المنشور

شبحها ما زال يطارد الرأسمالية .. أفكار ماركس بين الأمس واليوم – 2

ترجمة غريب عوض

العولمة وعدم المُساواة

دعونا نذهب إلى التنبؤ المُهِم التالي لِماركس. لقد شَرَحَ ماركس في عام 1847 بأن إيجاد سوق عالمية يَجعل كُل الضيق والفردانية القومية أمراً مُستَحيل. كل دولة – حتى الكبيرة منها والقوية – هي الآن خاضِعة بالكامل للإقتصاد العالمي بكامِلهِ، الذي يُحدد مصير الشعوب والأُمم.” إن هذا التوقع النظري الفَذ يُبيّن أفضل من أي شيء آخر، تفوّق الإسلوب الماركسي الذي لا يُقاس.

          تُعتبر العولمة عموماً ظاهِرة حديثة. ومع ذلك، فإن خلق سوق عالمية مُنفرِدة في ظل الرأسمالية تم التنبؤ بهِ مُنذُ زمن بعيد على صفحات البيان الشيوعي. إن الهيمنة الساحِقة للسوق العالمية هي الآن أعظم حقيقة حاسِمة في عصرنا هذا. إن الشِدة البالِغة للتقسيم الدولي للعمل مُنذُ الحرب العالمية الثانية أظهَرَت صَحة تحليلات ماركس بطريقة مُختَبَرية تقريباً.

          وبالرغم من ذلك، بُذِلَت جُهود جبارة لإثبات أن ماركس كان مُخطأً حينما تحدث عن تَرَكُّز رأس المال ومن ثم عملية الاستقطاب بين الطبقات. إن هذهِ التمارين الذهنية تستجيب لأحلام البرجوازية لإعادة اكتشاف العصر الذهبي المفقود لحُرية التجارة. وهذا يشبه، ذلك الرجل العجوز الذي يَحِنُ في خَرَفِهِ إلى أيام شبابه.

          ولسؤ الحظ، ليس هناك أدنى فُرصة للرأسمالية لتستعيد شبابها النشط. لقد دخلت طوْرها النهائي والأخير مُنذُ زمن طويل: وهو الرأسمالية الإحتكارية. بالرغم من حنين البرجوازية للماضي، غير أن أيام الشرِكات الصغيرة تحولت إلى الماضي ولن تعود. إن الاحتكارات الكبيرة المُرتبِطة بالأعمال المصرفية في جميع الدول، والواقعة في شَرَك الدولة البرجوازية، تُهيمن على الحياة في المُجتمع. ويستمر الاستقطاب بين الطبقات دون مُعَوِقات، وهو في تسارُع.

          دعونا نأخذ الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية. إن أغنى 400 عائلة في الولايات المتحدة تملك من الثروة ما يُعادل ما يملكه 50% في المائة من النصف السُفلي من السُكان. إن ستة أفراد من ورثة شركة Wal-Mart لوحدهم يملكون من الثروة أكثر مما يملكه 30 في المائة في قاع المجتمع الأمريكي مجتمعين. ولا يملك 50 في المائة الأفقر من الأمريكيين سوى 2.5 في المائة من ثروة البلد. لقد زادت نسبة الواحد في المائة الأغنى بين سكان الولايات المتحدة من حِصتها من الدخل العام للدولة من 17.6 في المائة في عام 1978 إلى 37.1 في المائة في عام 2011.

          وخلال الثلاثون عاماً الماضية أخذت الفجوة بين مَداخِيل الأغنياء ومَداخِيل الفُقراء تتسع بثبات إلى هاوية سحيقة. وفي الغرب الصناعي يبلغ مُتوسط دخل العشرة في المائة الأغنى من السُكان حوالى عشرة أضعاف من متوسط دخل العشر في المائة الأفقر من السُكان. وذلك فرق كبير جداً. وتُشير احصائيات نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD إلى أن التفاوت الذي بدأ في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة قد انتشر إلى دول مثل الدنمارك وألمانيا والسويد، والتي عادةً ما تكون بها عدم المساواة مُنخفض.

          إن الثروة الفاحِشة للمصرفيين أصبحت الآن فضيحة عامة. ولكن هذهِ الظاهِرة لا تَقتَصر على القطاع المالي. في حالات كثيرة، يكسب المُدراء في الشركات الكبيرة 200 ضُعف أكثر مما يكسبهُ أقل العاملين أجراً لديهم. إن هذا الفرق المُفرِط قد تسبب الآن في شكاوي مُتزايدة، والتي تحولت إلى غضب وصل إلى الشوارع في دولة بعد اُخرى. وينعكس التوتر المُتصاعد على شكل اضرابات، اضرابات عامة وتظاهُرات وحوادث شغب. وينعكس في الانتخابات عن طريق الاصوات الاحتجاجية ضد الحكومات وجميع الأحزاب القائمة، كما رأينا مؤخراً في الانتخابات العامة في إيطاليا.

          أظهر استطلاعاً للرأي في مجلة التايمز بأن 54% لديهم رأي مُفَضل لـ# حركة إحتل Occupy movement، ويعتقد 79% أن الفجوة بين الأغنياء والفُقراء قد اتسعت إلى حد كبير جداً، ويعتقد 71% أن المؤسسات المالية يجب أن تُقاضى، ويعتقد 68% أن على الأغنياء دفع مزيد من الضرائب، و 27% فقط من يحملون الرأي المُفضل لحركة حزب الشاي (33% لا يفضلون ذلك). وبالتأكيد إنهُ من السابق لأوانهِ الحديث عن ثورة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكنهُ من الواضح أن أزمة الرأسمالية تُوَلِد مزاجاً مُتنامي من النقد بين فئات واسِعة من السُكان. هناك قلق وشكٌ في الرأسمالية لم يكُن موجوداً من قبل.

كارِثة البَطالة

          ونقرأ في البيان الشيوعي: وهنا يأتي الدليل، أن البرجوازية لم تَعُد صالِحة لتكون الطبقة الحاكِمة في المُجتمع، وتفرض شروطها للبقاء على المجتمع كقانون مُسيطر. إنها لم تَعُد صالِحة لتحكُم لأنها ليست أهلٍ لتضمن البقاء لعبيدها ضمن عبوديتها، ولأنها لا تستطيع منع المجتمع من التردي إلى مثل هذهِ الحال، عليها أن تُطعِمه لا أن يُطعِمُها هو. لم يَعُد بوسع المجتمع العيش في كنف البرجوازية.”

          لقد أصبحت كلمات ماركس وأنجلز المُقتَبسة أعلاه حقيقةً ناصِعة. هناك شعور مُتنامٍ بين جميع قطاعات المجتمع بأن حياتُنا تُهيمن عليها قوى خارج إرادتنا. لقد استحوذ على المجتمع شعور مُزعج من الخوف والضياع. لقد أصبح حال عدم الأمان يَعُم المجتمع بأكمله.

          إن البطالة الواسعة ما بين مئات الآلف من العُمال التي نشهدها الآن هي أسؤ بكثير عما تنبأ بهِ ماركس. كتب ماركس عن الجيش الاحتياطي من العُمال: بِعبارةٌ اُخرى، جمع من العُمال يمكن استخدامه لإبقاء الأجور مُنخفِضة ويُعتَبَرون كاحتياط عندما ينتعش الاقتصاد مرة اُخرى. ولكن مثل هذهِ البطالة التي نَراها الآن هي ليست الجيش الاحتياطي الذي ذكرهُ ماركس، الذي من وجهة النظر الرأسمالية، قام بدورٌ نافع.

          إنها ليست ذلك النوع من البطالة الدورية التي يعرفها العُمال حق المَعرِفة من الماضي والتي لا تظهر إلا في فترة الركود وتختفي حينما يتعافى الاقتصاد مرة ثانية. إنها بطالة دائمة وبُنيوية وعضوية التي لا تختفي عن الأنظار حتى حينما يكون هناك “انتعاش”. إنها وزنٌ ميت الذي يعمل كالعِبء الضخم فوق النشاط الإنتاجي، إنها أعراض مُرض بأن النظام قد وصل إلى طريق مسدود.

          عقدٌ من الزمن قبل أزمة عام 2008، وفقاً للأمم المُتَحِدة، كانت البطالة العالمية تُقارب 120 مليون. وبحلول عام 2009 وضعت منظمة العمل الدولية الرقم 198 مليون عاطل عن العمل، وتتوقع أن يصل إلى 202 مليون في عام 2013. إلا أنهُ حتى هذهِ الأرقام، مثلها مثل الاحصاءات الرسمية عن البطالة، تُقلل من مدى خطورة الوضع الحقيقي. إذا حسبنا الأعداد الهائلة من النساء والرجال المُضطرين لقبول جميع “الوظائف” الهامشية، فإن الرقم الحقيقي للبطالة والبطالة المُقَنَعة في العالم لن يكون أقل من 1000 مليون عاطل.

          وبالرغم من كل الحديث عن الانتعاش الاقتصادي، فإن النمو الاقتصادي في ألمانيا، محطة توليد الطاقة الاقتصادية السابِقة في أوروبا، قد تباطأ إلى ما يُقارب الصِفر، وكذلك فرنسا. وفي اليابان أيضاً، يتباطأ الاقتصاد إلى حد التوقف. وفعلاً بالإضافة إلى المُعاناة والبؤس الذي تُعاني منهُ ملايين العائلات، فإنهُ من وجهة نظر إقتصادية، يُقدم هذا خسارة صاعِقة من الانتاج وكساد كبير. وعلى النقيض من أوهام القيادات العُمالية في الماضي، فإن البطالة الحاشِدة قد عادت وانتشرت في جميع أنحاء العالَم مثل السرطان الذي يَنخرُ أحشاء المُجتمع.

          إن أفضع تأثيرات أزمة الرأسمالية تقع بين الشباب. ترتفع البطالة بين الشباب في كل مكان. وهذا هو سبب الاحتجاجات الطلابية الحاشِدة وحوادث الشغب في بريطانيا، والتحرك الساخط في اسبانيا، واحتلال المدارس في اليونان، وكذلك الثورات في تونس ومَصر، حيثُ أن هناك 75% في المائة من الشباب عاطلين عن العمل.

          إن عدد العاطلين في أوروبا في تزايد مُستمر. الرقم في اسبانيا يُقارب 27 في المائة، في حين بلغت نسبة العاطلين بين الشباب 55% في المائة، بينما ليس أقل من 62% في المائة من الشباب في اليونان – إثنان من كُل ثلاثة – عاطلين عن العمل. تتم التضحية بجيل كامل من الشباب على مذبح الرِبح. الكثيرين مِن مَن بحث عن الخلاص في التعليم العالي وجدوا أن هذا الطريق مسدود. ففي بريطانيا حيثُ كان التعليم العالي مجاناً فيما مضى، أما الآن فإن الشباب يجد إنهُ لكي يكتسب المهارات التي يحتاجها، لا بد أن يستدين.

          وفي الطرف الآخر من ميزان العُمر، وَجَد العاملون الذين شارفوا على سِن التقاعد أنهم يجب أن يعملوا ساعات أطول وأن يستلموا أجوراً أعلى من أجل رواتب تقاعد مُتدنية التي ستحكم عليهم بالفقر في شيخوختِهِم. إن الاحتمال الذي يواجه مُعظم الناس اليوم بالنسبة للشباب والكِبار على حدٌ سواء هو عدم الشعور بالأمان مدي الحياة. لقد تم الكشف عن كل نفاق البرجوازية القديمة عن الأخلاق وقيم العائلة بأنها فارِغة. إن وباء البطالة، والتَشَرُد والديون المُهلِكة وعدم المُساواة الاجتماعية الصَارِخة التي حوّلت جيل بأكمله إلى منبوذين قد قوضت العائلة وخلقت كابوساً من الفقر المُمَنهج، وفقدان الأمل، والإذلال.واليأس.

أزمة فرط الإنتاج

          كان هناك في الأساطير اليونانية شخصية تُدعى بروكروستيس Procrustes الذي كانت لديه عادة سيئة القيام بقطع أرجُل ورؤوس وأذرِعة ضيوفهِ حتى تُصبِح اجسامهم بمقاس سريره سيئ الصيت. وفي زمننا هذا النظام الرأسمالي شبيه بسرير بروكروستيس. إن البرجوازية تُدمر وسائل الإنتاج بطريقة منهجية لكي تجعلها تتلاءم مع الحدود الضيقة للنظام الرأسمالي. وهذا التخريب الاقتصادي شبيه بسياسة أقطع وأحرق على مقياس واسع.

          وجورج سوروس George Soros رجل الأعمال الهنغاري- الأمريكي الشَهير، يُشَبُهُهُ بِكُرَة الهدم التي تُستخدم لهدم البِنايات العالية. ولكن ليس البِنايات فقط هي التي يتم تدميرها بل اقتصادات ودول بأكملها. إن شُعار الساعة هو، تقشُف واستقطاعات ومستويات معيشية مُتدنية. وترفع البرجوازية في كل دولة نفس صرخة الحرب: ”يجب أن نُخفض الإنفاق العام!“ إن كُلُ حكومة في العالم الرأسمالي يمينية أو ”يسارية“ هي في الواقع تتبع نفس السياسة. إن هذا ليس نتيجة لنزوات السياسيين الأفراد، أو تجاهل أو حض سيء (بالرغم من أن هناك الكثير من هذا أيضاً) وإنما هو تعبير بياني عن الطريق المسدود الذي وجد النظام الرأسمالي نفسهُ فيه.

          إن هذا تعبير عن حقيقة وصول النظام الرأسمالي إلى حُدودهِ القُصوى وهو عاجزٌ عن تطوير قوى الإنتاج كما فعل في الماضي. مثلُ صبي الساحر في قصيدة الأديب الشاعر الألماني الشَهير غوته ، لقد استحضر قِوى لا يستطيع السيطرة عليها. ولكن عن طريق تخفيض إنفاق الدولة، هم في نفس الوقت يخفضون الطلب ويلغون السوق بكامِلهِ، تماماً في الوقت الذي حتى خُبراء البرجوازية الاقتصاديون يعترفون بأن هناك مُشكِلة خطيرة تتمثل في فَرْط الإنتاج على مُستوى عالمي. دعونا نأخذ مِثالاً واحداً فقط، قِطاع المرْكَبات (السيارات). إن هذا أساسي لأنهُ مُرتَبِطٌ أيضاً بقِطاعات اُخرى كثيرة، مثل الفولاذ والبلاستك والكيماويات والالكترونيات.

          إن القِدرة الزائدة العالمية لصناعة المركبات (السيارات) هي ثلاثون في المائة تقريباً. وهذا معناه أن شَرِكة فورد لصناعة السيارات وجنرال موتور وشركة فيات الإيطالية ورينو الفرنسية وتويوتا اليابانية وجميع الآخرين قد يغلقون ثُلث مصانعهم ويُسرحون ثُلث الأيدي العاملة لديهم غداً، ومع ذلك لن يتمكنوا من بيع جميع المركبات التي ينتجونها بنسبة رُبح تُعتبر مقبولة لديهُم. ونفس الموقف موجود في قطاعات اُخرى عديدة. وما لم يتم وحتى يتم حل مشكلة القِدرة الزائدة، فإنهُ لا يمكن أن يكون هناك نهاية حقيقية للأزمة الراهِنة.

          إن لُغْز الرأسمالية يمكن تفسيرهُ ببساطة. إذا كانت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مُتَوقِفتان عن الاستِهلاك، فإن الصين لا تستطيع أن تنتج. وإذا كانت الصين لا تنتج بنفس السُرعة كما كانت في السابق، فإن دولٌ مثل البرازيل والأرجنتين وأستراليا ليس بوسعها الاستمرار في تصدير موادها الخام. إن العالَم بأكمله مُترابط فيما بينه دون انفصام. فأزمة عُملة اليورو سوف يتأثر بها اقتصاد الولايات المتحدة، والذي هو في حالة هزيلة، وما يحدث في الولايات المتحدة سوف يترتب عليه تأثير حاسم على كامل الاقتصاد العالمي. وهكذا، تُظهِر العولمة نفسها كأزمة عالمية للرأسمالية.