المنشور

أفكار ماركس بين الأمس واليوم – 5

شبحها ما زال يطارد الرأسمالية

أفكار ماركس بين الأمس واليوم – 5

رؤية ديناميكية للتاريخ

إن هؤلاء الذين لا يعترفون بوجود أية قوانين تحكم التطور الاجتماعي البشري يُقاربون التاريخ بشكل ثابت من موقف أخلاقي ذاتي. مثل إدوارد جيبون Edward Gibbon (ولكن بدون موهِبتهِ غير العادية) يهزون رؤوسِهم على العُنف المجنون اللاَفت للنظر وألا نِهائي، وإِللا إنسانية الإنسان ضد أخيهِ الإنسان وهكذا دواليك. وبدلاً من وجهة النظر العلمية للتاريخ نجد وجهة النظر الشخصية للتاريخ. غير إن المطلوب ليس موعِظة أخلاقية إنما المطلوب تَبَصرٌ عقلاني. فوق ووراء الحقائق المعزولة، إنهُ من الضروري تمييز الميول العامة، والتَحَولات من نظام اجتماعي إلى آخر، واستنباط القِوى المُحَرِكة الأساسية التي تُحَدِد هذهِ التَحَولات.

وحينما نُطبق أسلوب المادية الجدلية على التاريخ، يبدو واضحاً مُباشرةً أن تاريخ البشرية لهُ قوانينه الخاصة بهِ، ويترتب على هذا أنهُ من المُمكن فهم تاريخ البشرية على أنهُ صيرورة. إن نشؤ وسقوط التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية المُختَلِفة يمكن شَرحَهُ علمياً من حيثُ قُدرتها أو عدم قُدرتها على تطوير وسائل الانتاج، وعليهِ تدفع قُدُماً آفاق الثقافة الإنسانية، وتَزيد هيمنة الإنسان على الطبيعة.

يعتقد مُعظم الناس أن المجتمع ثابت طول الزمن، وأن أخلاقه ودينه وقيمهِ الإيديولوجية غير قابلة للتغيير، بِرِفقة ما نُسميه ”الطبيعة البشرية“. ولكن أبسط معرِفة بالتاريخ تُظهِر إن هذا غير صحيح. إن التاريخ يَتَمَثل في نشؤ وسقوط النُظُم الاجتماعية الاقتصادية المختلفة. إن المجتمعات كالأفراد من الرجال والنساء، تولد وتنمو وتصل مداها وتدخل في تدهور ومن ثم أخيراً يتُم استبدالها بتشكيل اجتماعي جديد.

وفي التحليل النِهائي، تتحدد قدرة نظام اجتماعية اقتصادي ما على الحياة بقدرتهِ على تطوير قوى الإنتاج، نظراً لأن كلُ شيء آخر يعتمد على هذا.وتدخل الكثير من العوامل الأخرى في المُعادلة المُعقدة: الدين والسياسة والفلسفة والأخلاق وسيكولوجية الطبقات المختلفة والمُميزات الفردية للقياديين. ولكنَ هذهِ الأشياء لم تنزل من السماء، ومع ذلك سوف تُظهِر التحليلات الدقيقة ولو بطريقة جدلية مُتناقِضة أنها تُحَدِدُها البيئة التاريخية الحقيقية والميول والعمليات المُستَغِلة عن إرادة الناس.

إن دلائل مستقبل مجتمع ما في مرحلة صعودهِ، والذي يُنمي وسائل الانتاج ويدفع آفاق الثقافة والحضارة إلى الأمام، تختلف جداً عن سيكولوجية مجتمع في حالة جمود وتدهور. إن السياق التاريخي العام يُحدد كُلُ شيء. فهو يؤثر في المناخ الأخلاقي السائد، وفي مواقف الرجال والنساء من المؤسسات السياسية والدينية القائمة. بل أنهُ يؤثر في نوعية القادة السياسيين الأفراد.

كانت الرأسمالية في شبابها قادرة على القيام بأعمال بطولية جبارة. لقد طوَرت قوى الإنتاج إلى مستويات ليس لها مثيل، ولهذا كانت قادرة على دفع تخوم الحضارة البشرية إلى الخلف. لقد شعر الناس أن المجتمع كان يتقدم، بالرغم من عدم العدالة والاستغلال الذي اتصف بها هذا النظام دائماً. لقد أعطى هذا الشعور لنمو روح عامة من التفاؤل والتقدُم التي كانت الطابع المُميّز لليبرالية القديمة، مع اقتناعها الثابت بأن اليوم كان أفضل من الغد وأن بُكرة سيكون أفضل من اليوم.

إن هذا لم يَعُد القضية. إن التفاؤل القديم والإيمان الأعمى بالتقدم قد تم استبدالهما بإحساس عميق بعدم الرضى بالحاضر وبالتشاؤم بما يتعلق بالمستقبل. إن هذا الشعور بالخوف وعدم الأمان الموجود في كل مكان في آن واحد ما هو إلا انعكاس سيكولوجي لِحقيقة أن الرأسمالية لم تَعُد قادِرة على القيام بالدور التقدُمي في أي مكان.

في القرن التاسع عشر كانت الليبرالية، الإيديولوجية الرئيسة للبرجوازية، تُمَثل (نظرياً) التقدُم والديمقراطية. ولكن الليبرالية الجديدة بالمعنى الحديث ما هي إلا قِناعاً يُخفي الواقع القبيح للإستغلال الأكثر جشعاً؛ واغتصاب الكوكب وتدمير البيئة دون أدنى اهتمام بمصير اجيال المستقبل. إن الاهتمام الوحيد لدى مجالس إدارات الشرِكات الكبيرة وهم الحُكام الحقيقيون في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم بأكمله إغناء أنفُسُهُم من خلال النهب: تجريد الأصول والفساد وسَرِقة الأصول العامة من خلال الخصخصة والتطفُل: هذهِ هي السِمات الرئيسة للبرجوازية في مرحلة وهن شيخوختها.

نهوض المجتمعات وسقوطها

”إن الانتقال من نظام إلى آخر كان يُحدِدَهُ نمو قوى الإنتاج، بتعبير آخر، تقنية وتنظيم العمل. وإلى حدٌ مُعين، إن التغيُرات الاجتماعية كمية في صفاتها وهي لا تُغَيّر أسوس المُجتمع، أي، الأشكال السائدة للمُلكية. ولكن تم الوصول إلى نقطة حينما لم تَعُد قوى الانتاج الناضِجة قادرة على احتوى نفسها ضمن الأشكال القديمة للمُلكية؛ ثم تَبَعَ ذلك تغييراً رادِيكالياً في النظام الاجتماعي، بِمُصاحبة هزات.“ (الماركسية في عصرنا، أبريل/نيسان 1939، ليون تروتِسكي.)

والمُجادلة الشائعة ضد الاشتراكية هي أنه من المستحيل تغيير الطبيعة البشرية؛ الناس بطبيعتهم أنانيين وجشعين …إلى آخرهِ. في الواقع، ليس هناك شيء إسمهُ طبيعة بشرية فوق تاريخية. إن ما نعتقد أنها طبيعة بشرية تعرضت لتغيُّرات كثيرة على مدى تطور الإنسان. يُغَيّر النساء والرجال الطبيعة باستمرار من خلال العمل، وبفعلِهم هذا يُغيرون أنفُسِهِم. أما بالنسبة للمُجادلة أن الناس بطبيعتهم جشعين، أثبتت حقائق الإرتقاء البشري عدم صحة هذا القول.

إن أجدادنا الأوائل، الذين لم يُصبحوا بشراً بعد، آن ذاك، كانوا صِغار الحجم وأجسامهم ضعيفة مُقارنةً بالحيوانات الأخرى. لم تَكُن لديهم أسنان أو مخالب قوية. وانتصاب قامتهم معناه أنهم لا يستطيعون الجري بسرعة كافية تُمَكّنهم من اصطياد الغزلان التي يرغبون في أكلها، أو الهرب من أمام الأسود الضارية التي تُريد أن تفترِسهم. وكان حجم أدمغتهم هو نفس حجم دماغ الشمبانزي. يتجولون فوق اعشاب السافانا في شرق أفريقيا، كانوا أقل حظاً في كل شيء تقريباً بالنسبة للأنواع الأخرى من الأحياء – ما عدا في مظهراً أساسياً واحداً.

ويوضح أنجلز في مقالهُ الرائع العمل في التحول من القِرد إلى الإنسان كيف عمل انتصاب قامة الإنسان على تحرير يديه، والتي تطورت إلى عضواً مكنهُ من تسلق الأشجار، ولأغراض أخرى. لقد مثل انتاج الآلات الصخرية قفزة نوعية، أعطت أجدادنا الأوائل ميزة تطورية. وكان الشيء الأكثر أهمية هو الشعور القوي بالحياة المجتمعية والإنتاج الجماعي والحياة الإجتماعية، والتي كانت بدورها مُتصِلة بنَشأة اللُغة.

إن الضُعف الشديد للطفل البشري مُقارنةً بِصِغار الأنواع الأخرى معناه أن أجدادنا الأوائل، الذين أجبرتهم ظروف بقاؤهم من صيد وتجميع لمواد الغذاء على التنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام، كان لابد أن يُنَموا احساس قوي بالتضامُن لحماية أطفالهم ومن ثم تأمين بقاء القبيلة أو الجماعة. نستطيع القول بِكُل ثِقة بأنهُ لولا وجود هذا الاحساس القوي بالتعاون والتضامُن، لانقرض النوع البشري قبل حتى أن يُولد.

ونحنُ نُشاهد هذا حتى اليوم. إذا لوحِظَ أن طفلاً على وشك أن يغرق في نهر، مُعظم الناس سيحاولون إنقاذهِ وحتى أنهم يُخاطرون بحياتهم لإنقاذه. غرق الكثير من الناس في محاولة منهم إنقاذ آخرين. وهذا لا يمكن شَرحَهُ من منطلق حِسابات أنانية، أو روابط علاقات الدم في مجموعة قَبَلية صغيرة. إن الأفراد الذين يتصرفون بهذهِ الطريقة هم لا يعرفون من هو الذي يحاولون إسعافهِ، ولاهم يتوقعون أية مُكافأة على ما يقومون بهِ. إن هذا السلوك الإيثاري يحدثُ تلقائياً ويأتي من استعداد فطري عميق مُتجذر من أجل التضامُن. إن المُجادلة بأن الناس بطبيعتهم أنانيين، والتي هي انعكاساً للمجتمع الرأسمالي الغريب وغير الإنساني والقبيح، هي خزي وعار على الجنس البشري.

وبالنسبة للجزء الكبير جداً من تاريخ النوع البشري، عاش الناس في مجتمعات حيثُ لا وجود للمُلكية الخاصة بالمعنى الحديث للمُصطَلح. لم تكُن هناك نقود ولا مُدراء ولاعُمال، ولا مصرفيين ولا صاحب فُندق ولا دولة ولا دين مُنَظْم ولا شرطة ولا سُجَناء. وحتى العائلة حسب فهمنا لها الآن، لم يكُن لها وجود. واليوم يجد الكثير من الناس من الصعوبة بمكان تصوّر عالَم بدون هذهِ الأشياء؛ فهي تبدو طبيعية جداً حتى أنها قد تكون تدبير إلهي. ومع ذلك فقد تَدَبَرَ أجدادُنا الأوائل أمورهم على نحوٍ لا بأس بهِ بدونها.

يُشَكّل الانتقال من الصيد وجمع الغذاء إلى الاستقرار الزراعي والريفي، أول ثورة اجتماعية كبيرة، والتي أسمها عالِم الآثار الاسترالي الكبير (الماركسي) غوردون تشايلد Gordon Childe، ثورة العصر الحجري الحديث. إن الزراعة تحتاجُ للماء. وحينما تتعدى الانتاج البسيط على مستوى عيش الكفاف، فإنهُ يلزمها الري والحرث والسدود وتوزيع للماء على مساحة واسِعة. وهذهِ مَهام اجتماعية.

يَحتاج الري الزراعي الواسع إلى مُستوى واسع من التنظيم على مستوى كبير. فهو يحتاج إلى حشد أعداد كثيرة من العُمال وإلى مستوى عالٍ من التنظيم والنظام. إن تقسيم العمل الذي كان موجوداً في شكلِهِ الجنيني في التقسيم الابتدائي بين الجنسين ينبَثقُ من احتياجات عملية المخاض وتنشئة الأطفال، وتَطوَرَ إلى مُستوى أعلى. إن العمل الجماعي يحتاج إلى قادة، رؤساء عُمال ومُراقبين وإلى ما هُنا لك، وإلى جيش من الأشخاص الرسميين للإشراف على الخِطة.

يَتَطَلَب التعاون على مثل هذا المستوىى الكبير إلى التخطيط، وتطبيق العِلم والتقنية. وهذا فوق طاقة المجموعات الصغيرة المُنظمة في عشائر التي شكلت نواة المجتمع القديم. إن الحاجة إلى تنظيم وحشد أعداد كبيرة من العُمال أفضى إلى نشأة الدولة المركزية، بِرِفقة الإدارة المركزية وإلى الجيش كما حدث في مصر وفي بلاد ما بين النهرين.

كان ضبط الوقت والقياس عُنصرين أساسيين للإنتاج، وكانا هما بذاتهما قوتا إنتاج. ولهذا تَتَبع المؤرخ اليوناني هيرودوت Herodotus بِدايات الهندسة الرياضية في مصر من أجل عادة قياس الأرض المغمورة كُلُ سنة. إن كَلِمة geometry في حد ذاتِها معناها لا أكثر ولا أقل من قياس الأرض.

لقد مكنت دراسة السماوات والنجوم، والرياضيات رجال الدين المصريين من التنبؤ بفيضان النيل، وإلى آخرهِ. وهكذا، فإن العِلم ينشأ من الضرورة الاقتصادية. كتب أرسطو في كِتابهِ بعنوان: ما وراء الطبيعة: ”بدأ الإنسان يتفلسف لأول مرة عندما توفرت ضرورات الحياة.“  إن هذهِ العبارة تذهب مُباشرة إلى جوهر المادية التاريخية – 2,300 عاماً قبل كارل ماركس.

وفي قلب هذا الانشقاق، أغنياء وفُقراء حُكام ومحكومين مُتعلمين وأُميين، يوجد الانقسام ما بين العمل الذهني والعمل اليدوي. يُعفى رئيس العُمال عادةً من العمل اليدوي الذي يحمل الآن وسماً. ويذكر كِتاب الإنجيل ”مُحطِبو حَطَب ومُستقو ماء“، الجماهير التي استُثنيت من الثقافة، التي تم لفُها في رداء من السِرية والسِحر. إن أسرارها تحرِسُها طائِفة من الكُهان والنواميس التي كانت مُحتَكرة عليهم.

وهنا لقد رأينا الخطوط العامة للمجتمع الطبقي، تقسيم المجتمع إلى طبقات: المُستَغِلين وشِبه المُستَغِلين. في أي مُجتمع حيثُ يكون الفن والعلوم والحكومة مُحتَكَرة من قِبَل الأقلية، فإن تلك الأقلية سوف تستغل وضعها من أجل مصالِحها. إن هذا هو أعظم أسرار المجتمع الطبقي وبقي سِراً مخفياً على مدى الإثني عشر ألف عام الماضية.

وخِلال كُلُ هذا الزمن كانت هناك تَغييرات أساسية عديدة في أشكال الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ولكن العِلاقات الأساسية بين الحُكام والمحكومين وبين الأغنياء والفُقراء وبين المُستَغِلين والمُستَغَلين بقيت لم تتبدل. وعلى نفس المِناول، رغم أن أشكال الحكومات مَرَت بتغُيرات كثيرة، بَقيت الدولة على ما كانت دائماً عليه: أداة إكراه وتعبيراً عن الحُكم الطبقي.

إن نشأة المجتمع العبودي وسُقوطِهِ في أوروبا تَبَعَها النظام الإقطاعي، والذي بِدورهِ استُبدِل بالنظام الرأسمالي. إن نشأة البرجوازية، التي بدأت في البلدات والمُدُن الإيطالية والهولندية، وصلت إلى مَرحلة حاسِمة مع الثورات البرجوازية في هولندا وإنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والثورة الفرنسية الكُبرى من 1789 إلى 1793. صَحِبَ كُل هذهِ التغييرات تَحَوِلات عميقة في الثقافة والفن والأدب والدين والفلسفة.