المنشور

تحديات التننمية في دول مجلس التعاون

تمكين المجتمع وتحريك قواه لمواجهة الجمود

تحديات التننمية في دول مجلس التعاون

منذ اواسط 2014 شهدت دول مجلس التعاون انخفاضا حادا في اسعار النفط حيث انخفض من 115 الى اقل من 50 دولار. هذا الانخفاض ادى الى عجوزات في ميزانيتها وتوقف برامج ومشاريع بنى تحتية واضطرت الى السحب من صناديقها السيادية واحتياطياتها. ومايزال الخطر قائما مع استمرار الاسعار في حدود الخمسين دولار مع كل ما يمثله ذلك من عدم استقرار مالي واقتصادي في الدول المصدرة للنفط يهدد بعضها بالتضخم والانكماش. هناك عدة اسباب ادت الى هذا الانخفاض منها الركود في اوروبا وتراجع النمو في الصين، وارتفاع التقنيات في تحسين كفاءة الاستهلاك، وزيادة العرض بسبب الاستثمار في النفط الصخري والرملي.

ان استمرار الانخفاض، في الدول التي لا تملك احتياطات كبيرة مثل البحرين وعمان، يشكل اما تحديا يتمثل في صعوبة استمرار الانفاق الحكومي وما يصاحبه من صعوبات اجتماعية وتوترات سياسية. واما يشكل فرصة مواتية لاصلاح سلوك الحكومات المالي والصرف البذخي والفساد والاسراف والتبذير، والدفع في اتجاه التنويع والاصلاح السياسي والاقتصادي. هذا الإجراء الاصلاحي مع خفص الاسعار سوف يمنح دول الخليج القدرة على كسب حصة اكبر من السوق والوصول الى توازن السعر في المدى المتوسط متى ما خرج من السوق المنتج الاقل كفاءة.

السؤال هل استفادت دول المجلس من الانخفاضات السابقة في الاسعار من حيث تنويع الاقتصادات والحد من التعرض لتقلبات الاسعار؟ يتعرض الباحث رشا مصطفى عوض لهذا السؤال في ورقة بعنوان: “التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي: الواقع الراهن والمستقبل المأمول” تعرض الورقة عملية تنويع الاقتصاد التي ترتكز على خمسة محاور هي:

  • اصلاح الإطار العام لادارة الاقتصاد الكلي في دول المجلس من خلال تحرير العملة الخليجية عن الدولار لكي يمكن استخدامها كأداة لادارة الاقتصاد الكلي مع السياسة النقدية في حالة اقرار نظام ضريبي متطور والسياسة المالية. في الوقت الحاضر تنحصر قدرة دول الخليج في ادارة الاقتصاد على استخدام الانفاق الحكومي فقط.
  • تنمية رأس المال البشري ومراكمته ليصل الى الحد الادنى المطلوب. إن وجود قدر محدود من المتعلمين والمأهلين لا يكفي لخلق حركة تنموية. يحتاج الامر الى خلق قاعدة كبيرة تشكل كتلة حرجة تنطلق منها عملية تنويع فعالة. خلق مثل هذا القاعدة يتطلب ايجاد حوافز مجزية لتحسين جودة التعليم والاقبال عليه. كما يتطلب الأمر الحد من الصراع على التوظيف في القطاع العام كمكافأة على الولاء أو لتوظيف الأهل والاقارب والمعارف أو وسيلة لتوزيع الريع. حدوث ذلك يضعف الدافع للتعلم والاجتهاد فيه. الحد من هذه الممارسات خاضعة لمدى قدرة المجتمع على محاربة هذه الظاهرة من خلال الصحافة والمجلس النيابي ومنظمات المجتمع المدني الاخرى.
  • رفع كفاءة وانتاجية القطاع العام. في الوقت الحاضر وصل القطاع العام الى حد التشبع واصبح من الضروري رفع كفاءته وتعزيز الحوكمة فيه. اول شرط في اصلاحه هو البدء من رأس المؤسسة من خلال توفير النزاهة والاهلية وربط الاداء والانتاجية بمبدأ المحاسبة والثواب والعقاب. هذا من شأنه حفز الشباب على الاجتهاد والتعلم والاستفادة من الكفاءات في المجتمع للتنافس على المواقع القيادية وفق آليات السوق. التواني في احداث ذلك وتمكين الشباب المؤهل يرسل رسالة خاطئة الى الشباب والناشئة بعدم اهمية الاجتهاد والتأهيل. عدم اعتماد ذلك يوصل قيادات ضعيفة تفسد العمل المؤسسي وتعوق تكوين رأس المال البشري وتراكمه، كما يؤدي الى حرف النشاط الانتاجي الى نشاط استحواذي وطلب للريع.
  • اصلاح القطاع الخاص بعيدا عن النخب السياسية والتسول من الدولة. الاقتصاد الخليجي يعاني من قلة التنويع وقد انقاد القطاع الخاص الى سلوك احتكاري يفاقم الوضع. يتركز نشاط القطاع الخاص في مجالات محدودة هي المقاولات، وتجارة الاستيراد من خلال الوكالات التجارية، والخدمات. هذه الانشطة ركزت الثروة في شرائح محدودة من الافراد والعائلات في المجتمع ترتبط مصالح بعضها بالنخب السياسية. شكل ذلك موانع لدخول انماط اخرى من الانشطة مثل التصنيع الذي يتضارب مع مصالح هذه الفئة. فالقطاع الخاص كان قبل النفط اكثر استقلالية وتنظيما وقوة تفاوضية واكثر تاثيرا في صنع السياسات المحلية وفي تقديم الخدمات مثل التعليم. وكان يشكل اكبر قوة معارضة عندما كانت الحكومة تعتمد على الضرائب من الغوص والتجارة والزراعة. ظهور النفط حيد التجار ورجال الاعمال والصناع وخلق منهم طبقة طفيلية تم شرائها من خلال نظام الوكالات. هذه العلاقة واعتماد القطاع الخاص على ايدي عاملة رخيصة قضت على حوافز الاستثمار طويل الاجل في القدرة الانتاجية او في تكوين رأس المال البشري. والاخطر من ذلك ان نسبة كبيرة من رؤوس الاموال المتراكمة تذهب خارج نطاق السوق ولا يستفيد منها المواطن. هذا يستدعي مراجعة نظام الوكالات على مستوى الخليج بما يشجع على المنافسة ويتيح المجال لنمو قطاع صناعي تنافسي يشجع الابتكار.
  • بناء قاعدة صناعية بعيدة عن القطاع النفطي. ارتبطت التنمية بالتوسع الصناعي، مثال على ذلك الثورة الصناعية في بريطانيا واللحاق بها في امريكا واوروبا، والنمو السريع في دول شرق اسيا وامريكا اللاتينية. اما التنمية التي تعتمد على المواد الاولية مثل النفط فهي متقلبة وتتسم بالمضاربة المحلية في القعار والاسهم. اذا الهدف من بناء القاعدة الصناعية هي تنويع الاقتصاد واستحداث مجالات وانشطة جديدة بمحتوى تقني قادر على المنافسة. يتم ذلك من خلال سياسة صناعية تشخص مواطن الخلل والمعوقات وضعف التنافسية والابتكار وايجاد الحلول الملائمة لها وتوليد مبادرات بناء على ذلك. اهم المعوقات هي نظرة رجال الاعمال الى هذا النشاط على انه منخفض الربحية مقارنة بالمتاجرة وبيع السلع المستوردة وفق نظام الوكالات الاحتكاري. والتحدي الذي يواجه دول الخليج هو كيف تحفز القطاع الخاص لتخطي هذا الحاجز.

هذه الدراسات وغيرها تبين أن الوسيلة نحو التنمية معروفة. هناك العديد من الدراسات التي تحدد ما هو مطلوب للتنمية ولدينا الموارد المادية والقوى البشرية لاحداث الانتقال نحو المجتمع الانتاجي لكن وعلى مدى نصف قرن فشلت منطقة الخليج في احداث هذا التحول. لماذا الفشل في الوقت الذي تتوفر مقومات النجاح المادية؟ التفسير الوحيد الذي يمكن ان يصل الى درجة معينة من الاقناع هو الجمود المؤسسي الذي يصيب الدول التي خطت في اتجاه التحول الاجتماعي والتحول الاقتصادي لكن عدم قدرتها على التحول السياسي يفقدها القدرة على الحركة والتقدم واتمام الانتقال نحو الاقتصاد الانتاجي المعتمد على قوى السوق والمنافسة الحرة.

أحد أهم أسباب هذا الجمود هو ان مصالح النخب السياسية في المنطقة تتعارض مع ديناميكية التنمية التي في النهاية تؤدي الى استقلال المجتمع وفئاته المختلفة عن الإرتباط بالدولة الريعية والاعتماد عليها. هذه الاستقلالية نقيض للحاجة إلى الهيمنة والسيطرة التامة على المجتمع ونقيض لتفتيت المجتمع إلى طوائف وتكتلات منقسمة على نفسها وفيما بينها. التنمية تخلق مصالحَ يمكن أن تلتقي عليها الجماعات فيتكون لديها وعي بمصالحها فتطالب بالمشاركة لحماية هذه المصالح التي اصبحت تختلف عن مصالح النخب السياسية في الدولة الريعية.

في حالة الانسداد هذه تنحصر خيارات المجتمع والدولة في التقدم وتحقيق التنمية في خيار واحد هو تمكين المجتمع وتحريك قواه ومصالحه نحو التكتل لمواجهة الجمود والتغلب عليه بخلق زخم مجتمعي يضغط في مسار التنمية في مواجهة المصالح المستفيدة من استمرار الجمود وإبقاء الوضع كماهو يعتمد على قطاع العقار والتجارة والمقاولات.