إدارة النادي ونال ثقة الأعضاء وتبوأ منصب أمين السر العام (السكرتير).

شرع مع الأخوة في مجلس الإدارة واللجان العاملة في تنظيم الدورات الثقافية والنقابية للأعضاء لتطوير العمل بالنادي، كما تمّ تشكيل لجنة خاصة لإعداد دستور متطور للنادي وجرى إقراره والتصديق عليه من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وقد استعانت الكثير من الأندية في البحرين بهذا الدستور كنموذج يُحتذى به.

وقتها كان نادي الديه شعلة على الصعيد الثقافي والفني فضلاً عن الجانب الرياضي ونشاط صيفي للأطفال، حيث قدّمت المسرحيات الهادفة وتمّ إصدار مجلة دورية حملت عنوان” الطريق الجديد” استقطبت الكثير من الأقلام في البحرين، بينما كان الوطن يعيش حالة من النهوض السياسي مع بدء الحياة السياسية وانتخاب المجلس الوطني (البرلمان) في ديسمبر 1973.

ولكن كما يقول الشاعر، “ما كل ما يتمنى المرء يُدركه، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفنُ”، ففي 23 أغسطس 1975، ومع تدهور الأوضاع السياسية على إثر صدور قانون أمن الدولة، جرت حملة اعتقالات طالت كوادر من الحركة السياسية وكان جواد العكري من ضمن الذين تم اعتقالهم، وقد تلاها حل المجلس الوطني بتاريخ 26 أغسطس ، أي بعد أيام من الاعتقالات.

ظلّ جواد وبعض الأخوة رهن الاعتقال حتى أفرج عنهم حتى 16 يونيو 1976. وبين نوفمبر وديسمبر من السنة نفسها جرت حملة اعتقالات جديدة طالت ناشطين من الحركة الوطنية، ويُعاد اعتقال جواد ضمن الحملة في العاشر من ديسمبر من تلك السنة ديسمبر، ويستمر الاعتقال هذه المرة سبع سنوات عجاف حتى ديسمبر 1983.

أتذكر حين التقيته في 10 ديسمبر 1976، قال لي “حملة الاعتقالات امتدت لتشمل عباس هلال وأحمد مطر والدكتور جعفر طريف وآخرين..”وأردف: “إن دورنا في الطريق..لقد جهزتُ حقيبة اليد بالحاجات الضرورية”..وتوادعنا.. وبالفعل ففي اليوم التالي وما أن حلّ الصباح وإذا بالخبر يتناقل في القرية. لقد تمّ اعتقال جواد العكري، بعد يومين من اعتقاله جرى اعتقالي والتقينا معا في سجن سافرة الصحراوي.
بعد اطلاق سراح الرفيق المناضل أحمد الذوادي في ديسمبر1979، زرته للسلام عليه، سألته كيف أمور الأخوة؟، أجابني: كلهم بخير ويبلغونكم السلام، بادرته وكيف أمور أبو الجود، فردّ أبو الجود شمعة “الجِيّل” ويعني بها السجن.

من جهته يقول الدكتور عباس هلال صديق المرحوم جواد ورفيق دربه مرحلة الدراسة الجامعية والإعتقال وبعدهما: “جواد مُناضل أشعل عتمة السجون بالنور والبهجة”، أما الأخ عادل العسيري في نعيه للمرحوم فيقول: “الراحل بومحمد رفيق النضال الطلابي في أهمّ مراحله، رفيق المعاناة في زنازن القلعة وجدا وجو، رفيق درب تعجز الكلمات عن الحديث عن المشترك معه”.

الأخت نوال عبدالله غرّدت على تويتر”: “بالأمس ودعنا أخينا العزيز جواد العكري الذي عرفناه نقابياً طلابياً له اسهامات كبيرة في مسيرة الحركة الطلابية البحرينية وظل مخلصاً للقيم النضالية التي رافقت مسيرته الوطنية الزاخرة بالعطاء ودفع ضريبة ذلك اعتقالاً وسجناً لسنوات طويلة”.

بدوره نعى فيصل العرشي زميل الدراسة الراحل الرفيق جواد العكري بالقول “ببالغ الحزن أنعي الأخ الغالي جواد العكري (أبومحمد) الإنسان الذي فاقت العلاقة بيننا مستوى الصداقة، بل فاقت مستوى الأخوة، لقد كنّا رفاق درب، وهذا النوع من العلاقات الإنسانية بالذات له طعم آخر لا يعرفه إلا من يُجربه، لقد فقدنا اليوم الصديق والأخ والرفيق الذي لن ننساه ما حيينا”.

الدكتور عباس هلال في مقال نُشر بمجلة ” ديلمون بوست” الالكترونية، يذكر “جواد العكري من مؤسسي رابطة طلبة البحرين في دمشق ومِن مؤسسي فرع اتحاد الطلبة وشارك في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي عُقد في دمشق في فيراير 1972، وانتخب عضواً في المجلس الإداري وعضواً في الهيئة التنفيذية عام 1973 لمنصب شؤون الثقافة والإعلام. مثلّ الاتحاد في عدة مؤتمرات طلابية وشارك في مهرجان الشبيبة العالمي، برلين، صيف 1973. نعم هكذا هو جواد، يشعرك بالأمل والتفاؤل في أحلك الظرووف”.

من المواقف المؤثرة والمحزنة في حياة المرحوم جواد أثناء فترة الاعتقال، حادث حريق تتعرض له العمة أم عبدالنبي وتتعرض لحروق بليغة، يُسمح لجواد بزيارة والدته في المستشفى ولكن بعد أن توفت لم يُسمح له حضور مراسم التشييع والعزاء..

العزيز أبوالجود، ستظلّ في الذاكرة. كلماتك التي كانت تخلق المرح والفرح ستظل تُذكرنا بك، أصدقاؤك ومحبوك صاغوا كلمات تعكس حجم المحبة التي يحفظونها لك. أبو الجواد أنت عنوان للطيبة.

نم قرير العين.. ولروحك الطمأنينة والسلام.

اقرأ المزيد