المنشور

الربيع

تبدو الحديقة في مثل هذا الوقت من العام، رائعة بأزهارها الحمراء وحشائشها الخضراء، وعطرها الأخَّاذ، وليس أجمل من جلسة على الكرسي في مثل هذا الطقس، في صحبة كتاب.
والحق أنَّه اعتاد هذه الجلسة منذ أمد بعيد، إنَّها تملأ نفسه طمأنينة وراحة هو بأمسِّ الحاجة إليها، وهو في هذا السن دون زوج وأبناء.
لقد قام بما عليه كأخ كبير، ومات والده راضِ عنه، وكنت آخر كلمة سمعها من أمه، وهو يقلَّها إلى المسجد الكبير: وفقك الله ووهبك زوجا صالحا، ترعاك كما رعيتنا جميعا.
وها هم أشقُّاؤه وشقيقاته، فتحوا بيوتا، وأنجبوا أبناءا، وأعينهم تفيض بدمع العرفان، للأخ الذي آثر أن يحرم نفسه لأجلهم.
وقام من على الكرسيِّ، وتمشَّى ببطأ شابكا أصابعه خلف ظهره، مسرورا بمنظر الأرض الخضراء، وبالنخلة الوحيدة المرفوعة الهامة، وبشجرة اللوز الوارفة الظلال.
وسقطت كرة عند قدميه، فانحنى والتقطها وأخفاها خلف ظهره، لعلمه أنها لابن جاره المشاغب محمود. وسمع صوت الباب يفتح، وصوت الطفل يقبل مسرعا للحديقة، وهو يقول:
– أريد كرتي.
فأحبَّ أن يشاغبه فقال:
– أيَّة كره؟
أجاب الولد في قلق:
– لقد سقطت في حديقتكم.
– ما لونها؟
– أخضر.
قال في ود:
– لدينا كرات كثيرة، تعال اختر منها ما تشاء.
ودخل الولد الحديقة، وبحث فلم يجد كرته، فقال:
– أين كرتي؟
– هناك .. أنظر.
وأشار إلى البطيخ الأخضر..
– تقدم خذ منها ما تشاء.
وجاء الولد، ولمَّا لم يجد كورته أوشك على البكاء:
– هذه ليسة كور إنها بطيخ أخضر.
فضحك، وأخرج الكرة من وراء ظهره وأعطاها اياه، وقال مُتصنِّعا الغضب:
– لن أعطيك إياها إذا رميتها هنا مرة أخرى.. أسمعت؟!
أمسك الولد بالكرة وفرَّ هاربا.
لحظات وسمع صوت الخادمتين يرتفع بالصُّراخ، فبان عليه الضيق والكدر:
– ألن تكف هاتين المجنونتين عن الصراخ؟
ثمَّ أطلَّت فجأة امرأة ضخمة الجثَّة فبان عليه الانزعاج الشديد، كأنَّما أُلقت حجرا في بركة راكدة هادئة.
ابتسمت متودَّدة، فتساءل حتى متى يتحمَّل مضايقاتها؟!. لقد دخلت البيت دون استئذان، وستحاول الآن اقتحام خلوته المحببة إليه.
إنها امرأة مُطلَّقة ولديها طفلان، لم تزل تحاول الإيقاع به كي يتزوَّجها. لقد بلغت بها الجرأة أن تحدَّثت مع شقيقاته، أفهمتهنَّ أنَّها أفضل زوجة يمكن أن يحظى بها، هي بحاجة لزوج يرعاها، وهو بحاجة لامرأة تسعده، وكأنه صبي صغير بحاجة لها ولغيرها، أو انه غرُّ جاهل لا يعلم من أمرها شيئا، ولا يعلم أن سوء أخلاقها دفع بزوجها لتطليقها رغم الطفلين.
وتقدَّمت خطوة، فأشار إليها بحزم:
– أرجوكِ.. أنا لوحدي في البيت، وليس أمرا طيبا أن تدخلي.
ويبدو أن لهجته كانت شديدة الامتعاض، ما دفعها للانصراف بحنق شديد.
حمد الله، ثم عاد إلى مجلسه وأمسك بكتابه، حين سمع صوت جلبة محبَّبة عند الباب…
– شيء لطيف حقَّا.
قال ذلك في انشراح وسعادة. إنهم أشقَّائِه وشقيقاته، جاؤوا يقضون المساء معه، وعن قريب سيملأ أبناؤهم البيت ضجيجا ومرحا.