المنشور

نوابنا.. ونوابهم..!!

نبدأ بتذكير الذين ينسون او يتناسون، وهم على أي حال وفي كل حال وحول كل شأن كثر، تذكيرهم بقرار هيئة مكتب مجلس النواب والأمانة العامة للمجلس بمنع النواب من انتداب أقاربهم من الدرجتين الأولى والثانية للعمل في مكاتبهم النيابية، حيث كان كل نائب يتسلم 500 دينار كمخصصات فتح مكتب، وهو القرار الذي بدأ سريانه في 1 يوليو 2016، وأثار زوبعة على جانب النواب والناس، فأصحاب الشأن من اعترضوا واعتبروا ذلك تضييقًا عليهم لأداء مهامهم بصورة طبيعية وسلسة، ومنهم من توعد وهدد بغلق مكتبه على الفور ليس تجاوبًا او تفهمًا للقرار ودواعيه وإنما احتجاج على القرار، وذلك منشور وموثق ويمكن الرجوع اليه في أي وقت، أما على صعيد الناس فقد عبروا عن سخطهم إزاء هذا الذي يمارسه هؤلاء النواب من توظيف للأقارب والواسطات والمحسوبيات وتبادل عمليات الانتداب كنوعٍ من التمويه، معتبرين ذلك شكل من أشكال الفساد، وقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من التعليقات المعبرة عن هذا السخط الشعبي..!!

ننشط الذاكرة حيال هذا الموضوع تحديدًا ربما من أجل المقارنة او المقاربة مع هذا الذي يحدث في فرنسا وأيضًا في بريطانيا – تصوّروا – لعلنا نستخلص بعض الدروس والعبر، هناك قررت الجمعية الوطنية الفرنسية نشر قائمة النواب الذين يوظفون أحد أفراد عائلاتهم او أحد المقربين لهم، في خطوة وصفت بأنها غير مسبوقة بهدف تعزيز مبدأ الشفافية والحكم الرشيد، وهي خطوة جاءت على وقع القضية التي طالت مرشح اليمين عن حزب «الجمهورية» للانتخابات الرئاسية فرانسوا فيون، بذريعة أنه مارس التوظيف الوهمي حين عين زوجته مساعدة له عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ الفرنسي..!!

الجمعيات والمؤسسات المدافعة عن الشفافية في العمل السياسي ونزاهة وأخلاقيات من يتولون منصبًا عامًا، والتي لها حضور فاعل ومؤثر في المشهد الفرنسي، ومعها حقوقيون ومواطنون، كلهم تحركوا بوازعٍ من واجبهم في التصدي لفساد السياسيين في الجمهورية الفرنسية الخامسة، ولأن المساءلة والمحاسبة في فرنسا ليسا ورقة سياسية مؤجلة الدفع الى أجل غير معلوم، بل هما يستحقان الدفع الفوري على الدوام، ولأن هناك رأيًا عامًا معتبرًا يؤخذ له ألف حساب، كان من الطبيعي ان يتصدى لهذا التحرك الذي ذهب الى حد الكشف ان من بين 577 نائبًا في البرلمان 80 منهم يوظفون أحد أفراد عائلاتهم، وأحدهم تجاوز جميع الحدود في نظرهم هناك بتوظيفه اثنين من أبنائه كمساعدين له..!! وشملت القائمة نائبات وظفن أزواجهن كمساعدين لهن..!!

أوجه الاختلاف والاعتراض هو على الوظائف الوهمية، وعلى المحسوبية الفجة التي تكسر الضوابط الموضوعة، فالقانون الفرنسي لا يمنع ان يوظف نائبًا ما فردًا من عائلته ولكن يجب ان تكون الوظيفة حقيقية وليست وهمية او مفصلة للأقارب، وان يكون التوظيف بناءً على أسس ومعايير واضحة وشفافة، لا التفاف ومدارة وتنفيع ومحسوبية، وما دام الكل هناك يخضع للمساءلة والمحاسبة وحكم القانون، ولا يستطيع بل لا يجرؤ أحد ان يتمترس بحصانة حين يخطئ او يتجاوز او يفسد، او ينتهك حرمة الأنظمة والقوانين وتسخيرها لتحقيق مصالح شخصية فإن مثل هذه الأمور هناك لا تمر مرور الكرام حين تكتشف.

في السياق ذاته نذكر ما عرف بفضيحة نفقات النواب في بريطانيا قبل سنوات، مبالغ صرفت لتوفير سكن قريب، شراء أحد النواب ثلاث أسرة من المال العام، حصول نائب على ثمن شماعة لتعليق ملابسه في البرلمان، صرف مبلغ تنظيف منزل ريفي لأحد النواب، مطالبة نائب بقيمة الاشتراك في فضائية سكاي الإخبارية، هذه اعتبرت هناك فضائح تسببت في تقديم رئيس مجلس العموم استقالته في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 300 عام، بعد مطالبات من أعضاء في البرلمان له بالاستقالة بسبب تساهله مع تلك المخالفات، وهذه الخطوة ليست كل شيء، ولا كل المطلوب، ولا هي كافية في نظر الشعب البريطاني، فقد اضطر النواب المعنيون الى الخضوع للمساءلة والاعتذار للشعب، الأمثلة كثيرة وفي بلدان أخرى عديدة التي تثبت كل يوم أنها تمضي في طريق الديمقراطية وتتعامل معها بوضوح، بلدان يعترف فيها بالأخطاء، لا أحد يدافع عنها، ولا يفبركون المبررات اليها، ويعلنون عنها صراحة أمام الملأ، لا يخافون من شيء، ولا «يطبطبون» على أحد، ومعرفة الحقيقة عندهم مهما كانت مرارتها وسيلة للتطور الديمقراطي وترسيخ العلاقة مع المواطن لما فيه مصلحة هذه البلدان والشعوب.

تلك مخالفات تقاس «بالملاليم» بينما عندنا أنتم أدرى بالحال عندنا، فقد وجدنا نوابًا استماتوا في الاعتراض على منع انتداب زوجاتهم وأقاربهم، ووجدنا نوابًا همهم زيادة رواتبهم التقاعدية وامتيازاتهم، ووجدنا نوابًا يلتفون على فتح مكاتب لهم للحصول على بدل مكتب «500 دينار» ومنهم كمثال ذلك الذي فتح ملحقًا بمكتبه الخاص، ووجدنا نوابًا وهم يهربون من الجلسات، ووجدنا نوابًا يشكلون لجان تحقيق ماتت قبل أن تولد، ووجدنا نوابًا همومهم محصورة في تحسين وتحصين مصالحهم، ووجدنا قبل ذلك نوابًا يتنازلون عن صلاحياتهم في الرقابة والمساءلة.. هل تذكرون..!! ووجدنا… ووجدنا… وكل ما وجدناه باعث على الصدمة والأسى في آنٍ واحد..!!

كما وجدنا كيف كانت الأمور تمضي في بلدان عربية من قبل من كانوا مؤتمنين عليها من نواب يعرف الناس كيف جاءوا وعلى أي أساس جاءوا، وأي شعارات ردّدوا، والنتيجة ضياع كل شيء في الشكل والجوهر، مليارات من الأموال سرقت، وعقود وهمية نفذت، واتفاقيات نفط وصفقات لصالحهم أبرمت من تحت الطاولة، وشبكات من المصالح والمنافع الخاصة بنيت على حساب الدولة والمجتمع، وخطوط حمراء انوجدت في مواجهة الفاسدين ومن مارسوا النهب والهدر..!!

 المطلوب والملح والضروري أن نتحدث عن «الحياة الديمقراطية» ليس في الشكل فقط ولكن في الجوهر أيضًا.. وأن لا تتحول هذه الحياة الى أحاج وألغاز ومآسٍ.. وشعارات ولى زمانها..!!

 

اقرأ المزيد

التاريخ الخفي

ثمة تاريخ خفي بالضرورة، هو غير ذاك الذي كتب وتناقلته الأجيال.
هذا التاريخ الخفي موجود في كل مكان، وهو وجد دائماً عبر «التاريخ» المديد للبشرية.
لا نعني بذلك فقط أن التاريخ كتب من وجهة نظر المنتصر كما يقال، وبالتالي فإن «الحقيقة» التي وصلتنا هي ما يراه «حقيقة» هذا المنتصر، وليست هي، بالضرورة، الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من يمينها أو من شمالها، وبالتالي فإن «الحقيقة» الكامنة في رؤية من هزموا هزمت معهم، ولم يتيسر لها أن تنتقل إلى الأجيال اللاحقة.
ما نحن بصدده هنا هو ذاك التاريخ الخفي الذي لا يناقض، بالضرورة، التاريخ المعلن، فقد يتقاطع معه في الكثير من الأوجه، ولكنه ظلَّ بعيداً عن الأضواء، فلم يدون كما دونت وقائع التاريخ الفاصلة، من حروب وغزوات وكوارث وانتصارات.
يمكن القول إن مجال اشتغال المهتمين بما يطلق عليه التواريخ الفرعية يكمن في هذا التاريخ الخفي، ومن قبيل ذلك العناية بكتابة تاريخ النساء أو تواريخ الأقليات في المجتمعات أو سواها.
فلنأخذ تاريخ النساء مثالاً، رغم قناعتنا بأنه لا يوجد تاريخان منفصلان أحدهما للرجال والثاني للنساء، فالمرأة كانت موجودة دائماً أينما كان الرجل، وشاركت في صناعة الحدث معه، لكن التاريخ، كما أمور أخرى كثيرة، صيغت بنَفَس ذكوري، تجاهل ما للمرأة من دور.
هذه «الذكورية» ذاتها التي جعلت من دور النساء خفياً أو مخفياً، رغم أن ثمة نساء اضطلعن في مفاصل تاريخية مهمة بأدوار صنعت مسارات الأحداث أو وجهتها، وفي الكثير من الحالات فإنهن فعلن ذلك من وراء الستار، أو بالتخفي خلف رجال.
لو انصرف الباحثون إلى دراسة ما مارت به قصور السلاطين والخلفاء والملوك وسواهم، عبر التاريخ الإنساني الممتد، من صراعات ومكائد أو توافقات أو «ترتيبات»، سيجدون أن للنساء حصة كبيرة، إن لم تكن الأكبر، في تقرير مسار الأمور.
شيء مشابه يمكن قوله عن تواريخ الأقليات داخل كل مجتمع، فحيث تكون الغلبة للقومية أو الطائفة التي تشكل الأكثرية في أي مجتمع، فإن التاريخ يكتب من وجهة نظرها، ويُعنى بالتفاصيل العائدة لها، ويغفل، عمداً أو سهواً، التاريخ الفرعي الخاص بالأقليات، الذي وإن كان جزءاً من التاريخ العام للمجتمع، لكنه يحتفظ بأوجه فرادة.
هذه «الفرادة» بالذات هي التي يمكن أن ندرجها في التاريخ الخفي الذي لم يكتب، أو أنه طمس لصالح التاريخ «الأكبر»، أي تاريخ الأكثرية، التي رأت أن روايتها للتاريخ ووقائعه تجب ما سواها من روايات. سيصبح التاريخ أكثر ثراء وإثارة، لو فتحت ملفات التاريخ الخفي المغفلة أو المقصاة.

اقرأ المزيد

صناعة الرأي العام

ما أكثر ما نسمع ونقرأ تعبيرات من نوع: إن الرأي العام يحتج، أو الرأي العام يطالب، أو أنه يؤيد. وعلينا أن نضع ما هو مناسب من تكملة للجمل سالفة الذكر، كالقول مثلاً إن الرأي العام يحتج على قرارات برفع الأسعار اتخذتها الحكومات، أو أنه يطالب بإيقاع عقوبة مشددة بحق شخص أو أشخاص ارتكبوا جريمة روعت المجتمع، أو أنه يؤيد زعيماً سياسياً أو قراراً حكومياً اتخذ.
يفهم من هذا أن الكثير من القرارات تتخذ تحت «ضغط» أو «طلب» الرأي العام حين يجد صنّاع القرار أنفسهم محمولين على الاستجابة أو حتى الانصياع لما يطالب به الرأي العام، حتى لو كان ذلك لا يتسق مع رؤيتهم كراسمين للسياسات، أو حتى لو كان في ذلك عودة عن قرارات سبق أن اتخذوها وأعلنوا عنها.
في عبارة أبسط وأوضح، يمكن أن يوحي لنا ذلك بأن الرأي العام هو من يصنع القرارات أو يرسمها.
لكن ما لا يجري الوقوف عنده بنفس الدرجة من الاهتمام هو أن الرأي العام الذي «يصنع» القرارات أو يفرضها، هو نفسه ناتج صناعة.
بمعنى أن الرأي العام ليس معطى قائماً بذاته، موجوداً بصورة مستقلة عن المؤثرات المختلفة، وإنما هو ناتج عن تعبئة سياسية وإعلامية عبر منظومة معقدة تدخل فيها الإشاعات والأكاذيب وافتعال المخاوف أو تضخيمها.
هنا تغدو المسألة عكسية تماماً.
ليس الرأي العام هو من يطالب ويفرض ما يطالب به على صنّاع القرار، وإنما هؤلاء أنفسهم يقومون بتشكيل الرأي العام وفق أهوائهم، وبطريقة يصبح معها مهيأ لقبول ما يتخذونه من قرارات والموافقة على ما يقولونه، ما يجعل من فكرة الرأي العام الرقيب فكرة وهمية، فمن يفترض فيهم أن يكونوا رقباء على السياسات المتخذة بالتأييد أو الرفض، يجري تكييفهم كأفراد أو جماعات لقبول تلك السياسات كما هي.
يلعب الإعلام دوراً مفصلياً في ذلك بالطريقة التي يقدم بها الأخبار أو يعرض التقارير.
وليس شرطاً أن يحجب الإعلام أخباراً أو تقارير كي يؤدي هذه المهمة، وهو ما يفعله في أحيان كثيرة، وإنما يكفي أن يقول جزءاً من الحقيقة، ويسكت عن الجزء الآخر، والتجربة تؤكد أن قول نصف الحقيقة هو أخطر بكثير من نكرانها كلية.
نصف الحقيقة أو ربعها، والذي ليس هو الأهم فيها في الغالب، قد ينطوي على جانب يقلل من مخاطر حقيقية، أو أنه بالعكس يضخم صورة هذه المخاطر لدى المتلقي، الذي هو واحد من كتل متلقين كبرى تشكل ما نطلق عليه الرأي العام، فيشكل قناعاتها وفق الهوى المراد.

اقرأ المزيد

غياب القرار العربي

ضمن أمور جوهرية كثيرة نفتقدها في واقعنا العربي ما كنا نطلق عليه مفهوم حركة التحرر الوطني والقومي العربي، لصالح شعارات ومفاهيم غائمة، عائمة، لا يستدل منها على فهم حقيقي للمهام التي تجابه العرب، إن على مستوى كل بلد على حدة، أو على المستوى العربي العام.
صحيح أن العالم تغير كثيراً عما كان عليه في مطالع ومنتصف القرن العشرين، وربما بعد ذلك في حدود معينة، يوم كانت شعوب ما كان يطلق عليه العالم الثالث منصرفة للنضال من أجل إنهاء السيطرة الكولونيالية على أوطانها ونيل الاستقلال الوطني، وهو ما أفلحت فيه الغالبية الساحقة من هاته الشعوب، حيث أصبح العالم يتحدث عن تصفية نظام الاستعمار.
وطالما كان الأمر كذلك، فما مدى صدقية الحديث عن افتقادنا مفهوم التحرر الوطني والقومي إذن؟ في الحال العربية، وبالنظر إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضٍ عربية أخرى، والحيلولة دون تمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره على أرضه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وذات السيادة التامة، سيصبح أي حديث عربي عن تحرر وطني تمّ إنجازه من قبيل الوهم، ليس لأن فلسطين ما زالت محتلة، وإنما لأن المشروع الصهيوني أوسع وأشمل من فلسطين وحدها.
لا يقف الأمر هنا، فالاستقلال الوطني الذي نالته البلدان العربية بعد نضال عنيد وتضحيات جليلة لشعوبها، ظلّ في الكثير من الحالات استقلالاً منقوصاً، حين وجدت هذه البلدان نفسها أسيرة إملاءات دولية على قرارها الوطني المستقل، ولم تتورع الولايات المتحدة عن احتلال بلد عربي مهم بكامل أراضيه هو العراق، وأنشأت فيه واقعاً جديداً، معيدة بذلك صورة الغزوات الاستعمارية التي عرفتها بلداننا فيما سبق على أيادي الإنجليز والفرنسيين والطليان وقبل هؤلاء جميعاً البرتغاليون.
لكن مفهوم التحرر الوطني والقومي الذي ندعو إلى إعادة الاعتبار إليه لا يقف عند حدود مواجهة المشروع الصهيوني التوسعي مفتوح الشهية على قضم الأراضي العربية، ولا إزاء مشاريع الدول الكبرى ذات الإرث الاستعماري في تقاسم النفوذ في بلداننا، والتهيؤ لإعادة هندسة الخريطة فيها، عبر خطة مشابهة لاتفاقية «سايكس – بيكو» سيئة الصيت، وإنما تمتد لتشمل التطلعات الإقليمية، مفتوحة الشهية، هي الأخرى، على بسط مواقع نفوذها في العالم العربي.
تفكك منظومة الأمن العربي أطلق العنان للقوى الإقليمية الأخرى كإيران وتركيا أن تمد أيديها طويلاً وتتقدم بأرجلها عميقاً في أكثر من خاصرة عربية، مستفيدة من حالة الوهن العام، متوسلة، في الغالب الأعم شعارات مذهبية، تطمس البعد الوطني – القومي للقضايا العربية، وتجعلها ملحقاً أو امتداداً لأجنداتها الخاصة في تثبيت النفوذ وتقاسمه.

اقرأ المزيد

أمام ضريح شكري بلعيد

احتشد أمس العشرات من ممثلي قوى وأحزاب منظمات عربية وأجنبية أمام ضريح شهيد تونس وشعبها وحركتها الوطنية والتقدمية شكري بلعيد الذي أودت بحياته رصاصات غادرة أطلقها موتورون من الجماعات التكفيرية.
غاية هذا الحشد هي تحية واستذكار سيرة وتضحيات هذا القائد الاستثنائي في الحركة الوطنية التونسية، وكذلك لسيرة وتضحيات رفيقه، الشهيد أيضاً، محمد الإبراهيمي الذي أودت بحياته رصاصات نفس القتلة، الذي جاوره في الممات كما في الحياة.
المحتشدون أمام الضريحين أتوا تونس للمشاركة في احتفالية بعنوان: «فلسطين – مئة عام من المقاومة». وفي هذا مغزى ورسالة، فشكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي، كما كل شهداء حركة التحرر الوطني العربية، هم شهداء لفلسطين بمقدار ما هم شهداء أوطانهم، يوم كانت فلسطين، ونتمنى أن تبقى كذلك، عنواناً للعزة والكرامة والحرية، ويوم لم يكن الوطنيون العرب يتصورون النضال من أجل حقوق شعوبهم منفصلاً عن النضال في سبيل استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه.
وفي وجدان شعوبنا تحضر القضية الفلسطينية بوصفها بوصلة للموقف الوطني والقومي السوي، فلا يمكن تخيل أن تقوم قائمة للعرب إن ظلَّ الجرح الفلسطيني نازفاً، بل إن الجروح العربية الأخرى التي تنزف اليوم ما كانت ستكون بالمدى الذي هي عليه اليوم، لولا أن السرطان الصهيوني تمدد واستطالت أياديه.
لذا ليس غريباً على بلد شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي أن يستضيف فعالية مثل هذه، في السنة التي تمر فيها الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم، الذي جسد تضافر إرادة الكواسر الاستعمارية آنذاك في شخص إحدى قواها الضاربة، أي بريطانيا، في تأمين التغطية الدولية للمشروع الصهيوني بأن تكون فلسطين وطناً لليهود، وأن يكون ثمن ذلك انتزاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتهجيره إلى خارج الحدود.
ولم يحتج الأمر أكثر من عقود قليلة حتى بات الوعد واقعاً، بعد أن اجتاحت الجماعات الإرهابية الصهيونية المسلحة المدن والبلدات الفلسطينية، بغطاء استعماري دولي، وفرضت أمراً واقعاً بالإرهاب والمجازر، لتبدأ المحنة الفلسطينية الدامية المستمرة حتى اليوم.
الأفدح أن المشروع الصهيوني هو اليوم في واحدة من ذرى تغوله، بعد أن انهارت منظومة الأمن العربي، وأصبحت بلدان عربية رئيسية ساحات حروب واقتتال داخلي، واستبيحت أجزاء واسعة منها من قبل جماعات التطرف والتكفير، ما قدم خدمة ل «إسرائيل» لم تكن تحلم بها.
منتسبو هذه الجماعات بالذات هم من اغتالوا شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي وغيرهما، من عناوين النضال الوطني التحرري وبرامج الحداثة والدولة المدنية، كي تخلو الساحة من تلك المنارات المرشدة إلى المستقبل، من حيث هو فكرة وبرنامج، وهو مستقبل لن نبلغه إن لم نهتد بنهجهم.

اقرأ المزيد

بيان صادر عن جمعيات التيار الوطني الديمقراطي في ذكرى يوم الأرض الفلسطينية

قبل واحد وأربعين عاماً وتحديداً في مارس من العام 1976 أقدم العدو الصهيوني على تنفيذ جريمة نهب ومصادرة للأراضي الفلسطينية في العديد من مدن وقرى فلسطين المحتلة فيما يعرف (الأراضي الفلسطينية في عام 1948)، وهو ما دفع الشعب الفلسطيني إلى مواجهة هذه الجريمة ببسالة وشجاعة مسجلاً ملحمة بطولية تاريخية وخالدة في حياة فلسطين والأمة العربية. فقد هبَّ الفلسطينيون هبّة رجل واحد في تظاهرات سلمية حاشدة وأعلنوا الإضراب الشامل في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، قابلتها القوات الصهيونية بعدوان وحشي غادر أدَّى إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى الذين روُّوا بدماهم الزكية الأرض الفلسطينية الطاهرة. وهكذا جسّد الشعب الفلسطيني في هذا اليوم (يوم الأرض) رفضه للعدوان والاحتلال، وعبّر عن إصراره على مقاومة كل السياسات العنصرية الفاشية التي يمارسها العدو.

واليوم إذ تحل علينا هذه الذكرى، لا زال العدو الغاصب المحتل يواصل تصعيد حربه الإجرامية التي تزيد وتيرة وسرعة تنفيذها في ظل حكومة الاحتلال الصهيونية اليمينية المتطرفة، ضد الشعب الفلسطيني مستهدفة اقتلاع وتشريد الفلسطينيين من أراضيهم و مدنهم خاصة مدينة القدس التي تتعرض في الوقت الحاضر إلى حرب تهويد شرسة لإفراغ المدينة من سكانها الأصليين والشرعيين  لمصلحة العصابات الصهيونية الاستيطانية عبر العديد من القوانين والإجراءات العنصرية وسياسات التطهير العرقي التي تكرّس المخطط الصهيوني ومشروعه في جعل القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة الكيان المحتل، مستغلة ما يجرى من أحداث ومتغيرات في المنطقة  لفرض أمر واقع  على الفلسطينيين والعرب موظفةً لهذا الهدف كل آلات القتل والتشريد وحشد أدوات الكذب وتزوير حقائق التاريخ وإحياء الخرافات الصهيونية ومزاعمها الباطلة. يحدث كل هذا بينما الأنظمة العربية غارقة في حروبها المدمرة وصراعاتها الطائفية التي تغذّيها القوى الإرهابية التكفيرية الإجرامية معلنة عجزها وتراجعها أمام الهيمنة الصهيونية الأمريكية، وبالرغم من انعقاد القمة العربية الثامنة والعشرين في عمّان بالأردن، إلّا أنه لا مؤشرات على أي تغيّر في الواقع العربي الرديء ولن تختلف قراراتها عن القمم العربية السابقة بشأن القضية الفلسطينية والحقوق العادلة للشعب الفلسطيني الشقيق في دحر الاحتلال الصهيوني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

إنّ جمعيات التيار الوطني الديمقراطي إذ تُحَيّي احتفاء الشعب الفلسطيني وجماهير الأمة العربية بهذه الذكرى المجيدة، وإذ يستذكر تضحيات شعبنا الفلسطيني ودفاعه عن أرضه وعن هويته الوطنية والقومية، فإنّنا نؤكد موقفنا الثابت في دعم نضالات وبطولات هذا الشعب الأبي ونُحَيّى مقاومته الباسلة باعتبارها الطريق الصحيح والأمثل لنيل الحقوق المغتصبة. وللوصول إلى هذا الهدف النبيل، فإننا ندعو إلى توحيد رؤى وجهود كافة الفصائل والقوى الفلسطينية المناضلة ورص صفوفها لمواجهة وهزيمة كل السياسات العنصرية الصهيونية الرامية إلى ترسيخ الاحتلال والاستيطان وتهويد الأراضي الفلسطينية، كما نطالب بتعزيز تلاحم هذه القوى على طريق تحرير كل الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.

ويدعو  التيار الوطني الديمقراطي  كافة جماهير الأمة العربية وقواها الوطنية والقومية والتقدمية  إلى حشد طاقاتها لدعم الشعب الفلسطيني والاستمرار في تقديم كل الدعم المادي والمعنوي لنصرة قضيته العادلة، ويؤكد في الوقت نفسه على أهمية الإعلان الواضح والصريح في رفض كل التسويات المذلة مع الكيان المحتل والتصدي لمحاولات وخطوات التطبيع التي تتبارى  بعض الأنظمة والحكومات العربية في الإقدام عليها خضوعاً للمشيئة الأمريكية الصهيونية ومشاريعها العدوانية في المنطقة العربية، وتجاهلاً لحقوق الشعب  الفلسطيني التي سينالها بمقاومته وتضحياته وتلاحم وتضحيات جماهير الأمة وقواها المناضلة رغم كل العدوان والبطش الصهيوني ورغم كل المتآمرين والمتاجرين بقضية فلسطين، قضية الأمة العربية.

جمعيات التيار الوطني الديمقراطي

جمعية المنبر التقدمي

جمعية التجمع القومي

جمعية العمل الوطني الديمقراطي -وعد

30 مارس 2017

اقرأ المزيد

قوى التيار الوطني الديمقراطي تطالب بتحقيق شفاف والكشف عن قتلة الفتى مصطفى حمدان

ودع عشرات الآلاف من البحرينيين امس السبت (25 مارس 2017) جثمان الفتى مصطفى حمدان الذي استشهد جراء اصابته بطلق ناري في الرأس، كما أفادت عائلته وأشار إلى ذلك التقرير الطبي حول الحادث، إبان الاعتداء الذي جرى في 26 يناير الماضي في منطقة الدراز المطوقة امنيا منذ أشهر طويلة.

وتتقدم قوى التيار الوطني الديمقراطي بأحر التعازي والمواساة لأسرة الفتى الراحل وشعب البحرين في هذا المصاب الجلل، وفي هذا الصدد، طالبت قوى التيار الوطني الديمقراطي بتحقيق شفاف وعادل وإعلان واضح من الجهات المختصة عن حقيقة ما جرى، خاصة وأن منطقة الدراز كانت ولا تزال محاصرة من قبل اجهزة الأمن ولا يمكن لأحد الدخول منها وإليها إلا عبر منافذ محددة وإجراءات أمنية صارمة. كما طالبت بالكشف عن هوية وطبيعة العناصر الملثمة الذين اطلقوا الرصاص الحي في منطقة سقوط الشاب مصطفى حمدان، وفق روايات الآهالي، وما كشف عنه شريط الفيديو المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم من أطلق الرصاص الحي للعدالة.

وأكدت قوى التيار الديمقراطي على ثوابتها الوطنية بحق كافة فئات وشرائح الشعب البحريني في العيش بأمان وحرية وعدالة، وعلى مشروعية النضال السلمي لشعب البحرين وقواه المناضلة ومطالبه العادلة والمشروعة في دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تتحقق فيها العدالة للجميع دون تمييز وتصان فيها حقوق الانسان والحريات التي يحميها القضاء العادل المستقل، مشددة على أن الحل الامني لم ولن يقود بلادنا للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه البلاد منذ سنوات، بل ان طريق الحل يكمن في تحقيق الانفراج الأمني والسياسي وبدء حوار وطني جاد وحقيقي يفضي لتحقيق نتائج وتوافقات وطنية ايجابية تنعكس ايجابا على كل مكونات المجتمع البحريني وعلى وضع البلاد على طريق الحل السياسي والازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي تحتاحه بلادنا أكثر من أي وقت مضى.

قوى التيار الوطني الديمقراطي

جمعية المنبر التقدمي

جمعية التجمع القومي

جمعية العمل الوطني الديمقراطي -وعد

اقرأ المزيد

للأحلام أجنحة

قلت عنها دائماً إنها ملهمة، لا في عذوبة ما تكتب وتنشر من إبداع، وإنما أيضاً لما هي عليه من مثابرة ودأب وجلد في العطاء لا يتوفر عليها إلا قلة.

أعني بذلك الأديبة العراقية لُطفية الدليمي التي تعيش منذ سنوات في العاصمة الأردنية عمان، التي وجدت فيها ملاذاً كي تواصل إبداعها، بعيداً عن جحيم العراق المبتلى بالاحتلالات المختلفة وبحروب الطوائف وبهمجية «الدواعش» ومن كان على صورتهم.

في جعبة لُطفية الدليمي نحو 25 مؤلَفاً بين الرواية والمجموعات القصصية والمذكرات والسير، ونحو عشرة كتب مهمة ترجمتها عن الإنجليزية، فضلاً عن نصوص في الدراما، وأبحاث ودراسات في الأدب والأسطورة والتاريخ.

ولأنها ملهمة، فقد اختارت أن تترجم لنا، مؤخراً، كتاباً ملهماً لرجل ملهم بحق، هو عالم الفيزياء الهندي المعروف زين العابدين عبدالكلام، الذي إليه يعود الكثير من الفضل في تطوير البرنامج النووي ومنظومة الصواريخ في بلده، والذي اختير، تقديراً لمكانته الكبيرة بين أبناء شعبه، لأن يكون رئيساً للهند في الفترة بين 2002 و2007، وتوفي في يوليو/ تموز 2015.

عنوان الكتاب هو «رحلتي»، مع عنوان شارح: «تحويل الأحلام إلى أفعال»، وهو عبارة عن سيرة يلامس فيها المؤلف جوانب رهيفة وإنسانية في حياته الحافلة، مذ كان طفلاً في بلدة هندية هانئة، ولد في عائلة فقيرة، ما اضطره أن يقوم ببيع الصحف وهو لم يزل في الثامنة من عمره، حيث كان يصحو في فجر كل يوم لإنجاز تلك المهمة قبل أن يتوجه لدروس تعلم القرآن، ومن بعدها يلتحق بصفه المدرسي.

نشأ عبدالكلام في بيئة من التسامح الديني والطائفي وهو أمر سآتي عليه في حديث لاحق، حيث أظهر وهو صبي صغير علامات النبوغ والشغف بالمعرفة، وقد انعكس ذلك في تكوين شخصيته الرحبة، الزاهدة، الدؤوبة، المحبة للعمل والمتفانية فيه، من أجل وطنه وشعبه.

هذا كتاب أنصح كل شاب وشابة في عالمنا العربي بقراءته، ولا أستثني من هذه النصيحة من لم يعودوا شباناً، فهو يكتنز تجربة إنسانية عميقة تعلمنا كيف نبلغ النجاح، لا على الصعيد الفردي المحض فقط، وإنما على الصعيد الجمعي أيضاً.

وأكثر من ذلك فهو دليل لتحدي الفشل، وعدم الاستسلام أمامه، فلكي يبلغ عبدالكلام ما بلغه من شأو مرّ في حياته بتجارب كان يمكن لها أن تثنيه عن مواصلة طموحاته، داعياً إيانا أن نتعلّم كيف نحوّل الفشل إلى نجاح لاحق.

نحن إزاء رجل نجح في أن يجعل للأحلام أجنحة، عاشق للكتب، التي يعتبرها أصدقاءه المفضلين، وإزاء شاعر مرهف وإنسان محب للموسيقى ومفعم بالحكمة.

اقرأ المزيد

عن الخطاب اليومي

للمفكر اللبناني المغدور مهدي عامل كتاب عنوانه «نقد الخطاب اليومي». وإن لم تخن الذاكرة، فإن الرجل اغتيل قبل أن يكمل الكتاب، أو يضعه في صيغته النهائية، ولكن المخطوطة كما تركها صدرت في كتاب، هو عبارة عن تشخيص نقدي صارم لبعض ما كان كتاب لبنانيون ينشرونه في الصحافة آنذاك.
يمكن القول، إن الكتاب عبارة عن تشريح للفكر المرتجل، غير المتأني، السريع في إطلاق الأحكام دون تحليل كاف، ما يجعل أصحابه عرضة للتقلبات، كيفما تقلبت أهواء السياسة يمنة أو يسرة.
بهذا المعنى، فإن الكتاب تحليل لخطاب النخبة، وهو خطاب يسهم في صنع الرأي العام أو توجيهه في هاته الوجهة أو تلك.
لكن هناك خطاباً يومياً آخر نابعاً من قلب البيئة الشعبية الصميمة، مطحوناً بالخبرة المتراكمة والمتوارثة عبر أجيال. ومع أنه خطاب خالٍ من فذلكة المثقفين، إلا أنه يختزن في ثناياه الحكمة والفطنة، اللتين يتحلى بهما البسطاء من الناس، الذين يُكوّنون معارفهم وخبراتهم من الحياة نفسها، لا من بطون الكتب، ويعبّرون عنها بجمل قصيرة، مكثفة، لكن لو تأملنا في مضمونها لوجدناها شديدة العمق والدلالة.
في هذا السياق، يمكننا أن نشير إلى ما فعله الدكتور أحمد زايد، حين اختار مجموعة كبيرة من التعبيرات باللهجة العامية المصرية، كثيرة التردد على ألسنة الناس في حياتهم اليومية، للتعبير عن اهتماماتهم وهمومهم وخبراتهم، واضعاً إياها في بضع خانات كالتشبيه والمبالغة والوصف والتصنيف.
ومن أمثلة ما ورد في خانة التشبيه نجد تعبيرات من نوع «الفلوس عاملة زي الملح مش عارف بتروح فين»، أو «دماغه بتلق زي البيضة». أما في خانة المبالغة فنجد تعبيرات من نوع «الأسعار ولعت»، «المرتب اتبخر»، «الأخبار زي الأهرام»، «يدفع دم قلبه»، «النواية تسند الزير»، «سمن على عسل». وفي خانة الوصف نصادف تعبيرات من نوع «نايم في العسل» لوصف المهمل أو الكسلان، «تور الله في برسيمه» لوصف الغبي، و«بغبغان» لوصف كثير الكلام أو الثرثار، و«الجردل» لوصف الشخص الإمعة، «لا يعرف راسه من رجليه» للتعبير عن عدم تحديد الهدف، «والليمونة في بلد قرفانة» لوصف الندرة، «لا أنا طايل السما ولا الأرض» للتعبير عن الحيرة.
أما في التصنيف فيجري تداول تعبيرات من نوع: «العسل عسل والبصل بصل»، «الأنصاص قامت والقوالب نامت»، «أبوك البصل وأمك الثوم ومنين لك الريحة يامشموم»، «ناس هايصة وناس لايصة»، «حبة فوق وحبة تحت». تعبيرات بهذه المعاني نجدها باللهجات العربية الأخرى، وهي في جلها تتوسل مشاهد من الحياة اليومية والبيئة المحيطة لتوجز أفكاراً عميقة في كلمات بسيطة، قليلة وشديدة التركيز والتكثيف.

 

اقرأ المزيد

ترامب الأوروبي

تصلح للقياس الطريقة التي تعامل معها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع المستشارة الألمانية ميركل اثناء زيارتها الأخيرة حول النهج الذي سيتعامل به مع أوروبا عامة، مع مراعاة الاستثناء البريطاني، بعد أن أصبحت بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي.
لقد أظهر ترامب قدراً هائلاً من التعالي والغرور والصلف في التعامل مع ميركل، التي لم يشفع لها كونها امرأة، كان يجدر به أن يُظهر تجاهها شيئاً من اللطف، ولم يشفع لها كونها تقود الدولة الأهم في الاتحاد الأوروبي من حيث الوزن السياسي والاقتصادي.
مع ذلك بدا ترامب في تعاليه عليها كأنه إزاء رئيس دولة صغيرة فقيرة من بلدان العالم النامي، أتاه يطلب العون، لا إزاء سياسية مسموعة الكلمة في أوروبا والعالم كله.
في تفسير ذلك، سنعطي حيزاً لكون ترامب، بتعامله هذا كان ينتقم من عدم الترحيب الأوروبي به، في البداية كمرشح للرئاسة، وتالياً كرئيس، وهو ما أظهرته ألمانيا خاصة تجاهه، بعد تهديداته للأوروبيين بأن يدفعوا لواشنطن أموالاً لقاء ما تقدمه لهم من حماية.
لكن الأمر أبعد من مجرد الانتقام، فهو يتصل بالرؤية التي يتبناها ترامب بأن تكون أمريكا أولاً كما يردد، ما يجعله لا يرى في الدول الأخرى، مهما عظمت وكبرت، سوى أجرام صغيرة في الفلك الأمريكي الجبار الذي يتخيله.
لذا نراه لا يتورع عن تقريع القادة الأوروبيين كلما تسنى له ذلك لأنهم لا يقدمون لبلده ما «تستحقه» من أموال، وهو لم يتردد في أن يكرر ذلك أمام وسائل الإعلام وبحضور ميركل في المؤتمر الصحفي الذي جمعه وإياها في البيت الأبيض بعد محادثاتهما.
لكن ما يغفله ترامب هو أن أسلافه، وخلفهم دوائر رسم القرارات في المؤسسات الوازنة في البنية السياسية – الإدارية الأمريكية، وهم يضعون ويسيرون الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا لم يكونوا يفكرون في أمن أوروبا بذاتها ولذاتها، وإنما أساساً في الأمن القومي الأمريكي.
بُني ذلك وفق العقيدة الأمنية والعسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وما جاءت به من خريطة جديدة، حيث تعاظم نفوذ الاتحاد السوفييتي في أوروبا بقيام منظومة الدول الاشتراكية في محيطه، ما جعل أمن غرب ألمانيا وبقية أوروبا التي عرفت بالغربية هاجساً أمريكياً، استدعى من الولايات المتحدة تأمين أقصى ما تستطيع من حضور عسكري لضمانه.
زوال المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي قلل من الشعور بالخطر، لكن لم ينهه. ولا معنى لتهديد ترامب للأوروبيين: إن لم تدفعوا سنترككم تدبرون أمنكم بأنفسكم، لأنه ليس بوسع الولايات المتحدة أن تدير ظهرها لأوروبا، كونها بذلك تقامر بأمنها هي في المقام الأول.

اقرأ المزيد