المنشور

نوابنا.. ونوابهم..!!

نبدأ بتذكير الذين ينسون او يتناسون، وهم على أي حال وفي كل حال وحول كل شأن كثر، تذكيرهم بقرار هيئة مكتب مجلس النواب والأمانة العامة للمجلس بمنع النواب من انتداب أقاربهم من الدرجتين الأولى والثانية للعمل في مكاتبهم النيابية، حيث كان كل نائب يتسلم 500 دينار كمخصصات فتح مكتب، وهو القرار الذي بدأ سريانه في 1 يوليو 2016، وأثار زوبعة على جانب النواب والناس، فأصحاب الشأن من اعترضوا واعتبروا ذلك تضييقًا عليهم لأداء مهامهم بصورة طبيعية وسلسة، ومنهم من توعد وهدد بغلق مكتبه على الفور ليس تجاوبًا او تفهمًا للقرار ودواعيه وإنما احتجاج على القرار، وذلك منشور وموثق ويمكن الرجوع اليه في أي وقت، أما على صعيد الناس فقد عبروا عن سخطهم إزاء هذا الذي يمارسه هؤلاء النواب من توظيف للأقارب والواسطات والمحسوبيات وتبادل عمليات الانتداب كنوعٍ من التمويه، معتبرين ذلك شكل من أشكال الفساد، وقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من التعليقات المعبرة عن هذا السخط الشعبي..!!

ننشط الذاكرة حيال هذا الموضوع تحديدًا ربما من أجل المقارنة او المقاربة مع هذا الذي يحدث في فرنسا وأيضًا في بريطانيا – تصوّروا – لعلنا نستخلص بعض الدروس والعبر، هناك قررت الجمعية الوطنية الفرنسية نشر قائمة النواب الذين يوظفون أحد أفراد عائلاتهم او أحد المقربين لهم، في خطوة وصفت بأنها غير مسبوقة بهدف تعزيز مبدأ الشفافية والحكم الرشيد، وهي خطوة جاءت على وقع القضية التي طالت مرشح اليمين عن حزب «الجمهورية» للانتخابات الرئاسية فرانسوا فيون، بذريعة أنه مارس التوظيف الوهمي حين عين زوجته مساعدة له عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ الفرنسي..!!

الجمعيات والمؤسسات المدافعة عن الشفافية في العمل السياسي ونزاهة وأخلاقيات من يتولون منصبًا عامًا، والتي لها حضور فاعل ومؤثر في المشهد الفرنسي، ومعها حقوقيون ومواطنون، كلهم تحركوا بوازعٍ من واجبهم في التصدي لفساد السياسيين في الجمهورية الفرنسية الخامسة، ولأن المساءلة والمحاسبة في فرنسا ليسا ورقة سياسية مؤجلة الدفع الى أجل غير معلوم، بل هما يستحقان الدفع الفوري على الدوام، ولأن هناك رأيًا عامًا معتبرًا يؤخذ له ألف حساب، كان من الطبيعي ان يتصدى لهذا التحرك الذي ذهب الى حد الكشف ان من بين 577 نائبًا في البرلمان 80 منهم يوظفون أحد أفراد عائلاتهم، وأحدهم تجاوز جميع الحدود في نظرهم هناك بتوظيفه اثنين من أبنائه كمساعدين له..!! وشملت القائمة نائبات وظفن أزواجهن كمساعدين لهن..!!

أوجه الاختلاف والاعتراض هو على الوظائف الوهمية، وعلى المحسوبية الفجة التي تكسر الضوابط الموضوعة، فالقانون الفرنسي لا يمنع ان يوظف نائبًا ما فردًا من عائلته ولكن يجب ان تكون الوظيفة حقيقية وليست وهمية او مفصلة للأقارب، وان يكون التوظيف بناءً على أسس ومعايير واضحة وشفافة، لا التفاف ومدارة وتنفيع ومحسوبية، وما دام الكل هناك يخضع للمساءلة والمحاسبة وحكم القانون، ولا يستطيع بل لا يجرؤ أحد ان يتمترس بحصانة حين يخطئ او يتجاوز او يفسد، او ينتهك حرمة الأنظمة والقوانين وتسخيرها لتحقيق مصالح شخصية فإن مثل هذه الأمور هناك لا تمر مرور الكرام حين تكتشف.

في السياق ذاته نذكر ما عرف بفضيحة نفقات النواب في بريطانيا قبل سنوات، مبالغ صرفت لتوفير سكن قريب، شراء أحد النواب ثلاث أسرة من المال العام، حصول نائب على ثمن شماعة لتعليق ملابسه في البرلمان، صرف مبلغ تنظيف منزل ريفي لأحد النواب، مطالبة نائب بقيمة الاشتراك في فضائية سكاي الإخبارية، هذه اعتبرت هناك فضائح تسببت في تقديم رئيس مجلس العموم استقالته في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 300 عام، بعد مطالبات من أعضاء في البرلمان له بالاستقالة بسبب تساهله مع تلك المخالفات، وهذه الخطوة ليست كل شيء، ولا كل المطلوب، ولا هي كافية في نظر الشعب البريطاني، فقد اضطر النواب المعنيون الى الخضوع للمساءلة والاعتذار للشعب، الأمثلة كثيرة وفي بلدان أخرى عديدة التي تثبت كل يوم أنها تمضي في طريق الديمقراطية وتتعامل معها بوضوح، بلدان يعترف فيها بالأخطاء، لا أحد يدافع عنها، ولا يفبركون المبررات اليها، ويعلنون عنها صراحة أمام الملأ، لا يخافون من شيء، ولا «يطبطبون» على أحد، ومعرفة الحقيقة عندهم مهما كانت مرارتها وسيلة للتطور الديمقراطي وترسيخ العلاقة مع المواطن لما فيه مصلحة هذه البلدان والشعوب.

تلك مخالفات تقاس «بالملاليم» بينما عندنا أنتم أدرى بالحال عندنا، فقد وجدنا نوابًا استماتوا في الاعتراض على منع انتداب زوجاتهم وأقاربهم، ووجدنا نوابًا همهم زيادة رواتبهم التقاعدية وامتيازاتهم، ووجدنا نوابًا يلتفون على فتح مكاتب لهم للحصول على بدل مكتب «500 دينار» ومنهم كمثال ذلك الذي فتح ملحقًا بمكتبه الخاص، ووجدنا نوابًا وهم يهربون من الجلسات، ووجدنا نوابًا يشكلون لجان تحقيق ماتت قبل أن تولد، ووجدنا نوابًا همومهم محصورة في تحسين وتحصين مصالحهم، ووجدنا قبل ذلك نوابًا يتنازلون عن صلاحياتهم في الرقابة والمساءلة.. هل تذكرون..!! ووجدنا… ووجدنا… وكل ما وجدناه باعث على الصدمة والأسى في آنٍ واحد..!!

كما وجدنا كيف كانت الأمور تمضي في بلدان عربية من قبل من كانوا مؤتمنين عليها من نواب يعرف الناس كيف جاءوا وعلى أي أساس جاءوا، وأي شعارات ردّدوا، والنتيجة ضياع كل شيء في الشكل والجوهر، مليارات من الأموال سرقت، وعقود وهمية نفذت، واتفاقيات نفط وصفقات لصالحهم أبرمت من تحت الطاولة، وشبكات من المصالح والمنافع الخاصة بنيت على حساب الدولة والمجتمع، وخطوط حمراء انوجدت في مواجهة الفاسدين ومن مارسوا النهب والهدر..!!

 المطلوب والملح والضروري أن نتحدث عن «الحياة الديمقراطية» ليس في الشكل فقط ولكن في الجوهر أيضًا.. وأن لا تتحول هذه الحياة الى أحاج وألغاز ومآسٍ.. وشعارات ولى زمانها..!!