المنشور

دراما الهجرات

عالم اليوم هو في جانب رئيسي منه نتاج الهجرات، فهاته الهجرات تسهم بقسط حاسم في تشكيل صورته، وفي تداخل وتضاد ثقافاته في الآن نفسه، فبمقدار ما تغتني الثقافات جراء دخول مؤثرات جديدة عليها يحملها إليها المهاجرون الآتون من ثقافات أخرى، فإنها أيضاً تدخل في صور من التوتر والتضاد، حين تشعر ثقافة بلد ما أن الآتين إليها من المهاجرين يدخلون ما لا تطيقه أو ترغب فيه من عادات وأنماط سلوك.
ومع أن الهجرات ليست وليدة اليوم، فالتاريخ الطويل للبشرية شاهد عليها، إما كنتيجة لغزوات واحتلالات وفتوحات، أو في صورة هجرات جماعية هروباً من كوارث طبيعية ومجاعات وأخرى غير طبيعية كالحروب والفتن والاضطهاد الديني أو السياسي أو العرقي وما إليها، لكن ما نشهده اليوم من اتساع نطاق الهجرات هو أمر غير مسبوق بالتأكيد.
الحروب كانت موجودة دائماً عبر التاريخ، وكذلك الغزوات، والكوارث الطبيعية أيضاً كانت موجودة دائماً، ولكن في الماضي لم تكن أسلحة الحروب بالفتك الذي هي عليه اليوم، ولم يكن يتوفر من وسائل النقل ما هو متوفر اليوم، ناهيك عن سرعتها، ولم يكن العالم على هذه الدرجة من القرب بين أطرافه والتداخل في ثقافاته، ما وسع نطاقات الهجرة.
لا يهاجر الناس مكرهين فقط، حيث لا حرب أو اقتتال أو مجاعة وما إلى ذلك ما يجعلهم يفرون بجلدهم بحثاً عن فرصة للبقاء على قيد الحياة، وإنما يهاجرون أيضاً بحثاً عن تحسين ظروف معيشتهم، بالحصول على تعليم أو تكوين مهني أفضل، أو جرياً على فرص عمل أكثر جاذبية مما هو متاح في بلدانهم الأم، فيجدون في البيئات الجديدة التي يهاجرون إليها من التحقق والاستقرار النفسي والمهني ما لا يتحقق لهم حيث ولدوا.
هذا النوع من الهجرة، الآتية في الغالب عن رغبات فردية لمن يقومون بها، لم تعد هي الغالبة في عالم اليوم الذي بات يضيق من الهجرات الجماعية المنطوية على جوانب درامية، باتت الشاشات تنقل الكثير منها على الهواء مباشرة، من جثث بالعشرات والمئات تطفو على سطح البحر أو ترميها أمواجه على الشواطئ، أو من خيام في العراء حيث الصقيع والأمطار، تقام على حدود البلدان، لتضم الآلاف المؤلفة من الهاربين من جحيم بلدانهم، بانتظار أن يبت في أمرهم، الذي ما أكثر ما يكون إعادتهم قسراً من حيث أتوا.
هجرات اليوم تطرح تحديات أخلاقية وإنسانية على الضمير البشري، يجعلها هي الطاغية قبل البحث في العواقب أو التبعات الثقافية أو السياسية الناجمة عن دخول جماعات جديدة إلى نسيج مجتمعات مستقرة.