المنشور

ما زال الأخضر الباقي شامخاً

 لقد كان يدور في خلدي منذ ديسمبر 1983 كتابة مقال عن رفيق جبهوي صلب قوي الشكيمة، من المناضلين الصادقين إلى أبعد الحدود، وقد يتبادر إلى الذهن لماذا ذكرت ديسمبر 1983، فذلك لأنه يقع فيه اليوم الذي أطلق فيه سراحي من السجن البغيض الضيق.

غادرت هذا السجن بالفعل ولكنني تركت، مرغماً، رفيقي يعيش مع آخرين بين القضبان وضيق المحيط، تركته في ذلك اليوم، بأمل ألا أعود ثانية إلى هذا المكان  القاسي، وأنا أحمل ذكريات إنسانية صادقة، حلوة ومرة في آن واحد حيث كنا معتادين أن نحول كل أمر مر إلى واقع حلو جميل حسب إرادتنا وتكييف رغباتنا وتقلب أمزجتنا في تلك الأوضاع غير الطبيعية.

حين تحررت من السجن وجدت في استقبالي كوكبة من الرفاق المخلصين ومن الأهل المشتاقين الذين اضناهم البعد والفراق، وسرعان ما تواصلت مع رفاقي لأخبرهم  بأحوال من لا زالوا في السجن من مناضلين، والسماع منهم عن قادم المقابلات الشهرية وتقديم ما يطلبون من أغراض لإيصالها لهم.

لقد عشنا مع هذا الرفيق العزيز في سجن القلعة بالمنامة، كما عشنا سوياً في سجن جدا مدة أطول حيث تعرفنا على بعضنا بعضاً بصورة أفضل وتآلفنا وتبادلنا الأفكار والأخبار والأسرار، وشاءت الصدف  أن يطلق سراحي لفترة معينة، ثم يعاد اعتقالي ثانية، لأعود إلى بقية الرفاق والمناضلين في سجن جدا محملاً بأخبار الأهل والرفاق والديرة فيصلهم ما انقطعوا عنه من أخبار ومجريات.

وهكذا تمضي أيامنا، حيث نبتعد عن الروتين والملل الذي ينتاب الحياة في السجن، ما يساعد على رفع حالتنا المعنوية والنفسية والاجتماعية، في السجن الذي كان يضم باالاضافة لي الرفاق المناضلون أحمد عيسى الشملان، أحمد محمد علي حميدان، سلمان كمال الدين، حميد القائد، وكنت أنا  وأحمد الشملان في زنزانة رقم 4 أما الباقي فكان كل واحد منهم في زنزانة  منفردة،  فأحمد حميدان في زنزانة رقم 1 وعبدالحميد القائد في زنزانة رقم 2 وسلمان كمال الدين في زنزانة رقم 3.

كانت الأبواب تقفل مساء كل يوم ابتداء من باب السجن الرئيسي أما في النهار فتكون الأبواب مفتوحة في داخل الرواق حيث كنا نذهب إلى الحمام في أي وقت  نشاء،  وفي البداية كان لا يسمح لنا بالتجول في سور السجن أكثر من ساعة واحدة في اليوم وبعد مطالبات متعددة ومتواصلة سمح لنا بالتجول طيلة النهار حيث تتعرض اجسامنا للشمس، وكذلك نتمكن من رؤية المعتقلين والسجناء في الزنازن الواقعة في الناحيتين الشمالية والجنوبية.

الرفيق المعني الذي وصفته في بداية المقال هو الرفيق المناضل أحمد عيسى الشملان الذي عشت معه طيلة سنوات لم نعشها خارج السجن في حياتنا الاعتيادية.

ففي اليوم التالي لاطلاق سراحي، في كل مرة، أذهب إلى بيت عائلته في أم الحصم حيث أقابل أخته السيدة صفية عيسى الشملان وألقي التحية على والدته ام أحمد، واقدم إليهما التحيات والتمنيات وأسألهما عما تجتاجان إليه، وأوصيهما بما يحتاجه أحمد من أغراض كي تصله في السجن، وفي هذه المرة ذهبت  أيضاً في نفس اليوم إلى بيت الملا جواد الشيخ محمد علي حميدان أخ الرفيق أحمد حميدان وأوصل للعائلة التحيات والتمنيات وما يطلبه من أغراض، وفي نفس اليوم أذهب لزيارة السيدة فوزية حسين مطر خطيبة الرفيق أحمد الشملان المخلصة المؤتمنة وأوصل لها التحيات والتمنيات، وأجيبها عن الأسئلة بالتمام والكمال.

 وتدور الأيام دورتها وتأتي الاخبار المفرحة بأن خطيبة أحمد الشملان حصلت على بعثة في الاتحاد السوفيتي، إلا انها أصرت على البقاء حتى خروج أحمد فأخبرتها بأن تسافر لأن هذا الأمر يرضى ويفرح الرفيق أحمد الشملان، فما كان منها إلا أن وافقت في النهاية على مضض، ولحسن الحظ فإن الرفيق أحمد خرج من السجن رافع الرأس معززاً مكرماً،  فالتحق بفوزية في موسكو، ليواصلان معاً دراستهما.

ولا يمكنني هنا أن انسى أحمد الشملان الشاعر والأديب والكاتب، صاحب القلم النابض بالحياة، حيث كان يطلعني على كل شيء يكتبه في سنوات السجن، ويسألني عن رأيي فيه، وكنا نتحاور بشكل رفاقي ديمقراطي حميم،  وقد سربت بعض هذه الكتابات إلى خارج السجن بعد التشاور، حيث وصلت بسلام إلى المكان المطلوب عن طريق أحد السجناء العاديين.

وإستمر الأمر على هذا النحو  بعد لقائنا خارج السجن فكان كلما كتب مقالاً  يشاورني فيه ونتناقش فيه قبل نشره، وحتى عندما تصدركتبه نناقش محتوياتها ايضاً، وكنا دائماً نجد التناغم الفكري والاتفاق في وجهات النظر.

وعلى الصعيد الإنساني فإني وجدت فيه نعم الرفيق والصديق القريب من الروح، يجمع بيننا حبنا للوطن وتعلقنا بخط تنظيمنا، واتفاق آرائنا، ورغم مضي السنوات وتبدل الأحوال فما زالت صداقتنا متينة، ومع الزمن تزداد قوة ورسوخاً،  وهذا ما حملني، على كتابة هذا المقال  كتحية تقدير ومودة ومحبة واعتزاز بأحمد الشملان، رفيق الدرب المخلص.