المنشور

النزاهة في العمل البرلماني..!

ثمة ملف ثبت بالعين المجردة، والوقائع الملموسة، أهمية جعله موضع نقاش عام من جانب مؤسسات مجتمعنا المدني، وهو ملف نزاهة العمل البرلماني، فالعد التنازلي لانتهاء صلاحية المجلس النيابي اقتربت، ولم يتبقَ من عمر هذا المجلس سوى شهور قليلة، ونحسب انه يمكن ان يقال الكثير في شأن هذا الملف..!

الكثير من ممارسات ومواقف وأقوال ومناوشات وملاسنات ومراوغات وتناقضات النواب، تفرض على قوى المجتمع المدني ومؤسساته أن تضع هذا الملف في دائرة الاهتمام، حيث تتعاظم الحاجة للقيام بجردة حساب لأداء النواب، بل للتجربة البرلمانية برمتها، ليس فقط لمعرفة حجم الرضا الشعبي عن أداء كل نائب في دائرته الانتخابية، أو مدى التزامه بوعوده الانتخابية التي ما لبثت أن تلاشت، بل للوقوف تحديدًا على مدى تمتع العمل البرلماني والبرلمانيين من نزاهة، هكذا بكل وضوح..

للإحاطة والعلم، فإن المنظمة العالمية للبرلمانيين ضد الفساد «غوباك» شكلت فى عام 2009 فريق عمل عالمي برئاسة النائب البحريني السابق يوسف زينل، وهذا الفريق خلص الى «دليل البرلمانيين حول الأخلاقيات وقواعد السلوك البرلمانية»، تناول عدة مبادئ وضوابط تستهدف توفير أعلى درجات الأخلاق التي تتوافق مع دور النائب من أجل المصلحة العامة، ولا سيما مساءلة السلطة التنفيذية، وعدم وضع نزاهة النائب في دائرة أي شك أو تساؤل، خاصة على صعيد استغلال الحصانة البرلمانية، وتمنع تضارب المصالح، أو استخدام المنصب البرلماني لتحقيق مكاسب خاصة مالية أو غيرها، أو توجيه أدوات الرقابة والمساءلة البرلمانية نحو وجهة معينة لا تعزز مفهوم المسؤولية البرلمانية، ولا تحافظ على هيبة البرلمان وكرامته، ولا تصون المسار البرلماني، وتقضي هذه المبادئ والضوابط بقبول النائب لمساءلة الناخبين له عما تعهد لهم في برنامجه الانتخابي علاوة على أدائه في البرلمان وكل ما يؤثر على مصداقيته كبرلماني.

للإحاطة والعلم ثانيًا، هناك مدونات سلوك تبنتها مجالس نيابية عريقة، هي في مجملها تعزز مفهوم المسؤولية البرلمانية والمساءلة الذاتية، وتمنع التستر على أي نوع من الفساد، أو الحط من كرامة العمل البرلماني، كما تمنع تبني أي نائب لأي موضوع فيه منفعة شخصية من قريب أو بعيد سواء أكان داخل المجلس أم خارجه، وتحول دون استخدام السلطة أو المنصب البرلمانى فى غير محلها، ووجدنا قبل نحو عامين تداول فكرة أو مشروع مدونة سلوك بين أعضاء بمجلسنا النيابي، ولكنه وبعزم لا يلين من بعض النواب ذهب مع الريح..!

للإحاطة والعلم ثالثًا، هناك في العديد من الدول التي استطاعت أن تجعل للعمل البرلماني هيبة ومكانة واعتبار، قوانين صارمة لا تجعل النائب يعمل بلا حسيب ولا رقيب، أو يستغل منصبه أو حصانته من أجل التكسب الشخصي، هناك لوبيات شعبية ضاغطة ومُراقبة نابعة من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات، ومراصد تتابع وتقيس أداء النواب وتصدر تقارير دورية في هذا الخصوص، كل ذلك يشكل روادع تضبط مسار النائب وتحاسبه بلا رحمة إن أساء استغلال المنصب النيابي أو انحرف به أو استغله بأي شكل من الأشكال..

يطول الحديث في هذا المضمار، ولكن لابد من القول، والصراحة هنا ضرورية، ولو كانت قاسية، وهي أننا إذا ما حاولنا التمعن فيما جرى ويجري على صعيد المشهد البرلماني عندنا، سواء في الفصل التشريعي الحالي او في بقية الفصول التي مضت، فإنه اعتمادًا على مجريات الجلسات النيابية، وعلى ما ينشر من وقائع، وهذا وحده كافٍ، سيكون من اليسير أن نلاحظ أن نزاهة العمل البرلماني في بلادنا مست مراراً وتكراراً، وبقدر كبير من الفجاجة، وبات الأمر كما لو أن هناك نوابًا مهمتهم الإمعان في كل ما يفّعل هذا المساس وكأنهم يقومون بمهمة وطنية استثنائية..!

نزاهة العمل البرلماني مُسَّت، والبداية في فترة الانتخابات حين قام بعض من ترشحوا وأصبحوا نوابًا بشراء أصوات الناخبين، وحين قدموا وعودًا للناخبين لم يلتزموا بأي منها، ومست هذه النزاهة حين حوّل بعض النواب مهمتهم من مراقبة الحكومة الى الدفاع عنها، وجعلوا من أنفسهم حكوميين أكثر من الحكومة، والنزاهة مُست حين أعلن أحد النواب بأن «الحكومة تمشي إللي تبيه، واحنا نبربر، والوزراء لا يفتحون آذانهم لنا»، وحين صرح آخر «التشريع سحب منا، والرقابة سحبت منا، ماذا نناقش، الاقتراحات برغبة، إننا نغرق في تقديم هذه الاقتراحات»، قالوا ذلك دون أن يعلو أي صوت أو حتى تسجيل موقف أو اعتراض على هذا الواقع الذي بات يلامس العلقم..!

نزاهة العمل البرلماني مُسَّت حين تعدى أحد النواب على زملائه وفي جلسة علنية بأن هناك من حصل على رشاوى لرفضهم اتفاقية «السيداو»، ومسّت بشكل أو بآخر حين أعلن رئيس مجلس النواب بأنه سيباشر بنفسه بإجراء خصومات على النواب المتغيبين والمتأخرين عن جلسات المجلس ولجانه، وحين افتعل النواب المعنيون ضجة على هذه الخطوة، وحين استمروا في الغياب والتسرب، والمفارقة المذهلة أن هناك من يفعل ذلك بعد أن يؤدي الصلاة، ومسّت حين وجدنا نوابًا تمترسوا بعباءة الحصانة البرلمانية في قضايا مدنية، وهي الحصانة المرهونة بمهمة محددة وليست مطلقة لضمان عدم إعاقة النائب لدوره الرقابي، والنزاهة مُسَّت حين وجدنا جعجعة دون طحن إثر صدور كل تقرير من تقارير ديوان الرقابه، كما مُسَّت هذه النزاهة حين شاهدنا وتابعنا جلسات برلمانية كانت حافلة بالغمز واللمز تارة، ومشادات وملاسنات واتهامات بين بعض النواب تارة أخرى، في أكثر من مشهد مثير، نذّكر على سبيل المثال ذلك المشهد الذي هدد أحد النواب زميلاً له بالقول «لن أرد عليك، لأن الرد سيجعلك تندم وتتحسر ألف مرة»، ناهيك عن مشاهد عديدة تغيب عن الذاكرة..!

نزاهة العمل البرلماني مُسَّت حين قام نواب باستغلال مقاعدهم النيابية ونفوذهم في تصنيف منطقة سكنية الى تجارية وحققوا مكاسب مالية كبيرة، كما مست هذه النزاهة حين قام نواب باستغلال «علاوة المكتب» التي تمنح لهم وقاموا بالتشغيل الصوري لزوجاتهم وبناتهم وأقربائهم من الدرجة الأولى والثانية في مكاتبهم، وقبل ذلك وفي الفصل التشريعي السابق مست هذه النزاهة عدة مرات، أهمها حين تخلى النواب طواعية في مشهد لا ينسى عن صلاحياتهم الرقابية وفرّطوا بأدوات الرقابة والمساءلة وقيّدوا عملية الاستجواب وذلك حين تبنوا ومرّروا مشروعًا بقانون يرفع نسبة الموافقين على استجواب الوزراء من نصف أعضاء المجلس الى ثلثي أعضاء المجلس، مما يعني أن استجواب الوزراء أصبح مستحيلاً، وفي مشهد آخر لا ينسى مُسَّت نزاهة العمل البرلماني حين اعترف نائب بأن كتلة نيابية وضعت تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية في الأدراج، وبدأ أعضاؤها بمساومة الوزراء على توظيف بعض منتسبي جمعيتهم..!!!

نزاهة العمل البرلماني مُسَّت حين ماطل وراوغ بعض النواب للحيلولة دون تقديم إقرارات بذممهم المالية التزاماً بما نص عليه القانون، وحين اعترضوا على تشكيل هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد، وحين أصروا على تمرير ملف تقاعدهم، ونزاهة العمل البرلماني مُسَّت حين اجتمع نواب مع وزراء بذريعة بحث القضايا التي تهم الشعب، ونسوا أو تناسوا أن القضايا التي تهم الشعب مكانها تحت قبة البرلمان وليس الاجتماعات الثنائية بين وزير ونائب جاء ليمرر معاملة، أو ليحصل على استثناء أو خدمة خاصة، أو ليمارس المحسوبية أو الوساطة من أجل تعيينات أو ترقيات أو تنقلات أو تنفيع الى آخره..! ضاربًا بعرض الحائط مبدأ العدالة والاستحقاق في تصريف المعاملات القانونية للمواطنين، وكم هي مفارقة حين يخرج هؤلاء النواب من مكاتب المسؤولين وكأنهم حققوا إنجازًا شعبيًا، وقابل ذلك مفارقة أخرى مناقضة، حين وجدنا نوابًا يعلنون تبرمهم من وزراء لأنهم يماطلون في إعطاء «ممثل الشعب» موعدًا لمقابلتهم..!

يظل موضوع نزاهة العمل الرلماني متشعبًا، وتلك أمثلة ليس إلا، كلها موثقة ويمكن الرجوع اليها في أرشيف اي صحيفة محلية، وكلها تُشعرنا بأننا أمام ممثلين و…. أدوات، وليس أمامنا إلا التفرج والتأسف، ونحن هنا لا نطالب النواب الحاليين بإنجازات خارقة تعيد للعمل البرلماني هيبته ونزاهته، فهم لا يمتلكون لا القدرة، ولا الإرادة، ولا الكفاءة، ولا الوقت لإنجازها، وهذا أمر إن شئنا الصراحة لا يحتمل مراوغة ولا تمويهاً، ولكننا نطالبهم بأن يدركوا ان المواطن لم يعدْ يحتمل المزيد من الخيبات، ولا الاستمرار في التراجع الذي يليه تراجع، هو يتطلع الى حساب ومحاسبات، وبقايا همم تدفع الى الأمام لا الى الخلف، أو المراوحة، وهذا كلام نسارع ونقول إنه موجه للجميع دون استثناء!.