المنشور

الوَحدة الوطنية وآفاقها

هناك مفاهيم مختلفة للوحدة الوطنية، وتعريفات بعض متباين عن بعض، وبعضها مختلف عن بعض، وربما يصل حد الاختلاف إلى وجود بونٌ شاسع بين تعريف وتعريف، ولكنها في النهاية لها مؤشرات متقاربة إلى حد كبير.

فالوطني في رأي عادل محمد صادق، هو من عاش في الوطن، وتفاعل معه اجتماعياً واقتصادياً، وفيه اختيار للوطن عن طيب خاطر، وفيه طول المُكث الذي ينمّي العلائق التاريخية مع المحيط. والوَحدة في بعض آراء الباحثين هي أيضاً تقارب واتفاق اختياري بين المجموعات التي تعيش في الإقليم ذاته، ينطبق على الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي تدرك بوعيها الظاهر أو الباطن، أن هذه المجموعات والأفراد مترابطون، ولا يمكنهم النهوض والنماء إلا بالحفاظ على تماسكهم جميعاً.

والوحدة الوطنية عند البعض هو التعايش بين الطوائف والأعراق، وعند بعض العلماء هي الالتفاف حول الراية الوطنية، كما أن (لوك) يراها تتم في قيام سلطة عامة يقبل بها جميع أفراد الشعب وفق إراداتهم الحرّة، فتكون السيادة للشعب، ويجب أن يأتي الحكام من الشعب، لتتطابق المصالح والإرادات معاً.

وإذ يرى البعض أن الوحدة الوطنية عبارة عن بوتقة تنصهر فيها المصالح الضيقة والفئوية في النطاق الوطني الأعلى؛ فإن إنجل يعتبر الوحدة الوطنية تكاملٌ تفاعلي مستمد من علاقات التأثير والتأثر المتبادل بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، ثم بين الجماعات بعضها ببعض، بما يزيد ويدعم تضامنهم الداخلي.

ويذهب الباحث الكندي غلين ويكشفن إلى التحديد أكثر بقوله إن الوحدة الوطنية هي الأثر الذي يحدث نتيجة أسباب معينة في المجتمع، حيث تقود هذه الأسباب إلى ترابط الشعب مع بعضه البعض، وهذا الترابط من شأنه أن يمنع دعوات الانفصال.

وإن لإدامة هذه الوحدة الوطنية، لا بد من معرفة الأسباب التي تؤدي إلى تدميرها مثل: انعدام الأمن، وتأكيد المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والتمييز بين المواطنين من قبل الحكومة، ووجود محسوبية في أجهزة الدولة.. ويرى الباحث الكندي أن زيادة الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية ليس حلاً لتحقيق الوحدة الوطنية، بل إن أفضل الحلول (من وجهة نظره) تأكيد الحريات الفردية للمواطنين.

وحتى لا أدخل في استعراضات مطوّلة لما قاله الباحثون والعلماء في القرون الماضية إلى الحاضر في شأن الوحدة الوطنية، منذ أن تكونت الدولة الحديثة؛ فإننا ندرك – ولا شك – بالحسّ المجرّد ما الذي يجعل أن بلد ما تثور حميّتهم تجاه أي قدح وذمّ موجه إليهم، سواء بالحق أو بالباطل. بل ويحدثني أحد الأخوة أنه على الرغم من أن عدداً من أقربائه كان مسجوناً في أحداث التسعينات، فإنه لم يجد نفسه إلا مدافعاً على كل ما يخص البحرين، ورجالات الحكم فيها، إزاء تعريض واحد من غير البحرينيين بهم… إنها حميّة محمودة إلى حد كبير، والإبقاء عليها اليوم بات من الأمور الصعبة جداً، والمحزنة جداً في الوقت نفسه.

هذه الحميّة هي التي تجعل الكثير ممن نعرف من أبناء الوطن العربي يتبرّمون، ويجأرون بمرّ الشكوى، من أوضاع بلادهم، ومما تعانيه، ومن أناس بأعينهم، وأنظمة، وسياسات، ولكنها أبداً لا تقبل معشار هذا الكلام إن جرى على لسان الغير، وهذا ما أعتقد أننا مررنا به جميعاً ولو ادّعى بعضنا التجرّد والعقلانية والاعتدال.

الاختلافات والتباينات بين التعريفات كثيرة جداً، وهذا شأن جميع الأمور غير المحسوسة، أو غير المادية، كتعريف الحب مثلاً، أو الصداقة، أو العلاقات الأسرية، ففيها جوانب نفسية ولاشك، وفيها جوانب مادية أيضاً، ولكننا لا نعرف بالتحديد أين تقف الأولى من الثانية، وما العوامل الأكثر أهمية، وما الذي يسبق ماذا، وما هي الفطرة وما هي الماديات في هذا كله، كل ما نعرفه أننا ننتمي إلى وطن، ولا نعرف لماذا نحبه، ولماذا نفديه، ولماذا نغار عليه، ولماذا نذود عنه، مع أن هذا الوطن (أي وطن كان في الدنيا) ليس هو الأجمل، ولا الأكمل، وفيه من المعايب ما فيه.. ولكنه يستحق من المواطنين أن يكونوا له فداء.

الوضع في البحرين:

تعالوا لنتساءل: هل كان البحرينيون في وحدة وطنية ذات يوم؟

غالباً ما نتفاخر بالماضي حينما كان الناس يعيشون في وئام، وبروح الأسرة الواحدة، والتعاون بين الأطراف، والتزاور في المناسبات الدينية والاجتماعية.. ولكنني أختلف مع هذا الطرح الطوباوي. فلو كان الناس ملتئمين إلى هذا الحد، لما وقعت احتكاكات سجلها التاريخ المعاصر، وراح ضحيتها أشخاص.

ولو ألقينا باللائمة على الاستعمار وعملائه، فإن الأمور لا تنجح إلا إن كانت هناك أرضيات قابلة لانفجار الأوضاع، وانقلابها إلى الأسوأ.

وأيضاً لما حدث الحادث الذي أدى إلى التوتر الشديد والذي كاد أن يفضي إلى مواجهات طائفية، لولا نفر من الوطنيين ذوي الرؤية الثاقبة التي كانت تعمل منذ سنوات على لمّ الشمل وتوحيد الجهود ضد المستعمر، فرأوا في هذه الحادثة خير بداية حقيقية لحركتهم.

ومما يؤسف له أيضاً، أن الإسفين الذي شقّ التماسك بين قيادات الهيئة أيضاً دُق على أسس غير وطنية، وإنما دينية وطائفية.

ويمكننا تذكر الماضي القريب عندما كان اليسار يتراجع مع صعود التيارات الإسلامية كيف انقسم الناس إلى طائفتين كبيرتين مع الثورة الإيرانية وما أعقبها من حرب ضروس استمرت ثماني سنوات.

والماضي الأقرب كان في أحداث 2011، حيث زاد الانقسام حدة، وعاد أكثر الناس إلى منابعهم الإثنية والمذهبية، حتى وإن كابروا، فهذا التراجع والتمترس ما كان ليخفى على أحد، وعلى الرغم من الكثير من السلبيات التي حاقت بالحراك في ذلك الحين، إلا أنه كما يقول الشاعر:

جزى الله الشدائد كل خير      عرفتُ بها صديقي من عدوّي

وإذ ليس بيننا عدو، وإنما هي وجهات نظر متباينة، فإن الوضع الحاد الذي كانت عليه البحرين، أفرز بدوره مواقف حادة جداً، وفي بعض الأحيان مرعبة… ولكنها واحدة أيضاً من تجليات الوحدة الوطنية لدينا، ومدى هشاشتها.

والغريب في الأمر أن الحنين إلى الماضي يلازمنا في كل ما تقدم، فما أن يمر بنا موقف حتى تمنينا لو أن نعود إلى ما كنا عليه قبلاً، وهكذا الوضع حتى في العام 2011، صرنا نفضل لو أننا مجتمعياً لا نزال في 13 فبراير من ذلك العام… على الرغم من أن ما حدث بعد ذلك يقول أن الأرضية التي كنا نقف عليها من الرخاوة والرقة لكي يأتي حدث مثل هذا ويشققها من تحت أرجلنا، ويجعل الكم الأكبر من الناس هنا يتخبطون في بحر لجّي قذر من التعاطي مع الأمور بشكل طائفي.. بعضنا كان قريباً من الساحل فما كان منه إلا نجا بنفسه… ومنا من بقي في اللج، لا يريد أن يصل إلى شاطئ النجاة، بل ويريد أن يجرّ الآخرين إلى حيث هو… بعضهم استمتع بهذه التجربة، أو استفاد أو لمع نجمه، فلا يريد لها أن تنتهي، وبعضهم ثاب إلى رشده… وقلة قليلة جداً لم تتسخ بهذا الذي وقع، إلا برشاتٍ من هذا الماء الآسن.

كيف الخروج؟

إننا إذا ما أردنا الخروج من هذا الذي ولجنا فيه، والذي ولج فيه الذين سبقونا من قبل؛ علينا فتح قنوات شعبية أكثر للحوار بين مكونات هذا المجتمع.

على المخلصين منا للوحدة الوطنية أن يتحمّلوا نزق الطرح الأحادي، كما أن عليهم أن يدركوا أن هناك من هو مدفوع (سواء من قبل الآخرين أم من قبل نفسه… سواء كان ذلك بأجر أو وعد بأجر… أم أنه إيمان منه بفضل الغشاوة التي تكون أحيانا على العيون) لتفخيخ أي حوار.. وتسميم أي مبادرة، وهنا يأتي دور الوعي لتفويت الفرصة على أمثال هؤلاء.. والتاريخ يحفل بالكثير من هذه القصص التي ينجح فيها مثيرو الفتن.. وهذا يعتمد على صلابة المبادرات والقائمين عليها، ومدى قدرتهم على التصدي لمثل هذه المحاولات.

آفاق الوحدة الوطنية ستجد في البحرين صعوبة أساسية لا فكاك منها…

لأنها لا تبنى على شيخ شيعي يقابله شيخ سني.. ولا على جمعية وجمعية أخرى مما استشرى وأفسد المشهد السياسي برمّته في البحرين.. إنما يقوم على النفر من المواطنين الذين في الغالب ليست لهم معارك سياسية إبّان الأزمة الأخيرة… ولا أحد يمكنه أن يحسب عليه موقفاً يميل إلى هذا الاتجاه أو ذاك… ولكن من أين يمكن لأشخاص غير فاعلين,… وغير متفاعلين في الأزمات أن يخلقوا اليوم توازناً في المجتمع ويكونوا مقبولين؟؟ كم سيحتاجون من القوة والصبر والتحمل ليخترقوا المؤسسات الدينية والمجالس الأهلية، ويتحملوا كل الكيل والاتهامات والمطالبة باعتذار الآخر، والتراجع عن مواقفه… من ذا الذي يمكنه التصدي لمثل هذا العمل العظيم الجليل من دون أن توضع في عجلاته العصي لتعطيل مسيرته؟!

هذه إشكالية أطرحها علينا جميعاً لنخرج منها.. أرجو أن نخرج منها بما يمكن أن يشكل تياراً جديداً حتى لو استدعى الأمر أن ننتحي جانباً إكراماً لعيون هذا الوطن وندع آخرين يخيطوا ما انفتق.