المنشور

أزمة التعددية السياسية في الدول العربية

عندما نتحدث عن التغيير السياسي والاجتماعي نتحدث عن حاجة الشعوب إلى الحقوق المدنية والسياسية والدستورية والتعددية وحقوق الانسان عامة من أجل الغاء الاستغلال والقهر بأشكاله المختلفة، وغياب ذلك يعني ثمة فجوة كبيرة بين الدولة والمواطنين وهو أحد الأسباب المسؤولة عن تصاعد التوترات والاحتقانات.

ولا يمكن ان يكتمل البناء الديمقراطي ويتطور إلا بإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا يقتضي الالتزام بالحقوق والواجبات والوحدة الوطنية والولاء للوطن لا لغيره.

والملاحظ كما يقول الفقيه الدستوري محمد نور فرحات في كتابه “البحث عن العدالة” أن أغلب الدساتير العربية قد نصت صراحة على الحقوق والحريات إلا أن هذه النصوص الدستورية لم تؤد إلى إشاعة مناخ وفلسفة التعددية السياسية في المجتمع، أما لوجود نصوص دستورية أخرى تحظر إنشاء أحزاب الرسمي على باقي الأحزاب الأخرى، وأما لا حاله الدستور إلى التشريع العادي ليقيد هذه الحقوق والحريات وليصادرها نهائياً من خلال وسائل تشريعية أخرى.

وإذا ما أردنا الحديث عن التعددية السياسية، تجدر الإشارة إلى أن نصوص حقوق الإنسان تصبح فارغة المضمون في ظل بناء تشريعي يقوم على الإيمان العميق على مبدأ احتكار السلطة!

وعن هذه الإشكالية يتحدث فرحات وبإسهاب عن إنكار السلطات الحاكمة في أغلب الدول العربية لمبدأ التعددية السياسية، الأمر الذي كان وراء كثير من مظاهر الازمة العربية الراهنة، وهي أزمة يقول عنها بإيجاز: العجز عن أحداث تنمية اقتصادية – إجتماعية مستقلة متحررة من إسار التبعية عن تأمين العجز تأمين الحد الأدنى من احترام حقوق الانسان وتعدد مظاهر انتهاكات هذه الحقوق على مستويات مختلفة.

إن أزمة التعددية السياسية في الدول العربية نابعة من إصرار النظم العربية الحاكمة على تهميش المواطن عن المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيره، وانفراد جماعة معينة أيا كان توجهها الاجتماعي والسياسي وأيا كان سند شريعتها باحتكار السلطة السياسية والانفراد باتخاذ القرارات، وهذا بحد ذاته، وفضلا عما فيه من مصادرة حقوق الانسان، يصيب حركات الفصل السياسي العربي بالتحجر والجمود والعجز عن مواجهة تغيرات الواقع الاجتماعي الديناميكي لأنه ينطوي على مواجهة هذا الواقع الذي يفرض كل يوم تغيرات جديدة برؤية سياسية ثابتة واحدة لا تغيير مما يجعل جماعات الحكم عاجزة عن لتعامل معه في نحو رشيد.

وعلى هذا الأساس وفي ضوء الواقع التشريعي في البدان العربية يصبح – في  رأيه- المطالبة بإعادة تشكيل البنية السياسية العربية لتأمين حق المواطنين في المشاركة السياسية وضمان الاعتراف الفعال بالتعددية السياسية من أجل السماح بتداول السلطة السياسية بين مختلف الجماعات الاجتماعية ذات الرؤي المتميزة، تصبح هذ المطالبة بإلحاح امراً لازماً ليس فقط إيماناً بجدوى الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وانما من أجل ترشيد الأداء السياسي العربي وكطريق وحيد للخروج من المأزق العربي الراهن.

ولا يقف الأمر عند هذه الإشكالية فهناك قضية على جانب كبير من الأهمية والخطورة وهي وضع مؤسسة الجيوش العربية في سياق التعددية السياسية في العالم العربي، وإذا تأملنا حقيقة الواقع السياسي في هذه الدول نجد (على جد تعبير فرحات) أن المؤسسة العسكرية العربية تباشر الحكم والسياسية إما بطريقة سافرة في شكل حكم عسكري معلن، وإما بطريقة غير سافرة من خلال موقعها المؤثر في قلب النظام السياسي العام. إذن فالحقيقة التي لا مجال للمجاملة فيها ان المؤسسة العسكرية قد احتلت موقعها طوعاً او كرهاً في قلب النظام السياسي العربي. ولكن المعضلة التي تتطلب توافر الجهود للتفكير في حل لها أن المؤسسة العسكرية العربية وإن أسهمت في صنع المسار السياسي للعالم العربي إلا أنها لا تعكس رؤى منسجمة ومتسقة من الناحية الاجتماعية من ناحية، وترفض بحكم تراثها العقلي من ناحية أخرى ان تعترف بحق الأطراف الأخرى في منظومة التعددية في الوجود والتأثير وتداول السلطة!

ومن أهم التحديات التي تواجه التعددية السياسية وأكثرها خطورة تتمثل – كما يراها فرحات – في موقع قيمة التعددية لدى عديد من الإيديولوجيات التي يطالب أصحابها بها كوسيلة للوصول إلى السلطة.

وبعبارة أخرى فانه إذا ما استعرضنا الخريطة السياسية في المجتمعات العربية فسرعان ما سنكتشف أنه رغم أن عديداً من الجماعات السياسية خارج السلطة تطالب بإلحاح بإشاعة مناخ التعددية السياسية كوسيلة لتداول السلطة وعدم إحتكارها، إلا أن نفي الآخرين والايمان بوحدانية الحقيقة التي تعلنها، تقعان في قلب بنائها الأيديولوجي، الامر الذي يضفي شكوكاً جدية حول ما إذا كانت هذه الجماعات تؤمن بالتعددية وبتداول السلطة كموقف مبدئي أم تتخذ هذه الشعارات كوسيلة للوصول إلى السلطة ثم يأتي بعد لك شأن آخر!

يصدق ذلك على الإسلاميين الذين تصر كثير من أطروحاتهم على نفى الآخرين وعلى أن التعددية تعني التناقض وليس التكامل، لأن حزب الله لابد وأن التناقض مع حزب الشيطان ويتنافى معه!

وهذه المطابقة بين الحقيقة الدينية والحقيقة السياسية سرعان ما تؤدي بطريق اللزوم والتداعي إلى أن تصبح هذه الحقيقة الأخيرة حقيقة مقدسة لا تقبل النقاش ولا التعايش أو الحوار مع غيرها، ويصدق ذلك أيضاً على بعض الأحزاب السياسية العربية المتطرفة التي تطالب بالديمقراطية والتعددية كخيار حضاري لإدارة المجتمع في حين أن ممارساتها السياسية لا تسمح بذلك!

اقرأ المزيد

ما بين قوة فرد العضلات والقوة الناعمة..روسيا نموذجاً

اختارت مجلة “الايكونومست” البريطانية الشهيرة وضع الجزء العلوي من صورة الرئيس بوتين داخل مجسم حديدي مجوف لعملاق بعضلات مفتولة يستعرضها على طريقة لاعبي كمال الأجسام، وعنونت الصورة بكلمتين موحيتين “القوة الخارقة..الجوفاء” (Hollow superpower) ، وجعلت من هذا التصوير موضوعا لغلاف عددها الأسبوعي الذي يغطي الفترة 19-25 مارس 2016.
 
وقد أفردت لهذا الموضوع 5 صفحات كاملة من بينها افتتاحية المجلة التي حملت عنوان الغلاف إياه (القوة الخارقة..الجوفاء)، فيما خصصت الصفحات 16 و 17 و 18 للحديث عن حرب بوتين في سوريا بغرض رفع أسهم شعبيته داخل روسيا، بحسب المجلة. ومواصلة لتغطية الدور العسكري والسياسي الروسي في سوريا، أفردت المجلة صفحتها رقم 31 للحديث عن الجانب السياسي والدبلوماسي الذي مثلته المبادرة الروسية الأمريكية المشتركة لحل الأزمة السورية.
 
في المقدمة، ما أن تبدأ في قراءة موضوعها حتى تتأكد من صحة مقولة “إن بعض الكتب تُقرأ من عناوينها”. فلقد حفل بمفردات عدائية ساخنة، هي مزيج من التهكم والسخرية والكيد والتحريض الصريح للولايات المتحدة ولحلف الناتو لاتخاذ “مبادرات” حربية ضد روسيا، ونشر مزيد من القوات الأطلسية في جمهوريات شمال البلطيق السوفييتية السابقة، ولكأني بكاتب تلك المقدمة أراد تمثيل حالة الغضب والحنق البالغين وهو يخط مقدمة العدد.
في الموضوع الثاني الذي حمل عنوان “استراتيجية المسرح” (الحربية)، فإن صفحاته الثلاث (16،17،18)، كُرست تماما للهجوم الشخصي على الرئيس الروسي بالاستعانة بالخطاب الاعلامي البريطاني الكلاسيكي المنتمي لسنوات الحرب الباردة..من كيد وقدح وذم في روسيا وتسقيط طاقاتها الاقتصادية بالحديث عن مفعول العقوبات الغربية ضدها. ولم تنس المجلة في معرض هجومها الغاضب على الرئيس الروسي، الإشادة بخطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي أعلنها في شهر فبراير الماضي، القاضية بزيادة مخصصات الانفاق العسكري الأمريكي في بلدان وسط وشرق أوروبا، بما فيها دول البلقان، الى 3.4 مليار دولار، قبل أن تنهي المجلة موضوعها بتحدي الرئيس بوتين ارسال قوات برية لأوكرانيا وسوريا بدلا من سياسة الاستعراض الجوي. 
   
واستكمالا للتغطية الواسعة التي حظيت بها روسيا ورئيسها في هذا العدد من المجلة المذكورة، فقد أفردت لهما موضوعا ثالثا (صفحة 31) حمل عنوان “مفاجأة روسيا في سوريا..بوتين صانع سلام”، انصب للتقليل من شأن ما أسمته المجلة “مفاجأة بوتين الجديدة”، المتمثلة في قرار سحب معظم القوات الروسية من سوريا واطلاق جولة جديدة من محادثات السلام بين أطراف الصراع في سوريا. إذ ترد المجلة على بوتين بالقول إنه لم يسحب كامل قواته، فلازال هناك 12 طائرة حربية على الأقل مرابضة في طرطوس بالقرب من اللاذقية ستواصل تحليقها من هناك، ولازال هناك حوالي 1000 من المستشارين العسكريين والقوات الخاصة متواجدين  للرد على أي طارىء، ولازالت منظومة صواريخ أس-400 منصوبة على الأراضي السورية. والنتيجة، بحسب المجلة، أن بوتين وفر مبلغ الثلاثة ملايين دولار يوميا، هي تكلفة عمليته العسكرية في سوريا، في ذات الوقت الذي أبقى على وجوده هناك. ولا تنس المقالة أن تبدي أسفها على تضاؤل ما أسمته التفاهمات الأمريكية الروسية لتقسيم سوريا الى ثلاثة أقاليم، اقليم غربي يمتد من اللاذقية في الشمال نزولا حتى العاصمة دمشق، وتحكمه غالبية علوية، واقليم في الشمال الشرقي يحكمه الأكراد السوريون، وما تبقى يشكل الاقليم الثالث الذي ستحكمه غالبية سنية سيتم توفير الدعم الجوي الغربي والروسي لها لتحرير مدينة الرقة من سيطرة داعش.
 
الآن وبعيدا عن لغة الحرب الباردة التي لازالت تغلف الخطاب الاعلامي البريطاني الكلاسيكي، وبضمنه مجلة الايكونومست، فإن الموضوعية تقتضي التسليم بصوابية جوهر ما ذهبت اليه المجلة في عددها المشار اليه آنفا، وهو لجوء روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين لسياسة فرد العضلات العسكرية الضاربة كأداة لتحقيق الأهداف السياسية. في ذات الوقت الذي صارت فيه الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما تميل أكثر لاتباع سياسة “القوة الناعمة” أو “القيادة من الخلف” كما سماها الرئيس أوباما نفسه، ولكن من دون التخلي عن “سياسة العصا الغليظة للقوة العسكرية الضاربة” الأثيرة دائما لقلوب قادة المؤسسة الأمريكية الحاكمة، والتي أمنت للولايات المتحدة على مدار العقود السبعة الأخيرة، هيمنة كونية شاملة. 
 
سياسة استخدام قوة “العصا”، لها أكلاف باهظة ولها متطلبات لا تستطيع كبريات الدول تحملها اذا لم تكن “عوائدها” المادية والاستراتيجية تفوق تلك الأكلاف. الصين مثلا لا تفضل مجاراة الولايات المتحدة في استخدام “عصاتها” العسكرية لتعضيد وتعزيز وتوسيع قوتها الاقتصادية “الضاربة” ونفوذها العالمي. هي أميل الى “الانتشار” الاقتصادي الهادىء في “أعالي البحار”، كالقارتين الافريقية والأمريكية اللاتينية. حتى واشنطن بدأت تستشعر وطأة الكلفة الباهظة والمتزايدة لاستمرار وظيفتها القيادية العالمية باستنفار (واستخدام إن اقتضى الأمر) كافة أذرعها، العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، على مدار الساعة. وسمعنا خطابات المرشح الجمهوري دونالد ترامب، التي انتقد فيها حلفاء بلاده الأوروبيين الذين يتقاعسون عن تقاسم أكلاف الجهد القيادي الأمريكي العالمي مع بلاده، قبل أن يطالبهم بدفع جزء عادل من تلك الأكلاف.
 
هل نجحت روسيا في توظيفها لـ”عصاها” العسكرية الضاربة؟ وهل بوسعها المداومة على هذا التوظيف “كلما اقتضت الحاجة”؟..يمكن القول بشيء من التحفظ أنها نجحت فعلا في جورجيا (استعادتها لأوسيتيا الجنوبية التي احتلتها جورجيا لبضعة أيام في عام 2008)، وفي أوكرانيا (استعادة شبه جزيرة القرم وسيفاستوبل من أوكرانيا في عام 2014)، وفي سوريا (منع سقوط النظام السوري وإعادة تثبيته في مفاوضات الحل النهائي للأزمة السورية). ولكنها لا تستطيع تأمين عنصرالاستدامة لمثل هذه النجاحات المبنية على ذارع القوة، لأن طاقتها الاقتصادية لا تسعفها كما هو حال الولايات المتحدة التي تتمتع حصريا بامتياز احتكار صك عملتها واجبار العالم على تداولها. 
اقرأ المزيد