المنشور

!محمود أمين العالم وإشكالية الثنائيات في الفكر العربي

يقول الباحث والمورخ د. ماهر الشريف: لقد أدرك المفكر محمود أمين العالم، ومنذ وقت طويل، إن الثقافة بُعدٌ من أبعاد السلطة، وإن للمثقف، بوصفه حاملاً ومنتجًا للمعرفة، دورًا يلعبه في عملية التغيير، لكنه أدرك، في الوقت نفسه، أن النضال الثقافي وحده لن يحقق التغيير، فانجذب الى السياسة.
وعند الحديث عن أزمة الفكر العربي وسيادة «التوفيقية» فإن العالم قدّر أن الازمة العامة التي تواجهها البلدان العربية لا تتمثل في الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية وحسب، بل تتمثل ايضًا في التشتت الفكري والتسطيح الفكري، وفي سيادة تيارات فكرية غيبية او ضبابية، معتبرًا ان عملية إنتاج فكر عربي متسق، يسلح العرب برؤيه استراتيجية شاملة لتغيير الواقع وتجديده، لن تتحقق على مستوى ثقافي نخبوي، وإنما ستتحقق في غمرة الفعل من أجل التغيير والتجديد.

غير أنه من الملاحظ أن العالم أرجع أزمة الفكر العربي الى الثنائيات التي شكلت إطاره الفكري منذ عصر النهضة، والتي تمثلت في ثنائية العلاقة بين التحديث التابع والمفروض سلطويًا وواقع البنية التقليدية الموروثة، وفي الثنائيات التي تفرعت عنها، مثل ثنائية التراث والمعاصرة، والنقل والعقل.. الخ.
أما الجسر النظري بين طرفي كل واحدة من هذه الثنائيات فقد شكلته كما قدّر «ايديولوجية توفيقية» صارت تعشعش في أغلب الممارسات السياسية والاجتماعية والثقافية العربية!

وبعد أن أشار العالم الى أن «التوفيقية» تتمظهر في حياتنا العربية بمستويات ومراتب في الفكر والممارسة خلص الى أن هذه «التوفيقية» ليست مجرد قضية فكرية، تعالج بالفكر وحده، بل هي قضية هيمنة سلطوية لطبقات وفئات اجتماعية تغرزها وتغذيها، تكريسًا لمصالحها، بحيث لن يكون القضاء على هذه الايديولوجية ممكنًا ما لم تتحقق ثورة ثقافية شاملة.
وهنا يصل بنا الشريف الى أن العالم رأى «التوفيقية» قد برزت مع تبلور النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وفي ثنايا المشروع الذي ارتبط بها والذي كان تعبيرًا عن بدايات نمو البرجوازية العربية، لا سيما في مصر وبلاد الشام، لكنه كان، في الوقت نفسه، تعبيرًا عن إجهاض النمو المستقل لهذه البرجوازيات منذ البداية.

ففي الوقت الذي كانت فيه حركة البرجوازيات العربية الوليدة تنسلخ من تبعيتها للاستبدادية العثمانية كانت تدخل في تبعية استبدادية أخرى، هي تبعيتها البنيوية للرأسمالية العالمية المتحولة الى طورها الامبريالي.

ويصل ايضًا الى أنه على الرغم من الوقوع في أسر هذه التبعية الجديدة، تواصل النضال ــ بأشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية ــ من أجل إنجاز مشروع النهضة، وكاد الجانب الأكبر من هذا المشروع أن يتحقق ـ كما قدّر العالم ــ بفضل ثورة يوليو 1952 في مصر، ولا سيما في فترة الستينات. إلا أن وقوع هزيمة يوليو 1967، التي عمقها الانقلاب الاجتماعي الذي قام به أنور السادات وما أعقبه من نكسات، قد عاد العرب من جديد الى ما يشبه البداية بالنسبة الى مشروعهم النهضوي، وأبقى الأسئلة التي طرحها مفكرو النهضة هي نفسها ـ في الجوهر ـ الأسئلة التي يثيرها المفكرون العرب في أيامنا هذه.

بيد أن أسئلة النهضة لم تبقَّ معلقة الى اليوم ـ كما تابع العالم ـ لأن مفكري ذلك العصر قد أغفلوا نقد العقل، كما يعتقد بعض الباحثين العرب المعاصرين، وإنما لأن البلدان العربية ظلت، حتى بعد حصولها على الاستقلال السياسي، تحت سيطرة بنيوية شاملة للامبريالية العالمية. وظلت تنميتها تنمية رأسمالية هامشية تابعة، وحافظت داخل بنيتها الاجتماعية على كثير من سمات بنيتها السابقة على الرأسمالية.

حين تناول الباحث سامح الموجي رؤية العالم للخصوصية /‏ والتحديث لاحظ أن تعدد مناقشات العالم مع كافة تيارات الفكر العربي حول الموقف من «الخصوصية» وفضح محاولات الزيف في انعكاساتها السياسية، دافعًا بصخرة الثابت، والمطلق القابع في بنيتها الايديولوجية، ملقيًا بأحجار جدلية لتحريك الماء الراكد في علاقاتها الاجتماعية الفاعلة.

من هذا الموقف يؤكد «العالم» على البعد الموضوعي والعملي لقيمة الخصوصية فهي «ليست ثوابت مجردة مطلقة فوق الزمان والمكان بل هي سمات مشروطة اجتماعيًا وتاريخيًا ولهذا تختلف الخصوصيات باختلاف الملابسات الاجتماعية والتاريخية»، وعليه فإن العالم تبنى مفهوم «الخصوصية التاريخية» مستندًا في تعميق دلالتها على إنجازات المادية الجدلية وتطوير ماركس لمفهوم «الخصوصية التاريخية» على اعتبارها خصوصية مشروطة بواقع تكوينها الاجتماعي والتاريخي.

ما توصل إليه الموجي هو التأكيد على البُعد العملي والسياسي والنضالي في الاستنتاجات النهائية لرؤية العالم وموقفه من هذه الثنائيات التي تشكل أسئلة النهضة العربية.
ومع تغييب الفروق الاجتماعية والتاريخية، وتغييب الواقع العملي، وتغييب الفاعلية الاجتماعية الجماهيرية تغيب القدرة على الفعل التاريخي الثوري وتظل الأسئلة المعلقة، معلقة في ملكوت الوعي المنكفئ على ذاته متعالية عن موضوعها الذي تبحث عنه دون جدوى (…) ذلك أنه ليس في ملكوت الوعي وحده تحل أسئلة الواقع، وتكتشف إجاباتها، بل بالواقع العملي، وفي الواقع العملي.

من خلال هذه الرؤية المادية التاريخية، والنقدية تتضح لنا معالم هذه المفاهيم الثنائية في تجلياتها الاجتماعية والسياسية، وفضح نشاطها الطفيلي الذي تمارسه على الثقافة وتقييد مساحات التجاوز والقطع المعرفي معها من خلال توظيفها سياسيًا، وطبقيًا. ويعني ذلك يطمع في نظرة صراعية لا توفيقية مفادها الجدل بين هذه الثنائيات التي تكبل حركة العقل العربي، وثورته الفاعلة.