المنشور

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (4)

تصاعد الصراعُ الاجتماعي في سوريا على محوري الملكيتين العامة والخاصة لوسائل الإنتاج، فأخذ يتفاقمُ سياسيا، ولم تعدْ القوى المعارضة بقادرةٍ على العمل من داخل الوطن، فلجأت إلى الخارج، وازدهرت التنظيماتُ المعارضةُ ووسائلُ نشرها من دون أن يتمكن معظمها من إقامة روابط متينة مع الشعب السوري. في حين كان تنظيمُ الاخوان المسلمين يعمل خلال أكثر من نصف قرن، والاسم الحقيقي للتنظيم هو «الاخوان المسلمون السنة المحافظون« أي هو يتمحور في طائفة واحدة ويعبرُ عن منحى اجتماعي يميني (ذكوري)، حسب التسمية اللفظية. ومحافظتهُ نتاجُ استيرادهِ للإقطاع المذهبي القديم الذي سيطرَ على إنتاج فهم الإسلام خلال العصر الوسيط، وهذا استيرادٌ من الماضي، رغم انه تنظيمٌ يعبرُ عن فئاتٍ وسطى سورية حديثة، فإن هذا التضاد هو نتاجُ الوعي السياسي الديني المعاصر، الذي لا يعرفُ جذورَهُ، ويمضي في السياسة بشكلٍ عفوي وتجريبي، لكنه يتعلم أثناء ذلك وخاصة في المعارك الدموية وفي التضحيات الجسيمة غير المبررة مثلما جرى ذلك في الأزمة الوطنية السورية المأساوية بدءًا من سنة 1971م. وإذا كان هو فرعٌ من الاخوان المصريين لكنه تجذر وطنيا، فغدت قضايا سوريا هي البوصلةُ له، حتى إنه ميز نفسَهُ عن موقف الاخوان المصريين المعادين للوحدة السورية – المصرية. تشكل بدايةً من الاربعينيات وخاصة في أواخرها، من عناصر من الفئات الوسطى، وهو يصورُ نفسَهُ كمعبرٍ عامٍ عن الإسلام، أي ليس باعتباره تنظيما مذهبيا سياسيا محددا، ويسهمُ هذا التعميمُ في إشكالياتٍ سياسية كبيرة، فهو يختصرُ المسلمينَ والإسلامَ في ذاته، ثم يختصرُ السنةَ في ذاته، وهذا التضخمان يجرانه للنظام الشمولي، وإلى مشروعٍ سياسي دكتاتوري، فتغدو الأدواتُ السياسيةُ العصرية كالنقابات والبرلمان وغيرها أدواتٍ لصعود تلك الشمولية، التي غالباً ما تموهُ نفسَها بضبابِ العبادات والمعاملات الإسلامية للنمو السياسي داخلها، أسوةً بكل التنظيمات الدينية،(إذا لم توجه نفسها لفقهٍ إسلامي وطني تحويلي لحياة الناس الاجتماعية). ذكرتْ الجماعةُ في مؤتمرِ تأسيسِها ببلدة يبرود السورية سنة 1946 انها تعمل على «تحرير الأمة وتوحيدها وحفظ عقيدتها وبناء نظمها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أساس الإسلام، ومحاربة الاستعمار بأشكاله كافة). يختصرُ تنظيمُ الاخوان السوريين هنا كلَ الأمم الإسلامية في ذاته، وهذه التعميماتُ الشمولية هي «وليدةُ العمل« السياسي الأولي، فهو لا يعرف من يمثل وماذا يجسدُ من وعي ديني، مثلما يتحركُ التراثُ في وعيهِ بشكلٍ عفوي مختلط، لكن علاقات قيادته تشكلُ فهمَهُ ويدركُ المصالحَ التي يدافعُ عنها في غمرة الصراع السياسي، وتضفير علاقاته مع الطبقات المختلفة وهي تحتاجُ إلى زمن موضوعي. ولأن التنظيمات الشيوعية والاشتراكية القومية كانت ترفعُ لواءَ تحريك الصراع الطبقي، فهو دعا إلى تهدئة هذا الصراع، ليتباين عنها ويفرملُ انتشارَها، مركزاً على الأشكال الدعوية والكيانات الاجتماعية الخيرية، وهو نمطٌ من الصراع الطبقي البعيد المدى والمتوافق مع الطبقات العليا، وقد شارك في البرلمانات ودافع أعضاؤه المنتخبون عن «حقوق الفلاحين ورفضوا استغلال كبار الملاك لهذه الطبقة المحرومة، ودعوا الحكومة لتخفيض أسعار الخبز ورفع الضرائب عن الفقراء ورفضوا تأجيج الصراع الطبقي بين شرائح المجتمع«، (مذكرات وذكريات الداعية عدنان سعد الدين أحد قياديي الرعيل الأول من الاخوان السوريين). يتجسد عمل الاخوان بشكل أخلاقي ووعظي، أو بشكل سياسي محدود، فالدعوة لتخفيض أسعار الخبز، تنفصلُ عن توزيع الأرض على الفلاحين، أكثر المطالب سخونةً في ذلك الحين، وقد ذكرنا سابقاً كيف كان الإقطاعيون يهجرون الفلاحين السوريين من قراهم، وقد اشتدت حمى هذه المعركة في البرلمان ثم أثناء حكم الرئيس جمال عبدالناصر لسوريا الذي صعدَها لمستوى كبير بطرحهِ تخفيض ملكيات الإقطاعيين وأمم من جهة أخرى أملاك كبار الرأسماليين، فوقف الاخوان ضد الإصلاح الزراعي المحدود جدا الذي حاول عبدالناصر تطبيقه. يقولُ مؤلفُ الكتاب السابق ذكره: «… فصدر قانونُ الإصلاح الزراعي ونزعَ الملكيات الزائدة عن المساحات التي حددها القانونُ لصالح الفلاحين، وطبق القانونُ بحقدٍ وعاشت سوريا بسبب هذا القانون فترةَ مقتٍ وعداء بين المواطنين، وتراجع الانتاج الزراعي«. تتضحُ هنا جذور الاخوان السوريين وارتباطهم بملاك الأراضي، فحتى هذا الإصلاح المبقي على الفدادين الواسعة للملاك، الذي يقوم بقصقصة بعض الريش لهم، أُعتبر سيئاً، وهو أمرٌ يوضح طبيعة النشأة الاجتماعية وترابط المصالح، وكون هذه الفئات الوسطى الاخوانية محافظةً وتقعُ في أقصى اليمين حينذاك على الأقل، ثم يمتد ذلك الرفضُ لقضايا التحديث الأخرى خاصة ما يتعلق بحقوق النساء وابعاد الدين عن الاستغلال السياسي، وتقود هذه المعارضاتُ المتعددة جماعةَ الاخوان السوريين إلى العداءِ للنظام الناصري ثم البعثي وكل قوى الحداثة العربية، وإلى التداخل مع الأنظمة العربية المحافظة الرافضة حركة التحرر العربية، التي تدخلُ في تحالفاتٍ خطرة مع الاستعمار الغربي وقتذاك. من جهةٍ أخرى فإن قوى الحداثة والتحرر السورية التي شكلت التجربة السياسية خلال الخمسة العقود منذ الأربعينيات حتى نهاية القرن العشرين، وصلت إلى أزمة بسبب تشكيلها بناء اقتصاديا بيروقراطيا تنمويا مهما لكنه تجسد بشكل استبدادي مما قاد إلى فساد عميق راحت أمراضه تتكشف بقوة خلال السنوات الأخيرة، وقد أوضحنا بعضَ مظاهره سابقاً. مثلت الاستيراداتُ السياسية الشيوعية والبعثية المنافسة للإخوان قوالب خارجية، رآها الأخيرون كسحق للأمة وتراثها، فأولئك عملوا على عدم الاعتراف بالإسلام والمسيحية كجذور مهمة للشعب السوري، ورأوا السياسة كهدم للطبقات العليا وإزالة تراثها ودينها، مما أوغر الصدر السياسي الضيق ل للإخوان وتوجهوا للنقيض. فكانت السياسات الشمولية لهذه القوى مجتمعة تتصادم، وتدمرُ بعضَها بعضا. مثلما استورد الاخوانُ تراثَ الإقطاع المذهبي العتيق وعمموه كدين، وعارضوا به التحديثيين. لكنه كان كذلك تعبيراً عن صراع المصالح، فقلةٌ من التحديثيين واحزابهم ارتفع طبقياً، وانتشر في المؤسسات الرسمية المختلفة وأثرى، في حين كان الحزبيون الاخوان في دوائر القهر والحرمان، والغربة في وطنهم، وهذا ما وسع شعبيتهم، وجعلهم يصطدمون مع منافسيهم السابقين في معركة جديدة بين هذه القوى، ولكن ليس كل اليسار والليبراليين صار حكوميا، فهناك قوى دافعتْ عن الملكية العامة ومطالب الأغلبية الشعبية ولكن من زاوية الديمقراطية والحداثة.
 
صحيفة اخبار الخليج
6 اكتوبر 2008