المنشور

أفكار كارل ماركس بين الأمس واليوم – 3

شبحها ما زال يطارد الرأسمالية

أفكار كارل ماركس بين الأمس واليوم – 3

 

العُزلة

وبِبُعد نظرٌ مُدهِش تنبأ مؤلفي البيان الشيوعي بالظروف التي تمرُ بها الطبقة العامِلة الآن في جميع دول العالم.

”نتيجة للاستخدام المُفرِط للمُعِدات المكنية ولتقسيم العمل، فقد عمل البروليتاريا كل الصِفة الفردية، وبالنتيجة كل ما يجذب العامل. لقد بات تابعاً للآلة، ولم يَعُد مطلوب منهُ إلا الأشياء الرتيبة والسهلة والبسيطة. من هنا فإن تكلُفة انتاج العامل مُقتَصِرة بالكامل تقريباً على وسائل العيش التي يحتاجها لبقائِهِ، ولتكاثر نوعه. ولكن ثمن السِلعة ومن ثم العمل أيضاً يُعادل تكلفة الإنتاج. ولهذا ففي الانتاج كُلما زاد النفور من العمل كُلما انخفض الأجر. ولا زيادة في الانتاج حيثُ يزداد استخدام المُعدات المكنية وتقسيم العمل، وبنفس القدر يزداد عِبء الكدح أيضاً، سوى كان بإطالة ساعات العمل، وبزيادة العمل المُضني في وقت مُعيّن أو بواسطة السرعة الزائدة للمعدات المكنية، إلخ.“

واليوم تحتل الولايات المتحدة نفس الموقع الذي كانت تتربع عليه بريطانيا أيام ماركس – وهو أكثر الدول الرأسمالية تطوراً. وهكذا، فإن الاتجاهات العامة للرأسمالية مُعَبْراً عنها هناك في أكثر أشكالها وضُحاً. وعلى مدى الثلاثون سنة الماضية زادت أجور الرؤساء التنفيذيون إلى 725%، في حين أن أجور العُمال ارتفعت إلى مُجرد 5.7%. ويحصل هؤلاء الرؤساء التنفيذيون الآن على مُعدل 244 مرة أكثر من موظَفيهِم. إن الحد الأدنى للأجور في الدولة الآن 7.25 دولار في الساعة. ووفقاً لمركز سياسة البحث الاقتصادي، لو أن الحد الأدنى للأجور تماشى مع إنتاجية العامل، لكان وصل إلى 21.72 دولار في عام 2012. وإذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار فإن مُتوسط أجور العُمال الأمريكيين الذكور هو في الحقيقة أقل اليوم مما كان عليه في عام 1968. وبهذهِ الطريقة، يكون الانتعاش الحالي في مُعظمه على حساب الطبقة العامِلة.

وفي حين أن الملايين اُجبروا على حياة تعيسة من الخمول الاضطراري، فإن ملايين آخرين اُجبِروا على العمل في وظيفتين أو حتى ثلاث، وغالباً ما يعملون لمدة 60 ساعات أو أكثر في الأسبوع بدون أجر على الساعات الإضافية. ويعمل 85.8 بالمائة من الذكور و 66.5 في المائة من الإناث أكثر من 40 ساعة في الأسبوع. ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، ”يعمل الأمريكيون 137 ساعة في السنة أكثر من العُمال اليابانيين، و 260 ساعة في السنة أكثر من العُمال البريطانيين، و 499 ساعة في السنة أكثر من العُمال الفرنسيين.“

ووفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، ارتفع مُعدل الانتاجية للعامل الأمريكي الواحد 400 في المائة مُنذُ عام 1950. من الناحية النظرية هذا معناه أنهُ لكي تُحقق نفس مستوى المعيشة يجب على العامل أن يعمل رُبع متوسط العمل الاسبوعي فقط في عام 1950، أو 11 ساعة في الاسبوع. أما ذاك، أو أن مستوى المعيشة لا بُد أنهُ نظرياً قد ارتفع إلى أربع أضعاف. وعلى النقيض من ذلك، انخفض مستوى المعيشة على نحوٍ مُثير بالنسبة لمعظم السُكان، بينما ازدادت الأمراض المُصاحِبة للعمل مثل الاكتئاب والإصابات والأمراض. وهذا ظهر في وباء من الاكتئاب وحالات الانتحار والطلاق وإساءة مُعاملة الأطفال والزوجات والقتل الجماعي وأمراض اجتماعية أخرى.

ويوجد نفس الوضع في بريطانيا، حيثُ أنهُ في ظل حكومة مارغريت ثاتشر تم القضاء على 2.5 مليون وظيفة في المصانع ، ومع ذلك تمت المُحافظة على نفس مستوى الانتاج كما كان في عام 1979. لقد تم تحقيق هذا، ليس من خلال استعمال آلات جديد وإنما من خلال زيادة استغلال العُمال البريطانيون. في عام 1979 حَذَرَ كنيث كولمان Kenneth Calman المدير العام للصحة بأن ”فُقدان وظيفة مدى الحياة اطلق وباءً من الامراض المُرتبطة بالأكتِئاب.“

الصراع الطبقي

وضَّح ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي بأن العامل الثابت في كُل التاريخ المُسَجَل هو أن التطور الاجتماعي يحدث من خلال الصراع الطبقي. في ظل الرأسمالية لقد تم تبسيط هذا إلى حد بعيد مع استقطاب المجتمع إلى طبقتين كبيرتين مُتخاصِمتين، الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتارية (العاملة). لقد أفضي التطور الكبير للصناعة والتكنولوجيا خلال المائتي سنة الماضية إلى زيادة تَرَكُّز القوة الاقتصادية في أيادي القِلة.

يقول، البيان الشيوعي في إحدى أشهر تعبيراتهِ، ”إن تاريخ جميع المُجتمعات الباقية حتى الآن هو تاريخ الصراع الطبقي،“. إن هذهِ الفكرة لزمن طويل كانت بالنسبة لكثير من الناس أنها لم تعُد صالِحة. وفي الفترة الطويلة لتوسع الرأسمالية الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، مع توفر الوظائف في الاقتصادات الصناعية المُتطوِرة، وارتفاع مستويات المعيشة والإصلاحات (هل تذكرون دولة الرفاهية؟)، فبالفعل بدأ الصِراع الطبقي وكأنهُ شيءٌ عفا علية الزمن.

لقد تنبأ ماركس بأن تطوّر الرأسمالية سوف يُفضي دون رَحمة إلى تَرَكُّز رأس المال، التراكم الضخم للثروة من ناحية وتراكم للفقر والبؤس والكدح المُضني مساوي لهُ من الناحية الثاني للطيف الاجتماعي. ولِعدة عقود من السنين كان الاقتصاديون البرجوازيون وأساتذة علم الاجتماع في الجامعات يستهزؤون بِهذِهِ الفِكرة وكانوا يُصِرون على أن المجتمع أصبح بشكل متزايد أكثر مساواة، وأصبح كُلُ فرد من الطبقة الوسطى. والآن جميع هذهِ الأوهام تبددت.

إن المُحاججة المُفضلة لدى عُلماء الاجتماع البرجوازيون هي، أن الطبقة العاملة لم يعُد لها وجود، كانت ولا تزال واقفة على رأسها. في الفترة الأخيرة تم تحويل شرائحٌ مُهِمة من السُكان العاملين الذين كانوا يُعتبرون أنفُسِهِم سابقاً من الطبقة الوسطى إلى البروليتاريا. لقد تم وضع المعلمون وموظفو الخدمات المدنية وموظفو البُنوك وغيرهم في خانات الطبقة العاملة والحركة العُمالية، حيثُ يُشكِلون بعضٌ من أكثر الاقسام نضالية.

إن المُحاججة القديمة بأن كل شخص يستطيع أن يتقدم ونحنُ جميعاً من الطبقة الوسطى قد زيفتها الأحداث. وكان العكس يحدث في بريطانيا وفي الولايات المتحدة وفي الكثير من الدول المتطوّرة خلال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية. اعتاد الناس من الطبقة الوسطى الاعتقاد أن الحياة تظهر بتقدم مُنتظم من المراحل واحدة تعلو الأخرى. إن هذهِ لم تَعُد القضية.

إن ضمان الوظيفة لم يَعُد لهُ وجود، واختفت وظائف ومِهن الماضي إلى حد بعيد، وأصبحت وظيفة مدى الحياة شيء من الذكريات. لقد اُسقط سِلم الصعود ولم يَعُد للطبقة المتوسطة وجود بالنسبة لمعظم الناس حتى كأمل. تستطيع أقلية مُتضائلة الاعتماد على معاش للتقاعد تعيش فيه مستورة الحال، والقليل منها لديه مُدخر معقول. إن أعداد الناس الذين يعيشون يوم بيوم في تزايد، ولا أحد يعرف ماذا يُخبأ له المستقبل.

إذا كان لدى الناس أية ثروة، فهي منازُلهم التي يعيشون تحت أسقُفها، ولكن مع تقلص الاقتصاد انخفضت أسعار المنازل في الكثير من الدول وربما تتجمد لعدة سنوات. إن فكرة ديمقراطية مُلكية العَقار اتضح أنها سراب. إن امتلاك المنزل لم يَعُد ميزة تُساعد في تمويل التقاعد المُريح، لقد أصبح عبءً ثقيلاً. يجب أن يتم دفع الإيجار، سوى كُنتَ على رأس وظيفة أم لا. تورط الكثير من الناس في حق قانوني سلبي، بديون كبيرة لا يمكن دفعها. وهناك جيل مُتنامي الذي لا يمكن وصفهُ إلا برقيق أو عبيد الديون.

إن هذا شجبٌ مُدَمّر للنظام الرأسمالي. إلا إن عملية التحول إلى البروليتاريا هذهِ معناها أن الاحتياط الاجتماعي من رد الفعل تم تحويله إلى قسم كبير من العُمال ذوي الياقات البيضاء تقترب من الطبقة العاملة التقليدية. وفي التحركات الشعبية الكبيرة الأخيرة، هناك أقسام كانت في الماضي لم تحلم قط في أن تَضربُ عن العمل أو حتى أن تلتحق بنقابة، مثل المعلمين وموظفي الخدمة المدنية، أصبحت الآن في الصفوف الأمامية للنضال الطبقي.

المِثالية أم المادية؟

ينطلق الأسلوب المثالي من ما يُفكر الناس بهِ ويقولون عن أنفُسِهِم. ولكن ماركس بَيّنَ إن الأفكار لا تسقط من السماء، وإنما هي تعكس بشكل دقيق قليلاً أو كثيراً المواقف الموضوعية والضغوط الاجتماعية والتناقُضات خارج سيطرة الرجال والنساء. ولكن التاريخ لا يَتَكَشف كنتيجة لإرادة حُرة أو رغبة ضمير ”الرجل العظيم“، الملوك والسياسيون أو الفلاسِفة. على النقيض من ذلك، إن تقدم المجتمع يعتمد على تطور قوى الإنتاج، والذي هو ليس نتاج تخطيط واعي، وإنما يتشكّل من وراء ظهور الرجال والنِساء.

لقد وضع ماركس لأول مرة الاشتراكية على قاعدة نظرية صَلِبة. إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يتأسس على صورٌ مُشوّهة للواقع تطفو مثل الاشباح الشاحِبة الرائعة في عقول الرجال والنِساء، وإنما يتأسس على علاقات اجتماعية واقعية. وهذا معناه يبدأ بتوضيح العِلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية ونموذج الانتاج في مرحلة تاريخية مُحَدَدَة. وهذا هو بالضبط ما يُسمى بإسلوب المادية التاريخية في التحليل.

سوف يشعر بعض الناس بالانزعاج من تلك النظرية التي يبدو أنها تحرِم النوع البشري من دور المُناصرين في الصيرورة التاريخية. وبنفس الطريقة، شعرت الكنيسة والمُدافعين عن المسيحية بالامتعاض الشديد إزاء مزاعم غاليليو غاليلي Galileo بأن الشمس هي مركز الكوّن وليس الأرض. وفيما بعد، نفس الأشخاص هم الذين هاجموا دارون Darwin على اقتراحِهِ بأن البشر ليسو هم الخلق الخاص لله، وإنما هم نتاج الانتخاب الطبيعي.

في الحقيقة، إن ماركس لا يُنكِر بتاتاً أهمية العامل الذاتي في التاريخ، الدور الواعي للنوع البشري في تطوّر المجتمع. إن الرجال والنساء يصنعون التاريخ، ولكنهم لا يصنعونهُ كُلهُ وفقاً لإرادتهم الحُرة ونواياهم الواعية. يقول ماركس: ”إن التاريخ لا يفعل شيئاً“، وهو ”لا يملك ثروة كبيرة“، وهو ”لا يشَنُ معارك“. إنهُ الإنسان، الإنسان الحقيقي الحي الذي يفعل كلُ ذلك، الذي يملك ويُقاتل؛ فالتاريخ ليس شخصاً، إذا صح التعبير، يستخدم الإنسان كوسيلة لتحقيق أهدافه؛ إن التاريخ ما هو إلا نشاط الإنسان في سعيه لتحقيق أهدافه.“ (ماركس وأنجلز، العائلة المُقدسة، الفصل السادس).

إن كُلُ ما تَفعلهُ الماركسية هو شرح دور الفرد كجزء من مجتمعٌ مُحَدَد، خاضع لقوانين موضوعية مُحدَدَة، ومن ثم كمُمثل لمصالح طبقة مُعيّنة. إن الأفكار ليس لها وجود مُستقِل، ولا هي تملك تطور تاريخي. ويكتب ماركس في الأيديولوجية الألمانية، ”إن الحياة لا يُحدِدُها الوعي،“ ولكن الوعي تُحدِدهُ الحياة.“

إن أفكار وأفعال الناس مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، الوضع الذي لا يعتمد على الإرادة الذاتية للرجال والنساء وإنما هي تحدث وفقاً لقوانين جازمة، والتي هي في التحليل الأخير، تعكس حاجات تطور قوى الإنتاج. وتُشكْل العِلاقات المُتَداخِلة بين هذهِ العوامل شبكة مُعقدة والتي غالباً من الصعب رؤيتها. إن دراسة هذهِ العِلاقات هو أساس النظرية الماركسية.

دعونا نستشهد بمثال واحد. أثناء الثورة الإنجليزية، ضن أوليفر كرومويل Oliver Cromwell بحماس أنهُ كان يُقاتل من أجل حق كُلُ فرد في أن يُصلي لله حسب ضميرة. ولكن مسيرة التاريخ برهنت بأن الثورة الكرومويلية، نِسبةً إلى كرومويل، كانت المرحلة الحاسِمة في الصعود الذي لا يُقاوم للبرجوازية الإنجليزية إلى السُلطة. ولم تسمح المرحلة المادية لتطور قوى الإنتاج في إنجلترا القرن السابع عشر بنتائج اُخرى.

لقد حارب قادة الثورة الفرنسية الكُبرى للسنوات 1789-1793 تحت راية ”الحرية والمساواة والإخاء“. لقد ضنوا أنهم يُناضلون من أجل نظام يَرتَكزُ على القوانين الداخلية للعدالة والعقل. إلا أنهُ بصرف النظر عن نواياهم وأفكارهم، كان اليعقوبيون يُعِدون الطريق لِحُكم البرجوازية في فرنسا. ومرة اُخرى، من وجهة نظر علمية، لم تكن نتيجة أخرى مُمكِنة في تلك الفترة من التطور الاجتماعي.

ومن وجهة نظر الحركة العُمالية كانت مُساهمة ماركس العظيمة هو أنهُ كان أول من وَضَّحَ أن الاشتراكية هي ليست مُجرد فكرة مُمتازة، بل أنها النتيجة الضرورية من تطور المجتمع. حاول المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس – الاشتراكيون المِثاليون اكتشاف قوانين وصِيغ التي ستضع الأساس لانتصار العقل البشري على عدم عدالة المجتمع الطبقي. إن كُلُ ما هو ضروري كان أن تُكتَشَف تلك الفكرة، ومن ثم تُحَل المُشكِلة. وهذهِ مُقارَبة مِثالية.

وخلافاً للمثاليين، لم يُحاول ماركس قط أن يكتشف قوانين المُجتمع بصفة عامة. لقد حلل قانون حركة مجتمع مُعين، المجتمع الرأسمالي، شارِحاً كيف نَهَضَ، وكيف تطورَ وأيضاً كيف يختفي من الوجود بالضرورة في لحظة مُحددة. لقد أدى هذهِ المُهِمة الضخمة في ثلاث مُجلدات رأس المال.