المنشور

قوة الحوار

مع مضي سنوات على بدء الإصلاحات في البحرين لا يمكن الحديث بأن التمييز الطائفي قد انتهى تماما، بل إن آثاره لا تزال مستمرة. لكن الحديث يجب أن يجري الآن عن المسألة الأهم: التمييز بمختلف أشكاله، على أساس طبقي أو سياسي أو طائفي أو جنسي أو قبلي أو الأصل القومي. إذا كان من خصائص التحولات الديمقراطية أن تطفو على السطح ظواهر سلبية ترسل لنا إشارات الإنذار لكي نقوم بتشخيصها، ثم التغلب عليها أو حتى إزالتها لتفسح في الطريق أمام التطور الديمقراطي، فإن من أهمها ظاهرة الاصطفاف الطائفي التي تتقوى ليس كرد فعل على التمييز فقط، وإنما كوسيلة للهيمنة في المجتمع بهدف تقاسم بعض من السلطة والثروة والنفوذ السياسي والاجتماعي وتطويع التحولات السياسية لصالح هذه أو تلك من القوى المتنفذة على مختلف المستويات. ويفهم أي متتبع للوضع أن السلطة السياسية تبقى أهم لاعب في هذه الحلبة، وهي الطرف الأقوى الذي يستطيع أن يساعد في تخفيف الغلواء الطائفية أو أن يستفيد منها تحت مسوغ توسيع قاعدته الاجتماعية عبرها.
برز هذا الخطر بشكل يبعث على القلق عام 2005 عندما شهد البرلمان مواجهات طائفية بدأت تنسحب على الشارع. في داخل البرلمان لعب نواب كتلة الوطنيين الديمقراطيين دور الإطفائي إذ جعلوا من أنفسهم جسرا موصلا بين الاتجاهات الطائفية، وممتصا للصدمات بينها. وفي الشارع السياسي تداعت قيادتا المنبر الديمقراطي التقدمي والوسط العربي الإسلامي لدراسة الآثار السلبية للإصفافات الطائفية الحاصلة. ومن هنا بدأت الإرهاصات الأولى لفكرة مؤتمر الحوار الوطني. ثم دعا التنظيمان إلى لقاء حضرته كل القوى السياسية الخمس عشرة في مقر ‘التقدمي’ لتنتقل هذه الفكرة إلى برنامج عمل أمام لجنة التنسيق بين القوى السياسية. وفي 26 يناير/ كانون الثاني 2006 انعقد مؤتمر الحوار الوطني الأول الذي ساعد كثيرا في امتصاص بعض الآثار السلبية للشرخ الطائفي. دورة البرلمان الحالية تميزت باستقطاب طائفي شديد، وغاب فيه ذلك الجسر الموصل بين القوى ذات الطبيعة الطائفية. مثل هذا الجسر كان يمكن أن يمثله ‘نواب’ من ‘التقدمي’، ‘وعد’، ‘الوسط’ أو غيرها من القوى غير الطائفية. لذا كان الصدام سيد الموقف في هذه الدورة. وانعكس ذلك على الشارع بأسوأ مما كان عليه الحال عام .2005 ولم تصبح هذه الدورة زمنا ضائعا على الشعب والبلاد، بالضبط كما كانت فترة تغييب الديمقراطية في السبعينات – التسعينات، بل إنها أصبحت موضوعيا تهدد بمواجهات طائفية لا سمح الله. هذه هي اللحظة التي لا يمكن تأجيلها لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني الثاني الذي حان موعده وجرى تأجيله قبل بعض الوقت. وفي يوم السبت، 29 مارس/ آذار ,2008 في فندق كراون بلازا في العاصمة المنامة حضر ما بين 400 و 500 شخص افتتاح مؤتمر الحوار الوطني الثاني تحت شعار: ‘الثوابت الوطنية فوق الانتماءات الطائفية’. وعلى مدى أشهر حضّرت لهذا المؤتمر لجنة التنسيق بين الأحزاب (الجمعيات) السياسية برئاسة الدكتور على البقارة، مسؤول العلاقات السياسية في المنبر الديمقراطي التقدمي وبدعم من معهد التنمية السياسية وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية في مملكة البحرين، وبالتنسيق مع اتحادات وجمعيات المجتمع المدني وعدد من الشخصيات الوطنية. كما حضر جلسة الافتتاح رئيس مجلس الشورى والنائب الأول لرئيس مجلس النواب ووزيرا دولة. مجرد انعقاد المؤتمر بحضور كامل الطيف السياسي (فيما عدا جمعية الأصالة) والاجتماعي البحريني شكل أفضل رد على الحالة السائدة. ولا ينقص من ذلك أن بعض ممثلي الاتجاهات الطائفية السياسية أو الشخصيات التي تذكي وتستفيد من نيران الطائفية قد نفست من بعض مكنونها في المؤتمر. لا بأس. ألم ينصحنا قبل أكثر من قرن المؤرخ والفيلسوف الاسكتلندي توماس كارليل (1795 – 1881) بأنه ‘إذا أردت أن تثني أحدا عن ارتكاب فعلة ما، دعه يتحدث حول هذا الموضوع : فكلما أكثر الناس الكلام كلما قل لديهم الميل للفعل’. غير أن منظمي المؤتمر لم يأخذوا بتلك النصيحة منعزلة، بل وبالحكمة التي أطلقها قبل أكثر من أربعة قرون الكاتب والفيلسوف الأخلاقي الأسباني غراســـــــيان بالتاسـار (1601 – 1658) بأن ‘التعقل في الكلام أهم بكثير من جميل الخطابة’. وبالفعل فقد توزع المؤتمر بعد الافتتاح على أربع ورش ناقش في كل منها عددا من الأوراق حول المحاور الرئيسية: ‘المجتمع المدني والوحدة الوطنية’، الإعلام والوحدة الوطنية’، ‘القوانين والتشريعات المناهضة للطائفية’، ‘التمييز والطائفية’. المفهوم والمعنى وانعكاساتهما على الوحدة الوطنية’. وخرجت بالتوصيات اللازمة. أجمع المؤتمرون على خطورة استمرار السياسات والنزعات الطائفية على المجتمع البحريني في وسط عربي يهدد بنقل العدوى في شكل عنف ودمار. وطالبوا بتأكيد قيم المواطنة المتكافئة ونبذ مظاهر التمييز بكافة صوره وشددوا على أن ‘الانتماء الوطني هو ضمانة الحفاظ على النسيج الموحد للمجتمع القائم على التعددية الطائفية والاجتماعية والسياسية’، حيث يقتضي ذلك العيش المشترك والنضال المشترك من أجل تحقيق المهام الديمقراطية. وأكدوا مسؤولية الدولة في لعب دورها كضامن للوحدة الوطنية ‘عبر تكريس قيم المواطنة المتكافئة والتعامل مع مكونات المجتمع المختلفة وأفراده بروح المساواة، وتعميم الخدمات الاجتماعية على مناطق المملكة بعدل ومساواة، ومحاربة مظاهر التمييز في التوظيف والترقية وسواها، أياً كان باعث هذا التمييز طائفياً أو مذهبياً أو قبلياً أو سواه’. وأدان المؤتمر القوى التي تعمل على توظيف ‘ما في التاريخ الإسلامي – العربي من محطات خلاف وانقسام لتحقيق أهداف مضرة بالمصلحة الوطنية العليا’. وطالبوا بـ ‘تكريس ثقافة المواطنة المتكافئة من خلال المناهج التربوية في الجامعات والمدارس، ومن خلال البرامج الإعلامية في التلفزيون والإذاعة وفي المطبوعات. ووجهوا نقدا لاذعا إلى النواب المساهمين في إحداث الشرخ الطائفي، مطالبين المجلس الوطني والمجالس البلدية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات ووسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية بأن تلعب دوراً إيجابيا في صيانة وتعزيز الوحدة الوطنية. كما طالبوا بتعديل النظام الانتخابي والدوائر الانتخابية بعيدا عن الاعتبارات الطائفية، وبما يتيح لكل القوى ن تجد لها موقعا في المجالس المنتخبة. هل من أثر إيجابي سريع وملموس لانعقاد المؤتمر؟ نعم، هذا ما تقوله بعض أحداث الأسبوع الماضي. خطب الجمعة لعدد من أئمة المساجد – شيعة وسنة – أكدت ضرورة محاربة الطائفية بكل أشكالها. وقد أفضت بعض الوساطات إلى تأجيل مسيرة الجمعة في مقابل وعود من السلطات بالإفراج من المعتقلين في أحداث الفترة الأخيرة. ورغم بعض المنغصات ناقشت الصحافة والإذاعة والندوات نتائج المؤتمر بشكل واسع وإيجابي وبروح المؤتمر لا تزال تكتب المقالات. هل سيستمر الأثر الإيجابي للمؤتمر؟ هذا ما ننتظر الإجابة عليه من ممارسات القادة السياسيين وقادة القوى الطائفية الذين يمكن أن يرتفعوا فوق الطرح الطائفي.
 
صحيفة الوقت
7 ابريل 2008