المنشور

صناعة الرأي العام

ما أكثر ما نسمع ونقرأ تعبيرات من نوع: إن الرأي العام يحتج، أو الرأي العام يطالب، أو أنه يؤيد. وعلينا أن نضع ما هو مناسب من تكملة للجمل سالفة الذكر، كالقول مثلاً إن الرأي العام يحتج على قرارات برفع الأسعار اتخذتها الحكومات، أو أنه يطالب بإيقاع عقوبة مشددة بحق شخص أو أشخاص ارتكبوا جريمة روعت المجتمع، أو أنه يؤيد زعيماً سياسياً أو قراراً حكومياً اتخذ.
يفهم من هذا أن الكثير من القرارات تتخذ تحت «ضغط» أو «طلب» الرأي العام حين يجد صنّاع القرار أنفسهم محمولين على الاستجابة أو حتى الانصياع لما يطالب به الرأي العام، حتى لو كان ذلك لا يتسق مع رؤيتهم كراسمين للسياسات، أو حتى لو كان في ذلك عودة عن قرارات سبق أن اتخذوها وأعلنوا عنها.
في عبارة أبسط وأوضح، يمكن أن يوحي لنا ذلك بأن الرأي العام هو من يصنع القرارات أو يرسمها.
لكن ما لا يجري الوقوف عنده بنفس الدرجة من الاهتمام هو أن الرأي العام الذي «يصنع» القرارات أو يفرضها، هو نفسه ناتج صناعة.
بمعنى أن الرأي العام ليس معطى قائماً بذاته، موجوداً بصورة مستقلة عن المؤثرات المختلفة، وإنما هو ناتج عن تعبئة سياسية وإعلامية عبر منظومة معقدة تدخل فيها الإشاعات والأكاذيب وافتعال المخاوف أو تضخيمها.
هنا تغدو المسألة عكسية تماماً.
ليس الرأي العام هو من يطالب ويفرض ما يطالب به على صنّاع القرار، وإنما هؤلاء أنفسهم يقومون بتشكيل الرأي العام وفق أهوائهم، وبطريقة يصبح معها مهيأ لقبول ما يتخذونه من قرارات والموافقة على ما يقولونه، ما يجعل من فكرة الرأي العام الرقيب فكرة وهمية، فمن يفترض فيهم أن يكونوا رقباء على السياسات المتخذة بالتأييد أو الرفض، يجري تكييفهم كأفراد أو جماعات لقبول تلك السياسات كما هي.
يلعب الإعلام دوراً مفصلياً في ذلك بالطريقة التي يقدم بها الأخبار أو يعرض التقارير.
وليس شرطاً أن يحجب الإعلام أخباراً أو تقارير كي يؤدي هذه المهمة، وهو ما يفعله في أحيان كثيرة، وإنما يكفي أن يقول جزءاً من الحقيقة، ويسكت عن الجزء الآخر، والتجربة تؤكد أن قول نصف الحقيقة هو أخطر بكثير من نكرانها كلية.
نصف الحقيقة أو ربعها، والذي ليس هو الأهم فيها في الغالب، قد ينطوي على جانب يقلل من مخاطر حقيقية، أو أنه بالعكس يضخم صورة هذه المخاطر لدى المتلقي، الذي هو واحد من كتل متلقين كبرى تشكل ما نطلق عليه الرأي العام، فيشكل قناعاتها وفق الهوى المراد.