المنشور

الحالة العربية: اصلاح سياسي أم ديني أم اقتصادي

على ضوء ما تمر به الأمة من تخلفٍ علمي ومعرفي وتكنولوجي واقتصادي، جعل الامة العربية تابعة للغرب في كل مجالات الحياة، معتمدة عليه في كل مستلزمات حياتها ووجودها، واستيراد كل ما تحتاجه مما يجعلها رهينة في يد مزوديها غير قادرة على الدفاع عن حقوق شعوبها وعن قضاياها المصيرية، برز في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تيار تنويري حاول الخروج من هذه الأزمة وانتكس في الخمسينات، وتستمر الازمة وتتعدد الرؤى حول الخروج منها.
هناك من يرى أن الاصلاح الاقتصادي هو المخرج، حيث أن ذلك سوف يخلق طبقة متوسطة فاعلة وقادرة على المطالبة بحقوقها واستقلالها وحريتها السياسية في تحديد دستورها ونظام حكمها، وقامت ثورات الربيع العربي وفق هذا المنظور ابتداء من تونس التي بها طبقة متوسطة كبيرة ومنظمات مجتمع مدني متطورة طالبت باصلاحات اقتصادية ومعيشية تطورت إلى مطالب سياسية، وتمكنت من تحقيق تطور نسبي في تقدمها السياسي. لكن هل هذا سوف يوصلها إلى التقدم في المجالات العلمية والتقنية والتحول نحو مجتمع المعرفة؟
وهناك من يرى أن الخروج من الأزمة يحتاج إلى اصلاح سياسي جذري تتحول بواسطة الدول العربية الى ديمقراطيات ليبرالية تقوم على مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية. هذا التيار يحار في كيفية البدء في الاصلاح السياسي، هل يتم من قبل الحكومات نفسها بالتدرج، أو يتمّ من خلال تحركات شعبية تقدمية تفرض ارادتها سلميًا على الحكومات، كما هي المحاولة في لبنان مثلا وتجبر المؤسسة السياسية على اصلاحات جوهرية في نظام الحكم.
وهناك من يرى بأن هذا الاصلاح لن يتم ما لم يسبقه اصلاح فكري، ثقافي وديني يعيد الحرية للانسان في الاختلاف ويمنحه حق المساءلة وطرح البدائل عن القضايا الفقهية التقليدية التي حكمت الفكر والوعي العربي المسلم على مدى عشرة قرون، منذ البيان القادري الذي أسس لعقيدة السنة والجماعة ومعه التحولات في العقيدة الشيعية.
هذا التيار يرى الاصلاح في المطالبة بفتح باب الاجتهاد ورفض التراث التقليدي واستعادة الصدارة للقرآن في التشريع ورفض مبدأ القياس والإجماع الذي حوّل العقل العربي إلى عقل قياس عاجز عن الابتكار، ومنع الإنسان من حق التدبر، واحتكر التفسير والتاويل وفرض رؤية واحدة وضعها فقهاء وعلماء اجتهدوا لعصورهم ووفق ظروف حياتهم وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية وسقفهم المعرفي في فترة من تاريخ الأمة لعبت الحروب الأهلية والنزاعات فعلها في تسيير الفكر والعقل وتوظيف الدين في السياسة. الآن أصبح من الضروري تجديد هذه الرؤية، لأنها تخنق العقل وتشلّ التفكير وترفض الابتكار والابداع وتشيع ثقافة الاستسلام والخنوع والقناعة الزائفة.
الظاهر أن هناك علاقة جدلية بين المحاورالثلاثة للاصلاح. فاأيها المفتاح في التطور؟ هذه المحاور الثلاثة تمثلها ثلاث قوى متحكمة في مصير الأمة. وهناك تحالف بين هذه القوى الثلاث في الوطن العربي. تحالف بين القوى السياسية والقوى الاقتصادية والقوى الدينية. تقول اليزابيث جاكوب في كتاب (After Piketty,p512) “بأن القوة السياسية تجلب القوة الاقتصادية والقوة الاقتصادية تعزز وتزيد من القوة السياسية، وهذه دائرة مغلقة تصاعدية في صالح تكريس السلطة السياسية وتركيز القوة الاقتصادية من الصعب كسرها”. وإذا ما اضيفت لها السلطة الدينية يصبح الخلاص من قبضتها مهمة عسيرة جدًا.
استفاد الغرب في نهضته من الصراع بين السلطة الدينية (الكنيسة) والملوك (السلطة السياسية) وبين الاقطاعيين (السلطة المالية) في العصور الوسطى وحتى بدايات عصر النهضة. هذا الصراع الثلاثي أضعف الاطراف المتصارعة، وتمكنت الطبقة المتوسطة بفضل الثورة العلمية والفكرية والدينية والصناعية ان تفرض ارادتها تدريجيا في بريطانيا وثوريا في فرنسا، في حين نجد أن التجربة الإسلامية سارت على عكس هذا المسار، فقد هيمنت السلطة السياسية على السلطة الدينية وجعلتها في خدمتها منذ البدايات، وتمكنت من السيطرة على المال لاخضاع المجتمع بالترغيب والترهيب. حدث ذلك في جميع مراحل الحكم مع القليل من الاستثناءات التي لم تؤثر على مسار التاريخ. في هذه الاحوال المعقدة كيف يمكن للوطن العربي أن يخرج من هذا المأزق الثلاثي وماهو المزيج والتراكم والتدرج المطلوب للتغلب على هذا التحالف؟
في تقرير الامم المتحدة حول المعرفة لعام 2003 يرى التقرير الذي شارك في وضعه مفكرون وكتاب عرب في أن الطريق وعر وشاق ويحتاج إلى مقاربة ثلاثية المحاور: الاصلاح الاقتصادي مرتبط بالقدرة على انتاج المعرفة وهذا يحتاج الى مجتمع قوي وتبلور ارادة سياسية تهيئ الارضية لمنظومة انتاج المعرفة بدءا ببناء رأس مال بشري وبناء مؤسسي، اي أن الاصلاح الاقتصادي مرتهن بقرار سياسي يضع الأسس البنيوية والأخلاقية والقيمية من حريات وانفتاح تسمح بالبحث العلمي الحر، ونشر نتائجه دون تعرضه لرقابة مؤسسية وذاتية. ويجد أن المشكلة تكمن في امكانية نشر نتائج الأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي لا بد وأن تصطدم بالثقافة الدينية السائدة والمنظومة السياسية القائمة. فيقول بأن “المعرفة لا تنشأ في فراغ مجتمعي، ولكن في مجتمع له واقع وتاريخ وسياق اقليمي وعالمي، وهذا الأخير له أهمية كبيرة في حالة الوطن العربي”.
يتراوح السياق العام في الوطن العربي بين الاستبداد المطلق والاستبداد المقنن والديمقراطية الإجرائية النسبية. وهناك منطقة رمادية يسميها البعض التحول الديمقراطي. هذا النموذج يحتاج إلى سنوات، إن لم يكن اجيال لكي يؤسس ثقافة الديمقراطية مكان ثقافة الاستبداد. هذا إذا توافرت له منظومة تعليمية صالحة وإعلام منفتح وحرية فكرية ترتكز على تشريعات تحمي حرية الرأي والفكر والإبداع، وحرية الاعتقاد. يمكن لهذا التوجه أن ينشر ثقافة حقوق الإنسان والتعددية وقبول الآخر المختلف في الدين والمذهب والفكر. لكن هل ستسمح الأنظمة بتأصيل ثقافة الديمقراطية التي قد تقتلعها في المستقبل؟
هل التعويل على وعي الشعب ممكن وقائم؟ وكيف سيتأسس هذا الوعي في ظل إعلام مهيمن على الساحة الثقافية والفكرية والعقائدية ويغذي الشعب إما بالتطرف الديني القائم على الإرهاب والقتل وإما على الخنوع والطاعة العمياء، دون أن تكون هناك حلول وسط، وخصوصا في الدول الكبيرة المؤثرة في الوطن العربي التي تخضع لهذه الأنواع من الانظمة.
التيار الذي يقول بالاصلاح السياسي (في صيغته المحافظة المتدرجة) يعقد الأمل على الدول الملكية التي تستند إلى شرعية تاريخية قوية وإلى شعوب اكتسبت مستوى من التعليم، وطبقة وسطى حية في بعضها أن تقوم هذه الأنظمة باصلاحات اجرائية تفتح المجال أمام اصلاحات قيمية ودستورية تمنح حقوقاً سياسية أكثر مواءمة مع متطلبات النزاهة والشفافية وحرية الرأي والاختلاف والتعددية. العامل الآخر الذي قد يسرّع من هذه العملية بشكل متدرج هو التحول من الاقتصاد النفطي الريعي إلى اقتصاد انتاجي يفتح مجالًا للصناعة أن توسع من الطبقة الوسطى وتربط مصيرها بإعادة توزيع الثروة والاستثمار في المعرفة والإنتاج والإبتكار.
يدعم هذه التيار ما قاله المفكر فهمي هويدي من أن “الإصلاح الديني مهم ولا غنى عنه، ولكن الإصلاح السياسي أهم”، كون الأخير يخلق مناخات حرّة تنعش الحوار “ما يحرك ركود حركة الاجتهاد والتجديد”، لأن “الاستبداد بمختلف تجلياته كان أحد أهم المصادر التي فرضت العنف المستند إلى المرجعية الدينية. ذلك أن انسداد قنوات التعبير السلمي دفعت بعضًا من النشطاء المتحمسين إلى محاولة التغيير باستخدام العنف”. من جانبه، اعتبر الباحث السوري جاد الكريم الجباعي أن “العصبية هي كلمة السر في التحليل الاجتماعي التاريخي، لا الدين… لذلك نعتقد أن إصلاح السياسة يفضي إلى إصلاح ديني، لا العكس”.
غير أن هناك تيار قوي يقول بأن الاصلاح الديني هو الأهم والأساس الذي يحرر الشعوب من قبضة رجال الدين، مقتنعا بأن تحرير الفكر هو الأهم. هذا التيار يزداد قوة وجرأة في الطرح ويدعو إلى استعادة المركزية في الدين الإسلامي للقرآن الكريم معتمدين على أقوال الفقهاء الأوائل، الذين قبلوا الاختلاف والتعدد الفكري بالرغم من التأثير السياسي منذ بدايات العهد الراشدي. هذا الجدل كاد أن يحسم لصالح الاصلاح السياسي في الربيع العربي لولا تدخل المحور الثالث في التحالف وهو المحور المالي الذي أعاد المجتمعات العربية الى ما قبل المربع الأول ليبدأ من جديد يطرح السؤال أيهم أولًا؟ وهل هذا هو السؤال المناسب أم أن الأفضل كيف يكون التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة لتحقيق نتيجة التقدم الذي تستحقه الأمة؟