المنشور

عن الخطاب اليومي

للمفكر اللبناني المغدور مهدي عامل كتاب عنوانه «نقد الخطاب اليومي». وإن لم تخن الذاكرة، فإن الرجل اغتيل قبل أن يكمل الكتاب، أو يضعه في صيغته النهائية، ولكن المخطوطة كما تركها صدرت في كتاب، هو عبارة عن تشخيص نقدي صارم لبعض ما كان كتاب لبنانيون ينشرونه في الصحافة آنذاك.
يمكن القول، إن الكتاب عبارة عن تشريح للفكر المرتجل، غير المتأني، السريع في إطلاق الأحكام دون تحليل كاف، ما يجعل أصحابه عرضة للتقلبات، كيفما تقلبت أهواء السياسة يمنة أو يسرة.
بهذا المعنى، فإن الكتاب تحليل لخطاب النخبة، وهو خطاب يسهم في صنع الرأي العام أو توجيهه في هاته الوجهة أو تلك.
لكن هناك خطاباً يومياً آخر نابعاً من قلب البيئة الشعبية الصميمة، مطحوناً بالخبرة المتراكمة والمتوارثة عبر أجيال. ومع أنه خطاب خالٍ من فذلكة المثقفين، إلا أنه يختزن في ثناياه الحكمة والفطنة، اللتين يتحلى بهما البسطاء من الناس، الذين يُكوّنون معارفهم وخبراتهم من الحياة نفسها، لا من بطون الكتب، ويعبّرون عنها بجمل قصيرة، مكثفة، لكن لو تأملنا في مضمونها لوجدناها شديدة العمق والدلالة.
في هذا السياق، يمكننا أن نشير إلى ما فعله الدكتور أحمد زايد، حين اختار مجموعة كبيرة من التعبيرات باللهجة العامية المصرية، كثيرة التردد على ألسنة الناس في حياتهم اليومية، للتعبير عن اهتماماتهم وهمومهم وخبراتهم، واضعاً إياها في بضع خانات كالتشبيه والمبالغة والوصف والتصنيف.
ومن أمثلة ما ورد في خانة التشبيه نجد تعبيرات من نوع «الفلوس عاملة زي الملح مش عارف بتروح فين»، أو «دماغه بتلق زي البيضة». أما في خانة المبالغة فنجد تعبيرات من نوع «الأسعار ولعت»، «المرتب اتبخر»، «الأخبار زي الأهرام»، «يدفع دم قلبه»، «النواية تسند الزير»، «سمن على عسل». وفي خانة الوصف نصادف تعبيرات من نوع «نايم في العسل» لوصف المهمل أو الكسلان، «تور الله في برسيمه» لوصف الغبي، و«بغبغان» لوصف كثير الكلام أو الثرثار، و«الجردل» لوصف الشخص الإمعة، «لا يعرف راسه من رجليه» للتعبير عن عدم تحديد الهدف، «والليمونة في بلد قرفانة» لوصف الندرة، «لا أنا طايل السما ولا الأرض» للتعبير عن الحيرة.
أما في التصنيف فيجري تداول تعبيرات من نوع: «العسل عسل والبصل بصل»، «الأنصاص قامت والقوالب نامت»، «أبوك البصل وأمك الثوم ومنين لك الريحة يامشموم»، «ناس هايصة وناس لايصة»، «حبة فوق وحبة تحت». تعبيرات بهذه المعاني نجدها باللهجات العربية الأخرى، وهي في جلها تتوسل مشاهد من الحياة اليومية والبيئة المحيطة لتوجز أفكاراً عميقة في كلمات بسيطة، قليلة وشديدة التركيز والتكثيف.