المنشور

“فن الحرب” هو ألا تكون هناك حرب

كتاب صدر في القرن السادس قبل الميلاد

“فن الحرب” هو ألا تكون هناك حرب

يقول زهير بن ابي سلمى في معلقته الشهيرة “وما الحرب الا ما علمت وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم”. المفكر فرانسو فينلون يقارب الحرب من زاوية اخرى : “كل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر أخوة” واعترف أوباما قبل توقيع الاتفاق النووي مع ايران قبل عامين قائلا “لقد جربنا كل شي مع ايران، وبتنا أمام خيارين، اما الحرب واما الاتفاق، وقد اخترنا الاتفاق” .

 أما سن تزو خبير الاستراتيجية العسكرية فيقول: الحرب خدعة.

عن تزو أريد أن أتحدث في هذا المقال وعن كتابه الشهير “فن الحرب”،  الكتاب الذي كتب في القرن السادس قبل الميلاد والذي لا يزال صالحاً لزماننا رغم مئات الكتب التي صدرت بعده، والسؤال هو: هل تنطوي الحرب على أي نوع من أنواع الفن؟  هل الموت والدمار والعذاب والتدمير يعد فنا؟

 حسب تزو فإن قمة فن الحرب تتمثل في تجنب الحرب من الأساس والوصول الى التسويات بدونها، واخضاع العدو بدون قتال بالخدعة والحيلة والمناورة والدبلوماسية، لكن إن لم يكن ثمة مفر من الحرب فيجب ان تخاض بذكاء ومباغتة وفن وأن تكون خاطفة وحاسمة وسريعة ومختصرة لتخفيف الألآم والخسائر البشرية وتكبيد العدو أيضا أقل الخسائر الممكنة.

 يقول تزو إن استلام البلد المهزومة سالمة افضل من تدميرها، وأسر جيش العدو أفضل من تدميره، ومنح العدو منفذا للخروج أو الهرب وحفظ ماء وجهه أفضل من تحطيمه كاملاً لتفادي طغيانه وخطورته وانتقامه، وقبل الحرب يجب الالمام التام بقوة الخصم وبالأرض والتضاريس والتوقيت والظروف المناخية والسياسية والعمل على ضرب نقاط ضعف العدو واستراتيجياته وتمزيق جبهته الداخلية، لذا من الضروري ضمان وحدة الجبهة الداخلية والقيم الجامعة لها ومكافأة الجنود واغراءهم وترغيبهم، والاشتغال في الوقت ذاته على خلق الجواسيس والحرب النفسية والشائعات وحرب الاعلام في صفوف العدو، تزو يرى أن الحرب يجب ان تسبقها ليس فقط معرفة خصمك فحسب ولكن المعرفة التامة بقدراتك وبأهدافك وقيمك .

 إن الاسقاطات والتطبيقات على كتاب سن تزو تكاد لا تعد ولا تحصى، حيث تبدأ الحرب بمعادلة وتنتهي بأخرى مغايرة، وكلما طال امدها عصف التغيير بعناصرها وأهدافها، فترى اعداء الامس يتحالفون مع بعضهم واصدقاء الماضي يختلفون ويفترقون، واسوأ الحروب تلك التي تخاض بلا مشروع ولا هدف، فحين يختل التوازن القديم تنشأ مناخات ومعادلات جديدة قد تقود الى تحالفات بين أعداء وحلفاء الامس، ثم قد يترتب على ذلك نشوء صراعات وحروب جديدة ايضا وحرب تلد أخرى، وهنا يجدر بنا العودة الى مقولة تسوو حول الهدف الأساس من الحرب وضرورة تجنبها قدر الإمكان، وحول مدى تطابق القيم والقواسم المشتركة بين الحلفاء، وهل الحلفاء على قلب واحد، وهل ثمة اتفاق على عدو واحد ووحدة هدف واحدة ؟

تكمن قيمة كتاب فن الحرب في أنه لم يعد مرجعا حربيا وعسكريا وسياسيا او دفاعيا ودبلوماسيا فحسب، ولكنه بات يستخدم على نطاق واسع في استراتيجيات الإدارة والتطوير الذاتي وتنمية القدرات البشرية، وفي العمل التنافسي التجاري والاعلامي والدعائي والتسويقي وفي الحرب النفسية وغيره من المجالات، فنحن نخوض الحروب والصراعات كل يوم مع أنفسنا ومع الآخر، وتخوض الدول والمؤسسات والشركات الحروب التجارية لتمكين ذاتها ورفع مستوى انتاجيتها وربحيتها وتقليل خسائرها واصلاح اخطاءها وتلمس نقاط ضعفها وجذب الاستثمارات اليها وكسب مزيد من العملاء وسط اجواء تنافس كبيرة وشرسة .

 إن ولوج الحروب والمنافسات يقتضي أن تسن المؤسسة أو الشركة أو الدولة لنفسها رؤية واستراتيجية ومخطط عمل لانجاز اهداف محددة وواضحة، واي أمة أو فرد يعيش بلا هدف محتم عليه أن يخوض الصعاب يوما وان يكون عرضة لكل التقلبات والتغيرات المستقبلية المتوقعة وغير المتوقعة، كما ان الهدف الذي لا يتضمن سموا ونبلاً وشمولاً وأبعاداً إنسانية وأخلاقية مصيره التلاشي والسقوط، ان فن الحرب مع النفس هو ان يعيش الانسان بطاقة ايجابية عبر السيطرة على النفس واهوائها والانتصار عليها، منتاغما مع الذات المسالمة والطبيعة الخيَرة والفطرة السوية عبرموائمة النفس بالمبادئ والاخلاق والقيم الانسانية.

قد يتساءل المرء:  لماذا تنهزم هذه الدولة أو تتراجع وتنهار تلك الشركة أو يعجز فرد أو أمة عن تحقيق أحلامه، هذه الأسئلة نجد لها جواباً في هذا الكتاب المهم الذي تقام حول مبادئه وتطبيقاته اليوم العديد من الندوات وورش العمل العديدة.

إن الأمم التي هي بلا مشروع ولا تجمعها قيم واحدة، وتعجز عن مواكبة التوجهات العالمية وتخفق في تحقيق الرضا الداخلي والتجانس والسلام بين مكوناتها، وتفتقر إلى العتاد والمهارات وأدوات العصر الحديثة في التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة وفي الحكم وفي ادارة الدولة وفي تطبيق العدالة والمساواة وحكم القانون العادل، هي أمم منذوره للمشاكل والأزمات.

لقد تغيرت الحياة منذ وضع تزو كتابه وظهرت مفاهيم جديدة وشهدنا عصراً مختلفا يقوم على القوة الباطشة وبسط النفوذ وسحق الضعفاء وتحطيم المنافسين: “أنا ومن بعدي الطوفان”، وتدمير الطبيعة وسيطرة الرأسمالية المتوحشة التي هي بلا قلب ولا رحمة ولا أخلاق ولا إنسانية، لكن حتى أعتى دعاة الرأسمالية يقرون ويعترفون بحتمية ، فإن لم تتغير هذه المنظومة التي تحكم العالم فسوف ندمر أنفسنا وندمر معنا هذا الكوكب الذي نعيش فيه في سلسلة حروب لا تبقي ولا تذر .