المنشور

واقعنا الاقتصادي والمعالجات المطلوبة

الوضع المعيشي مفتوح على أسوأ الاحتمالات

 ليس من باب المبالغة القول إن جملة الأوضاع الاقتصاية في البحرين  تبدو مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، بل أسوأ الاحتمالات، خاصةً ونحن نحاول كمتابعين ومهتمين ان نفهم طبيعة السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة في البلاد، وتحديداً منذ التراجع المريع في أسعار النفط منذ أكثر من ثلاث سنوات.  نقول سياسات اقتصادية أو مالية، ونحن لا نعلم حقيقة إذا كان هناك ثمة سياسات أو استراتيجيات واضحة المعالم للتعاطي مع الشأن الاقتصادي والمالي في البلاد.

 علينا أن نعترف بأن كل مؤشرات أوضاعنا الاقتصادية تبدو مقلقة جداً، وينتابها الارتباك والتخبط والفردية وردات الفعل غير المدروسة، على الأقل هذا ما أظهرته تصريحات كبار المسؤولين المتواترة وغير الحصيفة أحيانا كثيرة، وهي لذلك تبدو غير مستندة على وقائع وأرقام حقيقية أو حتى تقترب من الواقع، وهناك اعتبارات لازالت غائبة أو مغيبة في ظل حالة التعتيم وانعدام الشفافية  المرتبطة بجوهر تلك السياسات.

 وأول تلك تلك المؤشرات التي يمكن ملاحظتها هوما يرتبط بغياب وصدقية مؤشرات بعينها مثل معدلات الفقر والبطالة ومستوى الأجور ومخرجات سوق العمل ومؤشرات الاستثمار، وأي استثمار يحتاجه اقتصادنا الوطني بالفعل، وقدرة وتنافسية وجاذبية هذا الاقتصاد، وهل ما يعلن رسميا من مؤشرات نمو هي مؤشرات حقيقية فعلاً أم هي مجرد أرقام لا تستند إلى واقع معاش، وماذا عن حجم الطبقة الوسطى ومعدلات نموها أو تراجعها خلال السنوات الماضية، وفي خضم كل ذلك، وبالإشارة إلى ما تطرحه رؤية 2030  الرسمية المعلنة منذ سنوات، يحق لنا ان نتساءل هل نحن فعلا أمام رؤية حقيقية تصيغ واقعاً اقتصادياً واجتماعياً  متفائلا للبحرين؟!

  ربما نعرف حجم المديونية العامة للدولة والتي تضخمت مراراً بصورة متسارعة خلال السنوات الخمس الماضية حيث بلغت حتى الآن أكثر من تسعة مليارات دينار،  أي ما يزيد على 23 مليار دولار أميركي،  ونكاد لا نملك أدلة أو حتى  مبررات مقبولة لذلك التضخم  والذي يعزى كثيرا  وببساطة بالنسبة للجانب الرسمي فقط لسد العجوزات في الموازنة العامة للدولة، لكن لا يوجد هناك من يقنعنا حقيقة لماذا ترتفع عجوزات الموازنة العامة حتى في ظل وجود فوائض مالية،  وتحديداً عندما كانت أسعار النفط تعانق السماء  حيث بلغت 120 دولارا للبرميل.

 لا يكفي، بل من غير المقبول أساساً أن نقول بإن تضخم  الباب الأول في موازنة الدولة، وهو الباب المعني بأجور ومستحقات العاملين في القطاع العام، هو السبب،لأن ذلك يعني أن الحكومة  التي كانت لديها حرية مطلقة  في ادارة الاقتصاد الوطني طيلة أكثر من أربعة عقود قد فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة وتنويع مصادر دخل البلاد، حيث لازالت عوائد النفط تشكل  اكثر من 85% من عوائد الدولة، كما انها قد فشلت في معظم ما قدمته من برامج وخطط خلال عقود تمتد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن!!

وفي ذات السياق  يحق لنا أن نتساءل أين هي برامج وخطط الدولة في  تنظيم سوق العمل وفي تمكين قدرات أبناء وبنات البحرين الذين أصبحوا أقلية  تستجدي بكل أسف  الوظائف وفرص العمل في ظل  تخلي الدولة رسمياً وعبر أكثر من مسؤول عن مشاريع البحرنة، وعلينا أن نتساءل أين هي تلك المشاريع التي تحدثت عن اعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، وعن إعطاء أولوية الوظائف للبحرينيين،  أو تلك التي  سارعت الى الأخذ ببرامج الخصخصة  دون أن تعطي اهتماما مستحقا لما أحدثته من ارتدادات اجتماعية  خطيرة، علها تجد مخرجاً  ينجيها من تبعات الأزمات التي أضحت متأصلة في بنية وهيكلية الاقتصاد الوطني لبلد صغير في مساحته وعدد سكانه، والذي بحسب المؤشرات الرسمية، يزيد قليلاً عن المليون نسمة فقط.

  أليس في ما نقول واقعاً مُعاشا يشي بالخوف من المستقبل عندما يعلن وزير مالية البحرين وأمام السلطة التشريعية قبل أكثر من ثلاث سنوات أن استمرار أسعار النفط عند حاجز ال 40 دولارا يعني أن الدولة ستصبح عاجزة عن دفع رواتب موظفيها، ها نحن نصل إلى ما سبق وحذرنا منه نتيجة الاستفراد بالقرار والخضوع المستمر لتوجهات صندوق النقد والبنك الدوليين دون وعي أو حتى مجرد ادراك لما جرته تلك التوجهات المدمرة  التي سبقتنا إليها شعوب ودول أضحت فعلا في خبر كان، ورغم ذلك لا أحد في الجانب الرسمي يريد ان يسمع!

 المواطن العادي يتساءل بحرقة وخوف من القادم  خاصة عندما تعلن الدولة تحت ضغط الأزمة المالية عن توقف الزيادة السنوية لرواتب العاملين في القطاع العام، ليصار إلى إلغاء ذلك القرار خلال أقل من أربع وعشرين ساعة بتوجيهات ملكية،  ويريد أن يعرف أكثر إلى أين ستتجه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القادم من الأيام والسنوات إذا ما استمرت أسعار النفط الشريان الوحيد، عن ضخ سيولة كافية في عروق الاقتصاد الوطني، كما تتساءل شرائح واسعة عن حقيقة أوضاع التأمينات الاجتماعية وما سيجره ذلك من تبعات خطيرة على المتقاعدين وأسرهم.

 بل لا نبالغ حين نقول إن طبقة رجال المال والأعمال هي الأخرى تتساءل عن طبيعة القادم من الأيام وما تحمله اليها من مخاوف حقيقية، خاصة في ظل سياسة التقشف المعلنة والتي ابتدأت بخطوات خجولة لرفع الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات وتعرفة الكهرباء والماء والخدمات والمزيد من رفع رسوم الخدمات الأساسة كالصحة والمرور  ورسوم مغادرة المسافرين  والسجلات التجارية وغيرها،  وتوقف او تأجيل الانفاق على العديد من المشاريع الحيوية، ما يعني حرمان الناس  من تطوير مطلوب في منسوب ومستوى الخدمات العامة  التي  يفترض أن تقدمها دولة الرعاية ضمن التزاماتها الدستورية والأخلاقية تجاه مواطنيها والمقيمين فيها، والأسوأ من ذلك زيادة كلفة تلك المشاريع المستقبلية والتي حتما سيدفعها المواطن على حساب خبز أبنائه وصحتهم وتعليمهم!!

في ظل هكذا أوضاع اقتصادية تتداخل بشدة مع أزمة سياسية حادة ومعقدة نتيجة الاصرار دون منطق على المضي في الحلول الأمنية الى ما لا نهاية، وفي ظل المراهنة غير المجدية على استمرار حالة الاحتقان والانقسام المجتمعي، لا يبدو أفق البحرين واعداً رغم مساحيق التجميل الرخيصة التي يضفيها البعض على واقع كواقعنا الاقتصادي والسياسي المأزوم، ولا يبدو معها الحل ممكناً أو حتى قريبا بكل أسف.

مثل هذا القرار لن يكون مستحيلا إذا ما توفرت الارادة والشجاعة في اجتراح حلول عاجلة تقوم على الشراكة في صوغ ورسم القرار الوطني والمضي في مشروع مصالحة وطنية حقيقي لا يقبل الفشل أو الإقصاء لأي من مكونات وأطراف وشرائح الوطن، ولا يستند على ولاءات مصطنعة لا ترقى لاحترام الوطن وتاريخه، ويرفض بشكل واضح أي نوع من التدخلات الخارجية في قرارنا الوطني، ويؤسس لحوار وطني شامل يأخذ في الاعتبار حاضر ومستقبل الوطن بعيدا عن حدة الاستقطابات والصراع العقيم المدمر  لبعض القوى والأجنحة والتيارات، وعلينا أن نراقب ونفهم جيدا طبيعة ومرامي ما يكتنف عالمنا ومحيطنا  واقليمنا  من نزاعات هي الأشرس والأصعب والأخطر، والتي بدورها تفرض علينا الالتفات جيداً لمعالجات جوهرية ومطلوبة لواقعنا الاقتصادي والسياسي والاجتماعي قبل فوات الأوان.