المنشور

أزمة وصراع طبقي: من منظور عالمي 2016

المصدر: مجلة In Defence of Marxism مارس 2016

ترجمة: غريب عوض

المقال التالي هو الجزء الأول من مُسوّدة الوثيقة التي سوف يتم مناقشتها في المؤتمر العالمي للمسار الماركسي الدولي في هذا الصيف. إن الهدف الرئيس لهذهِ الوثيقة هو تحديد المسارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم اليوم ووضع تصوّر للصراع الطبقي في الفترة القادمة.

بدأ العام 2016 بهبوط حاد في سوق الأوراق المالية في الصين والذي كان له تأثير في جميع أنحاء العالم، نتج عنه حالة من الذُعر بين المُستَثمرين. ويُعبر هذا الارتباك عن مخاوف البرجوازية بأن العالم يتجه نحو ركود اقتصادي جديد. إن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ انتعاش وركود. إن هذهِ الدوّرة سوف تستمر إلى أن تنتهي الرأسمالية، تماماً مثل ما يتنفس المرء شهيقاً وزفير إلى أن يموت. إلا أنهُ بالإضافة إلى هذهِ الحوادث، يمكن للمرء أن يرى فترات أطول، ومنعطفات من النمو والانحطاط. لكلُ فترة ملامح مُختلِفة تتسم بالتأثير المصيري على الصراع الطبقي.

إن البعض من مثل نيكولاي كوندراتييف Kondratiev Nikolai الإقتصادي الروسي المعروف ومُقلديه المُحدَثين، قد حاولوا تفسير هذا بطريقة ميكانيكية. أصبحت أفكار كوندراتييف رائجة هذهِ الأيام، لأنها تفترض مُقدماً بأن كل فترة هبوط ستتبعها حتماً فترة صعود طويلة. إن هذا التفكير يُقدم قليل من الطمأنينة المطلوبة عند اقتصاديي البرجوازية الذين يعصرون أذهانهم في مُحاولة لفهم طبيعة الأزمة وإيجاد مَخّرَج لها.

          إن الوضع العالمي الحالي يتميز بأزمة على كل المستويات: الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي والدبلوماسي والعسكري. إن السبب الرئيس للأزمة هو عدم مقدرة الرأسمالية تنمية قوى الانتاج على نطاق عالمي. تعتقد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بأنهُ سوف لن يكون هناك نمواً مُهماً لمدة خمسون عاماً على الأقل. سوف تستمر فترات الانتعاش والركود، ولكن المسار العام سوف يكون إلى الانحدار. وهذا معناه أن الشعوب تواجه عقودٌ من الركود أو الهبوط في المستوى المعيشي وأن الوضع سوف يكون أسؤ في الدول المُسماه بالدول النامية. وهذهِ وصفة جاهِزة للصراع الطبقي في كل مكان.

ركود جديد يلوح في الأفق

          يميل استراتيجيو الرأسمالية الأكثر جدية إلى التوصل إلى نفس النتائج التي توصل لها الماركسيون، بالرغم من تأخير مُعيّن، ومن وجهة نظرهم الطبقية. ويظهر تفاؤل اقتصاديي البرجوازية في توقعاتهم لفترة من “الركود الاقتصادي العالمي”. يُشير صندوق النقد الدولي إلى أن الأزمة المالية العالمية كانت أسوء من الحلاقات السابقة للهيجان ويُحذّر بأن يجب على مُعظم الاقتصاديات الكُبرى أن تستعد لفترة طويلة من معدلات النمو المنخفضة.

          إن تقارير صندوق النقد الدولي يكتنِفُها التشاؤم. لقد خفضت توقعاتها بشكل مُتكرر. بالنسبة إلى توقعات عام 2012، قام صندوق النقد الدولي بمراجعة تقديراته لمستوى الناتج المحلي الإجمالي GDP للولايات المتحدة الأمريكية لعام 2020 انخفاضاً بنسبة 6%؛ وأوروبا بنسبة 3%؛ والصين بنسبة 14%؛ والأسواق الناهِضة بنسبة 10%، ونسبة 6% للعالَم بمجموعهِ. إن النمو في الدول الصناعية لم يتجاوز 2% على مدى الأربعُ سنوات المُنصَرِمة.

          يُقدر صندوق النقد الدولي معدل النمو طويل الأمد في الدول الغنية بنسبة 1.6% سنوياً فقط من عام 2015 إلى 2020، مُقارنة بـ 2.2% من عام 2001 إلى 2007. وبالطبع إن هذا يفترض بأن سوف لن يكون هناك ركود، ولكن ذلك بالضبط الذي لا يمكن افتراضه. كُلُ شيء يُشير إلى ركود عميق جديد على نطاق العالَم.

          بكلمات كرستين لاغارد Christine Lagarde المدير العام لصندوق النقد الدولي، ”وكذلك أصبحت توقعات النمو على المدى المتوسط أكثر ضُعفاً. إن ’الوضع الهزيل الجديد‘ الذي حذّرتُ منه مُنذُ عام واحد بالضبط – مغبة النمو المنخفض لفترة طويلة – أصبح وشيكاً … فالديون الكبيرة، وانخفاض في الاستثمار، والبنوك الضعيفة لاتزال تُثقلُ كاهل بعض الاقتصادات القوية، خاصةً في أوروبا؛ وتستمر الكثير من الاقتصادات الناهِضة في مواجهة التعديلات بعد أزمتها المالية الفائِتة وانتعاش استثماراتها“

          وحذّرتْ لاغارد Lagarde بأن تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين سيكون لهُ تأثيرات مُتداعية على الدول التي تعتمد بشدة على طلب الصين للمواد الخام التي لديها. وقالت، كانت هناك إمكانية لفترة مُطوّلة لأسعار سِلع مُنخفضة، خاصةً في الكميات الكبيرة من تصدير السِلع. واشتكت من انخفاض الانتاج الذي يحدُ من النمو. ولكن هذا هو التوضيح الذي لا يوضحُ شيئاً.

          وتُحذر لاغارد Lagarde، “إن المخاطرُ تتفاقم”. “نحنُ في حاجة لوصفة جديدة.” ولسوء الحظ هي لا تُرشِدونا إلى هذهِ الوصفة الجديدة. ولكن صندوق النقد الدولي ترك كتاب الطبخ لدية مفتوحاً على الصفحة التي كُتِبَت فيها وصفة قديمة جداً، وهي: استدعاء الشخصيات السياسية في “دول الأسواق الناهِضة” لتنفيذ الاصلاحات الهيكلية،” وهي أن تفتح أسواقها لنهب الرأسماليين الأجانب ولعقار الدولة الخاص، وأن تجعل أسواق العمل أكثر ”مرونة“ بمعنى، أن تتخذ الإجراءات التي سوف تُفضي إلى مزيد من الهجمات على الوظائف والأجور وظروف العمل.

          في قلب الأزمة الحقيقة التي تُشير إلى أن الاستثمار المُنتِج – الأساس لأي انتعاش – هو في حالة انهيار. إن الإنفاق على الاستثمار من المُتوقع أن يبقى أدني من مستويات ما قبل الأزمة حتى وإن استمر الانتعاش الاقتصادي البطيء الراهن. وهذا يعني أن النظام الرأسمالي قد بلغ حدوده على المقياس العالمي بل هو في الحقيقة ذهب إلى ما وراءه. إن هذهِ الحقيقة تجد التعبير عنها في جبال الديون المُتراكِمة التي وَرَثها النظام من الفترة الماضية. لقد كانت الشركات المُتعددة الجنسيات على مدى سنين عديدة تستثمر بكثافة في “الاقتصادات الناهِضة”، ولكن هذا قد تباطأ الآن إذا أخذنا بعين الاعتبار الإسراف في الانتاج (”الطاقة ألزائدة) الذي يؤثر في اقتصاداتها.

          لقد فقد الرأسماليون ثقتهم في النظام. وهم يجلسون على كوّم من مليارات الدولارات. ما الفائدة من الاستثمار من أجل زيادة الانتاج وهم لا يستطيعون استخدام الطاقة الانتاجية التي بين أيديهم؟ وانخفاض الاستثمار معناه أيضاً كساد في إنتاجية العمل. إن الانتاجية تنمو في الولايات المتحدة بنسبة بائسة تبلغ (6.0% في السنة. إن الرأسماليون لا يستثمرون إلا من أجل الرِبح، ولكن ذلك يفترض مُسبقاً بأن هناك أسواق يُباع فيها إنتاجهم. إن السبب الأساسي لعدم قدرتهم على الاستثمار بنجاح من أجل تنمية الانتاجية هو أن هناك أزمة إسراف في الإنتاج على نطاق العالم كُله.

          وبدلاً من أن يستثمروا في مصانع وآلات وتكنولوجيا جديدة، تراهم يحاولون زيادة الانتاج عن طريق تخفيض الأجور الحقيقية في سباق إلى القاع في كل مكان. ولكن هذا لا يفيد إلا في تفاقم التناقض بواسطة تخفيض الطلب، والذي بدورهِ يُفضي إلى مزيد من التدهور في الاستثمار.

          إن النمو في إنتاج مُحتمل في الدول الرأسمالية المتطورة يُقدّر بـ 6.1% في السنة بين عامي 2015 و2020، وفقاً توقعات صندوق النقد الدولي IMF. إن هذا أعلى بقليل من معدل التوسع في السنوات السبع الماضية، ولكنهُ أقل بكثير من مُعدلات النمو قبل الانهيار، حينما توسع الناتج المُحتمل إلى نسبة 25.2% في السنة. وحتى ذلك الرقم كان بائساً حين مقارنتهِ بالإمكانية الضخمة للصناعة والعِلم والتكنولوجيا الحديثة. غير إن، الآن الإقتصاد جاثماً على رُكبتيه يحبو، ومع هذهِ الحال فإن ذلك التقدير غير مؤكد.

          إن انخفاض الأسعار ومعدلات الاستثمار المنخفضة، التي عادةً تكون أخبار سارّة، أصبحت الآن خطرٌ مُهلِك. إنها مرآة عاكسة للركود الاقتصادي ولإنخفاض الطلب. إن مُعدلات الاستثمار مستمرة بالانخفاض على مدى العقد الماضي. لقد بلغت أدنى مستوياتها، حتى أنها أصبحت سلبية. ووفقاً أندي هالدين Andy Haldane الخبير الاقتصادي لمصرف إنجلترا، هذهِ أدنى المُعدلات منذ خمسة أعوام.

          الانخفاض في النمو والانخفاض في التضخم وغياب معدلات الاستثمار أضاف إلى ما أسماه خُبراء البرجوازية الاقتصاديين بالركود العالمي. إن المُحرِك الاقتصادي للإقتصادات الصناعية يكاد يتوقف عن العمل. ولا يمكن المحافظة على هذا الوضع لفترة أطول. ووفقاً لخُبراء الرأسمالية الاستراتيجيين، إن المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي أكثر شِدة من أي وقت مضى مُنذُ إفلاس شركة الأخوة ليمان Lehman Brothers في عام 2008.

          تَمَثّلَ خير تعبير عن مخاوف البرجوازية في كلِمة ألقاها أندي هالدين Andy Haldane في سبتمبر/أيلول 2015. لقد حَذّرَ: ”تُشكل الحوادث الأخيرة الجزء الأخير من ما يمكن أن يُطلق عليه أسم ثُلاثية أزمة الثلاث – أجزاء. كان الجزء الأول من تلك الثُلاثية هو أزمة ’الأنجلو ساكسون‘ لعام 2008-2009. وكان الجزء الثاني هو أزمة ’المنطقة الأوروبية‘ لعام 2011-2012. وربما نحن ندخل المراحل المُبَكِرة للجزء الثالث من الثُلاثية، وهي أزمة ’السوق الناهِضة‘ لعام 2015 وصاعداً.“

          إن المشكلة للبرجوازية هي أنها استنفدت الآليات التي تحتاجها للخروج من الركود أو للتخفيف من تأثيره. وحينما يحدث الركود التالي (وهي مسألة حينما، وليست مسألة إذا) ستنقصها الأدوات كي تستجيب. وتظل معدلات الاستثمار منخفضة جداً والمستويات العالية المُستمرة للديّن تستبعد دفع المزيد من أموال الدولة. ”إن الأدوات اللازمة لمثل هذا الظرف ليست في مُتناول اليد الآن،“ حسب تعبير الاقتصادي مارتن وولف كويلي Martin Wolf coyly.

الديّن العالمي والدول الخمس الناهِضة أل BRICS

          مُنذُ أن بدأت الأزمة والديْن العالمي حقيقةً يزداد. إن أمل التعافي المالي قد حدثَ ولكن في أجزاء قليلة متفرقة فقط من الاقتصاد العالمي. إن مستوى الديْن بلغ مقياساً غير مسبوق. لقد وصل الديْن الحكومي في زمن الحرب إلى المستويات الراهِنة، ولكن لم يصل إلى هذهِ المستويات قط في زمن السِلم، ولم تبلغ ديون الأسرة والمؤسسة من قبل قط إلى مثل هذهِ المُستويات. كان الديْن قبل الأزمة يرتفع في كل مكان. ففي الولايات المتحدة بلغ 160% من الناتج المحلي الإجمالي GDP في عام 2007 وفي بريطانيا بلغ ما يُقارب 200%. وفي البرتُقال بلغ مثل هذا الديْن 226.7% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2009. وفي عام 2013 كان لا يزال بنسبة 220.4%. وتبلغ نسبة مجموع الديْن في الولايات المتحدة الآن 269% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم يبلغ مثل هذا المستوى من قبل إلا مرة واحدة في التاريخ. كان ذلك في عام 1933 عندما بلغ 258%، وبعدها انخفض سريعاً إلى 180%.

          كان القصد من نظام التقشُف هو خفض حجم الديْن، وبشكل خاص ديْن الدولة. ولكن الأرقام تُظهِر بأن هذا ليس هي القضية. في تقرير معهد مكنزي الدولي في فبراير/شباط 2015، وجدنا أن الديْن العالمي قد أزداد بنسبة 57 مليار دولار مُنذُ عام 2007، أو من 269% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 286%. وهذا يحدث في كل قطاع من الاقتصاد العالمي، ولكن مع الديْن الحكومي بشكل خاص، والذي يرتفع بنسبة 9.3% سنوياً. إن هذا الارتفاع في مستويات الديْن يحدث أيضاً بشكل خاص في كل دولة. بعض الدول فقط التي تعتمد على الصين أو على أسعار النفط كانت تُخفض مستويات الديْن لديها، ولكن هذا وصل إلى نهاية فجائية خلال السنتين الماضيتين. إن هذا الجبل الضخم من الديون يعمل كعبء ثقيل على الاقتصاد العالمي، حيثُ أنهُ يكتم الطالب ويُبطأ الانتاج.

          إن جميع الاقتصادات التي تُسمى البركس BRICS هي في أزمة: فدول مثل البررازيل والهند وروسيا تمر في ظروف صعبة. بل أن البرازيل وروسيا تُعانيان من الكساد. وأن التباطؤ في ما تُسمى الأسواق الناهِضة بدأ حتى أشد حِدةً من ما هو عليه في الدول الرأسمالية المتقدمة. يتوقع صندوق النقد الدولي بأن انتاجها المُحتمل، الذي استمر في التوسع تجاه الأزمة، محتم أن يتراجع من 6.5% في السنة بين عام 2008 و 2014 إلى 5.2% في الخمس سنوات القادمة.

          كان النمو في هذهِ الاقتصادات واحداً من العوامل الرئيسة التي منعت أزمة عام 2008 من أن تتطوّر إلى ركود عميق في الاقتصاد العالمي. قُدِرَ نصيب ما تُسمى الأسواق الناهِضة بـ 80% من النمو العالمي على مدى الخمس سنوات الماضية. إن هذهِ الأسواق، خاصةً الصين، لعِبت دور المُحرِك للإقتصاد العالمي قبل الركود وبعده. كانت مجالاً مُهِماً للاستثمار سابقاً، عندما كانت المَخْرَجات المُربِحَة نادرة في الغرب.

          ولكن ذلك الآن انقلب إلى عكسهِ. من كونها العامل الذي أنقذ الرأسمالية العالمية أصبحت الآن الخطر الرئيس الذي يُهدد بإنهيار كامل الاقتصاد العالمي. إن ارتفاع الديْن على نحوٍ مثير لم يقتصر على الاقتصاديات النامية تقليدياً. بل أن ديون ما تُسمى الأسواق الناهِضة قد ارتفعت إلى أبعاد غير مسبوقة. تُبين دراسة ماكنزي أن مجموع ديْن ”السوق الناهض“ ارتفع إلى 49 مليار دولار في نهاية عام 2013، بنسبة 47% من النمو في الديْن العالمي مُنذُ عام 2007. وذلك أكثر من ضعفي نصيبه من نمو الديْن بين عامي 2000 و 2007.

          وفقاً لصندوق النقد الدولي، عانت مجموع مدخرات العملة الاجنبية التي تمتلكها ”الأسواق الناهِضة“ في عام 2014 (مؤشر مهم لتدفق رأس المال) أول تراجع سنوي مُنذُ أن بدأت السِجلات عام 1995. إن هذهِ التدفقات لرأس المال تشبه تدفق الدم إلى شخص في حاجة إلى نقل دم. وبدون التدفق المستمر لرأس المال سوف لن تحصل ما تُسمى الاقتصادات الناهِضة على المال لتُسدد ديونها وتموّل عُجوزاتها وهي تستثمر في البُنية التحتية وفي التوسع في الانتاج. وتنقل محطة البي بي سي BBC أرقام من المركز الدولي للدراسات النقدية والمصرفية (ICMBS):

”مُنذُ عام [2008] حين ذاك، إنه العالم النامي، خاصة الصين الذي دفع بزيادة الديْن. بالنسبة للصين، يوضح التقرير الزيادة في الديْن ك ”رئيسي.“ مُستثنياً الشركات المالية لديها زيادة بنسبة 70 بالمائة تُشير إلى مستوى أعلى بكثير من أي اقتصاد ناهض آخر. يقول التقرير أن هناك زيادات واضحة في تركيا والأرجنتين وتايلند.

          إن ”الاقتصادات الناهِضة“ تُقلق بشكل خاص مُعدي التقرير: ”قد يكونوا في مركز زلزال الأزمة القادمة. على الرغم من أن مستوى الرفع أعلى في الأسواق المُتطوّرة، إلا أن سرعة عملية الرفع الأخيرة في الاقتصادات الناهِضة، خاصةً في آسيا، هي بالفعل قلق مُتزايد.“

          إن بعض تدفقات رأس المال البارِزة تصدر من الدول التي تُراكِم الديون بشكل سريع. كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، شَهِدَت ديْنها لنسبة الناتج المحلي الاجمالي إلى زياد في الديْن بنسبة 45 بالمائة نقطة بين عامي 2007 و 2013، في حين أن الصين وماليزيا وتايلند وتايون تعرضت لفورة ديْن بنسب 83، 49، 43، و 16 بالمئة نقطة على التوالي.

          إن هذهِ الاقتصادات هي في تباطؤ أيضاً أو هي في ركود، تُعدُ لركود عالمي عميق في الفترة القادمة.

مشكة في الصين

          إن أكثر القضايا خطورة هي أن الاقتصاد الصيني يَمُرُ بتباطؤ حاد. إن التباطؤ في ”الاقتصادات الناهِضة“ هو بسبب الركود المُطوّل على الطلب في الاقتصادات الرأسمالية المُتقدمة من ناحية، وبسبب تراجع الصين من ناحية أخرى. إن هذا المشهد يجب أن يُترْجَم إلى تجارة عالمية ضعيفة على نحوٍ ظاهر. ومن الناحية الجدلية، كل شي في تواصل بيني، حتى يُفضي الطلب والأسواق الضعيفة إلى انتاج واستثمار ضعيفين. ويُفضي الاستثمار الضعيف إلى انتعاش ضعيف، والذي بدوره يُفضي إلى طلب ضعيف.

          يمكن النظر إلى النمو الهائل للتصنيع في الصين من الإحصائيات حيث أنهُ ما بين عام 2010 و 2013، سكبت الصين مواد مُصنعة في الأسواق أكثر مما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين بكاملِه. ولكن الطاقة الانتاجية الهائلة للمصانع الصينية لا يُعادلها نمو مُتبادل في الطلب العالمي. والنتيجة الحتمية هي أزمة زيادة الانتاج على الطلب.

          وفي الفترة حتى عام 2007، كان الأئْتمان وتعمير الداخل هما المُحرِك للطلب العالمي، خاصةً في الولايات المتحدة وأسبانيا. لقد أخذت الصين هذا الانهيار والطلب، حيثُ كانت تسكب المليارات في البنية التحتية والقروض المصرفية. تم استثمار ما يزيد على 40% من الناتج المحلي الإجمالي، والذي راكم قوى الانتاج والطلب على المواد الخام. كما أنهُ راكم طاقة زائدة هائلة.

          إن انفجار الفُقاعة في الغرب الذي بدأ في عام 2008 أفضي إلى قيام الحكومة الصينية بضخ كميات هائلة من المال في الاقتصاد. وهذا بدورة قد أفضى إلى فقاعة تخمينية هائلة وإلى تراكم هائل للديْن على جميع المستويات من الاقتصاد الصيني. إن هذهِ الفُقاعة في طريقها للإنفجار، بنتائج بعيدة الأثر على مستوى العالم. إن الصين سالكة نفس الطريق مثل اليابان، إنهُ طريق الركود المُطوّل. إن التباطؤ بدورهِ في الصين معناه إنهيار أسعار السِلع، والذي أصاب ”الاقتصادات الناهِضة“ إصابة مُوجِعة. والشيء الأكثر أهمية هو أن الصين تُمثل 16% من الانتاج العالمي و 30% من النمو العالمي. عندما تتباطأ الصين يتباطأ العالم.

          إن زيادة الانتاج على الطلب في الصين يؤثر على الحديد الصلب وعلى سِلع مُصنعة أخرى. هناك تراكم هائل للديْن، وهناك مخاوف من انهيار سوق العقار شديدة السخونة. أكثر من الف منجم للحديد الخام على حافة الافلاس المالي. وتتوقع مجلة الفايننشل تايمز: ”إن الصين بشكل خاص قد تشهد تقلص حاد في نمو الانتاج المُحتمل، حين تحاول إعادة توازن اقتصادها بعيداً عن الاستثمار ونحو الاستهلاك.“ وقد قال رئيس الوزراء الصيني لي كيكيانغ لسفير الولايات المتحدة بإنهُ يعتمد على ثلاث أشياء ليحكم على النمو الاقتصادي: استهلاك الكهرباء وحجم حمولة السكة الحديد وتسليف البنوك. على هذا الأساس صنف خُبراء الاقتصاد في مؤسسة فاثوم ”مؤشر القوة الدافعة الصينية“ من ثلاث مجمعات من الأرقام. يُبيّن المؤشر أن السرعة الفعلية للنمو قد تكون منخفضة إلى حد 2.4%. إن حجم حمولة السكة الحديد منخفضة بشكل حاد والاستهلاك الكهربائي منخفض جداً. ونتيجة لانخفاض النمو خفضت الصين معدل الاستثمار ست مرات في الإثناء عشر شهراً الأخيرة. كما أنها عوّمت عُملتها لتُنعش صادراتها، الأمر الذي صعد الخلاف مع الولايات المتحدة مما أدى إلى عدم استقرار هائل في كل مكان.

          لقد أثر تراجع النمو في الصين على الدول التي تُسمى ”الاقتصادات الناهِضة“، خاصة تلك التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الصين. إن مخاوف التباطؤ الصيني استشعرها الخبراء الصينيون أنفسهم، خاصة في انخفاضات سوق الاوراق المالية. وتدخلت السُلُطات بضخ 200 مليار دولار لتُعيد التوازن للسوق، ولكنها استسلمت في النهاية. واستحكم الذُعر بالمستثمرين. يقول، تاو ران Tao Ran إستاذ الاقتصاد في جامعة بيجينغ ”إن لم نقوم بعملية إصلاح، فإن الاقتصاد الصيني قد يتباطأ إلى درج الانهيار.“ ”إن كل ما أنجزناه في العشرون أو الثلاثون سنة الماضية سوف يذهب سُدًى.“ إن قسم الأبحاث لثاني أكبر بيت للسمسرة في اليابان، دياوا Daiwa، قام بعمل لم يسبق أن قام بهِ أحد من قبل وقدم تقريراً وضع بهِ ”إنهياراً“ مالياً عالمياً سريع، ذلك الإنهيار الذي لم يكن سِوى نتيجة لكارثة اقتصادية صينية، من أفضل مَشاهد قضاياه. وأضاف بأن أثر هذهِ الكارِثة العالمية ستكون ”أسؤ ما شهِده العالَم قط.“

التجارة العالمية

          إن أكثر التهديدات خطورة على الاقتصاد العالمي هو عوْدة الميول الحمائية. إن نمو التجارة الدولية في العقود السابقة وزيادة التقسيم الدولي للعمل (”العولَمة“) قاما بمقام القوة المُحرِكة الرئيسة للإقتصاد العالمي. بهذهِ الوسائل تمكنت البرجوازية جزيئاً ولفترة مؤقتة من التغلب على محدودية الدولة الوطنية. ولكن الآن كلُ هذا تحول إلى ضدهِ.

          والمِثال المُثير لهذا هو الاتحاد الأوروبي، الذي حاولت البرجوازية الأوروبية (بقيادة فرنسا وألمانيا، والآن بقيادة ألمانيا لوحدها) أن تتوحد في سوق واحدة وبعُملة نقدية واحدة، اليورو euro. توقع الماركسيون بأن هذا العمل مصيره الفشل وبأن أول أزمة اقتصادية حادة ستفضي إلى عودة جميع الانقسامات القومية والمتنافسين القدماء، والتي كانت مُختبِئة ولكنها لم تضمحل نتيجة للسوق الواحدة.

          إن أزمة اليورو euro الذي هبط فجأة مُقابل الدولار dollar، تعكس مدى خطورة الأزمة الاقتصادية. فأزمة اليونان ما هي إلا التعبير الأكثر وضوحاً للأزمة التي قد تفضي إلى إنهيار اليورو euro وربما إلى تفكك الاتحاد الاوروبي في حد ذاتهِ. إن مثل هذا الحدث سيكون له أخطر النتائج على الاقتصاد العالمي بكامله. لهذا السبب يحث الرئيس الأمريكي السيد أوباما Obama الأوروبيين على الاسراع في حل الأزمة اليونانية بأي ثمن. إنهُ يُدرِك أن إنهيار الاتحاد الأوروبي سيُفضي إلى أزمة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

          يُسجل العام 2015 السنة الخامسة على التوالي أن النمو الاعتيادي في ”الاقتصادات الناهِضة“ قد تراجع، وخطف معهُ في تراجعهِ النمو العالمي. قبل عام 2008 نمى حجم التجارة الدولية بنسبة 6% سنوياً، وفقاً لبيانات منظمة التجارة الدولية. ولقد تباطأ حجم نمو التجارة الدولية بنسبة 2.4% على مدى الثلاث سنوات الماضية. وعانى في الست شهور الأولى لعام 2015 من أسؤ أدائه مُنذُ عام 2009.

          كانت التجارة في الماضي عامل رئيس يُحرك الإنتاج، ولكن لم تعُد كذلك الآن. مُنذُ عام 2013 كل 1% من النمو العالمي أنتج ارتفاعاً في التجارة بنسبة 0.7% فقط. في الولايات المتحدة الأمريكية لم ترتفع الواردات المُصنعة قط كنصيب من الناتج المحلي الاجمالي مُنذُ عام 2000. وفي العقد قبل ذاك تضاعف حجمها تقريباً.

          لا مفر من المُحصلة النهائية: العولمة في تباطؤ. ومُحرِك النمو الاقتصادي، التجارة الدولية، تتلكأ. في شهر أيار/مايو (2015) هبط حجم التجارة الدولية بنسبة 1.2%. هبط إلى 4 من الخمس شهور الأولى من عام 2015. إن دورة مُحادثات العاصمة القطرية الدوحة مُستمرة على مدى 14 عام وقد تم في الواقع إهمالها. فالولايات المتحدة الأمريكية عوضاً عن ذلك، تُحاول إيجاد شُركاء لحرية تجارة اقليمية من أجل مصالحها الإمبريالية الخاصة.لقد ناقشوا مؤخراً شراكة عبر الباسفيكي Trans-Pacific Partnership، التي بإمكانها تغطية 40% من الاقتصاد العالمي، ولكنها مليئة بالتناقضات. تحتاج أن يُصادق عليها حشد كبير الدول، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي هي ليست مُتأكدة بأي حال من الأحوال. فالرئيس أوباما Obama يواجه برلماناً عدائياً وقد لا يتمكن من التصديق عليها قبل نهاية فترة حُكْمِهِ.

التفاوت – عدم المساواة

          إن تَرَكّز رأس المال الذي تنبأ بهِ ماركس Marx بلغ مستويات لم تخطر على بال أحد. لقد أوجد مستويات من التفاوت غير مسبوقة. سُلطة هائلة تتركز في أيادي أقلية صغيرة من الأثرياء رجال ونساء الذين هم في الحقيقة يتحكمون في حياة ومصير شعوب العالم.

          كما أن الشباب والنساء والأقليات العرقية يعانون أيضاً على نحوٍ غير متناسب من الأزمة. وهم أول من يُفصل من عمله، وهم هؤلاء الذين يتعرضون لأكبر جزء من تخفيض الأجور. وتفاقم الأزمة من تأثيرات عدم المساواة والتمييز بين الرجل والمرأة وكذلك تُغذي أمزجة العُنصرية وكُره الأجانب وعدم التسامُح تجاه الأقليات مابين الطبقات المُتخلِفة من السُكان.

          إن الشباب هم أكثر من يعاني من التوقع الاقتصادي الحالك على مدى عدة أجيال. ويعترف بذلك جميع الخبراء الاقتصاديون للبرجوازية. لقد شهِدَ الشباب أكبر انخفاض في الدخل والبطالة. فهم يعانون من الهجوم المستمر على جميع مستويات التعليم، الذي يتم تقطيعه وخصخصتهِ دون هوادة لصالح رأس المال المالي. فالجامعات أصبحت بشكل متزايد للأقلية المُترَفة.

          حُرِم أغلب الشباب من الفُرَص التي كانت في السابق أمر مُسلم بهِ بالنسبة لهم. إن هذا سبب رئيس لعد الاستقرار ويُهدد بوقوع ثورات اجتماعية. كان عاملاً رئيس في ما سُمي بالربيع العربي، وهناك ثورات مُماثِلة يُحضّر لها في كل مكان.

          في كل مكان أصبح الفُقراء أكثر فقراً والأثرياء أكثر ثراءً. أصدرت مؤسسة أوكسفام Oxfam الخيرية تقريراً يُبين أن نصيب الثروة العالمية التي يمتلكها الأثرياء ازدادت بنسبة 1% من 44% في عام 2009 إلى 48% في عام 2014، في حين أن نسبة الفقراء 80% يملكون الآن نسبة 5.5% فقط. وبنهاية عام 2015 فإن نسبة 1% لأثرياء العالم يملكون ثروة (50.4%) أكبر من ما يملكه بقية 99% مجتمعين.

          تقول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن معلوماتها تُثير أسئلة اجتماعية وسياسية بالإضافة إلى الأسئلة الاقتصادية. قالت السيدة ويني بيانيما Winnie Byanima المدير التنفيذي لمؤسسة أوكسفام الدولية الخيرية Oxfam إن التَرَكُّز المُتزايد للثروة المُلاحظ مُنذُ فترة الركود العميق لعام 2008 -9 كان ”خطيراً وفي حاجة إلى تغيير.“

          لقد أجبرت الإصلاحات الحقيقية زُعماء العالم على التصدي لمشاكل التفاوت والتمييز والإقصاء الاجتماعي، إلى جانب التغيير المناخي وغيرها من القضايا المُلِحة التي تواجه الإنسانية. ولكن كيف يمكن تحقيق هذهِ المُعجزات في ظل النظام الرأسمالي، لم يتطرق إلى هذا أحد. فالمؤتمرات واللقاءات تأتي وتذهب. والخُطب تُلقى. وتُرفع التوصيات. ولا شيء يتغيّر.

تقشف دائم

          إن المنظور هو فترة طويلة الأمد يتم خلالها تعطيل فترات الركود الاقتصادي عن طريق فترات من النمو الاقتصادي البطيء مع مصاعب اقتصادية مُتزايدة: بتعبير آخر، تقشف دائم. وهذا مشهد جديد، يختلف كلياً عن ذلك الذي كان موجوداً في الدول الرأسمالية المتقدمة لفترة تزيد على خمسين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية. ولهذا، فإن العواقب السياسية سوف تكون أيضاً مختلفة جداً.

          لقد وضحنا مرات عديدة بأن كُلُ محاولة للبرجوازية لإعادة التوازن الاقتصادي سوف تُدمر التوازن الاجتماعي والسياسي. وهذا ما يحدث الآن تماماً على النطاق العالمي. إن الركود الاقتصادي طويل الأمد يخلق المصاعب الاقتصادية ويُخرب التوازنات القديمة. لقد اختفت التأكيدات القديمة وهناك شك عالمي في الوضع الراهن، في قيمهِ وأيديولوجياتهِ.

          مُنذُ بداية الأزمة المالية العالمية في عام 2008 خسرت الشعوب 61 مليون وظيفة. فوفقاً لتقديرات مُنظمة العمل الدولية (ILO) إن عدد العاطلين عن العمل سوف يستمر في الازدياد على مدى الخمس سنوات القادمة، ليصل إلى أكثر من 212 مليون بحلول عام 2019. وتُعلن، المنظمة، بأن ”الاقتصاد العالمي قد دخل فترة جديدة تتضمن النمو البطيء وتفشي التفاوت والأضطراب.“ وإذا أضفنا العدد الهائل من الناس الذين لديهم وظائف هامشية فيما يُسمى القطاع غير الرسمي، فإن العدد الحقيقي للبطالة في العالم سوف لن يكون أقل من 850 مليون عاطل. إن هذا العدد بمفردة يكفي لإثبات أن الرأسمالية قد أصبحت عائقٌ لا يُحتمل أمام التقدم.

          تُحاول الحكومات في الدول الرأسمالية المتقدمة تخفيض مستويات الديْن الذي تراكم أثناء الأزمة عن طريق تخفيض الأجور ومعاشات التقاعُد. ولكن سياسة التقشف قد خفضت بشكل حاد مستويات المعيشة دون أن يكون هناك تأثير خطير على تراكم الديْن. لقد فشلت جميع التضحيات التي فُرِضت على الجماهير الكادحة على مدى السبع سنوات الماضية في إيجاد حل للأزمة؛ بل على النقيض من ذلك، فقد زادت الطين بَلة.

          ليس لدى أصحاب نظرية كنزي الاقتصادية ولا أصحاب النظرية النقدية المُحافظون أي حلول ليُقدِموها. وتستمر مستويات الديْن القاسية في النمو بِعِناد، وكأنها عبء ثقيل على النمو. تحاول الحكومات والشركات بإلقاء العبء على أكتاف الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة لكي تُخَفِف من مستويات الديْن لديها. إن لهذا تأثيرات عميقة على العلاقات الاجتماعية وعلى مشاعر ووعي جميع الطبقات.