المنشور

الصراع الأمريكي – الإيراني في البحرين


تتوسع رقعة الصراع الأمريكي – الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ليجمعَ كلُ طرفٍ قوىًّ جديدة من الحلفاء يستعينُ بها في هذا الصراع المحفوف بالمخاطر والمتصاعد بلا ضابط.
وقد نشأ هذا الصراع المناطقي – العالمي في أعقابِ خروج إيران من السيطرة الأمريكية المباشرة وقيامها بأشكال من التحدي العنيف بعد الثورة الإيرانية التي هيمنَّ على مصائرها رجالُ الدين، وتجلى ذلك في حصار السفارة الأمريكية، ثم في نشر العداء لأمريكا وللغرب في المنطقة، وتشجيع الحركات الدينية المماثلة للتيار الذي سيطر على مقاليد السلطة.
وبطبيعة الحال فإن التوجيهات الإيرانية ما كان لها أن تؤثر في كلِ بلد، له ظروفه التي تختلف عن الآخرين، دون الارتكاز على الظروف الموضوعية والذاتية فيه.
وأهم المرتكزات المعتمدة بهذا الصدد هو وجود (الطائفة) المؤيدة للسياسة الإيرانية، فقد تماثلت السياسة الداخلية والخارجية هنا، حيث كانت هيمنة التيار الديني في المركز السياسي للعاصمتين الإيرانيتين السياسية والدينية في كل من طهران وقم، يعني نشر هذا التيار ودعمه خارجياً، سواء بشكل سياسي أم بشكل ديني، كما كان لا بد أن يتوطد داخلياً في نظام السيطرة على القوميات الأخرى ذوات المذهبية السنية، حيث  أن الطائفة – الدولة هو الشكل الوطني أو القومي لهيمنة القوى العليا لمرحلة ما قبل الرأسمالية في العالم الإسلامي عموماً.
وقد عبر هذا كله في مجرى التطور العنيف والمركب عن توجه النظام الإيراني لخلقِ دفعةٍ قومية اقتصادية تنموية وقفزة سياسية واجتماعية تعبر عن (الأمة) الإيرانية، وتقودُ هذه القوى الفئاتُ الاجتماعية البرجوازية المتوسطة والصغيرة، والتي تجلت في صعود هيكل القطاع العام وسيطرته على الحياة الاقتصادية بشكلٍ واسع وإتاحة النمو للقطاع الخاص في ظل هذه السيطرة، وهو أمرٌ سبق أن رأيناه في دول أخرى مجاورة كالباكستان، وعبرَّ ذلك كله عن هيمنة القوى العسكرية والبيروقراطية، ولكن هنا في إيران جرى ذلك عبر سيطرة رجال الدين الحاسمة أيضاً، مما يعني دعم السيطرة الكبرى للدولة واستمرارية البناء المحافظ في الحياة الاجتماعية والفكرية، فتغدو العلاقات الإقطاعية (في مستوياتها الاجتماعية والفكرية خاصة) رديفة ومهيمنة على تطور العلاقات الرأسمالية المضادة.
إن وجود طبيعة شمولية لهذه القفزة وهو أمرٌ مماثلٌ كذلك لما حدث للأمم الشرقية؛ روسيا، والصين،ومصر الخ.. إن هذا الوجود الشمولي له قوانينه في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية في العلاقة المعقدة بين القطاعين العام والخاص وفي مجرى صراع الطبقات وكيفية عملية الانتقال من الإقطاع للرأسمالية الحديثة.
 
لقد وجدت فئة رجال الدين المسيطرة على مواقع القرار إنه من مصلحتها هذه الشمولية السياسية الاقتصادية، حفاظاً لسيطرتها على الجمهور واستمرار استغلاله.
وهكذا فقد ظهرت فترة من سياسة (تصدير الثورة) عكستها مرحلة الحرب مع العراق وهي التي انتهت بفشل وبمذبحة مروعة في الجانبين الإيراني والعراقي، وهي حربٌ فجرها طاغية العراق السابق، لكن القيادة الإيرانية واصلتها رغم هزيمة الجيش العراقي الغازي.
ثم تلا تصدير الثورة إقامة علاقات (طبيعية) مع الدول المجاورة، حيث نهضت باتساع القوى المذهبية المؤيدة للتجربة الإيرانية الدينية، وقامت بتقليدها عبر نقل الأفكار السياسية والتنظيمات وتحريك الحياة عبر صداماتها المستمرة.
وتجلى ذلك أيضاً على مستوى المنطقة فيما عُرف بالتحالف الإيراني – السوري، حيث واصلت القيادات الإيرانية عملية الصراع مع الغرب، رافضة استحياء النموذج الغربي الديمقراطي البرلماني، مقيمة دولة شمولية مع أشكال مظهرية من الانتخابات والبرلمان، حيث تظل مقاليد السلطة الكلية في يد مرشد الجمهورية ومجلس صيانة الدستور.
وعبرَّ التحالفُ الإيراني – السوري عن ذات السمات من هيمنة للقطاع الحكومي العسكري البيروقراطي ومن رفض للرقابة الشعبية عليه، ومن تحكم حزب سياسي عسكري عبر مليشيا كبيرة وأجهزة مخابرات متنفذة ومن وجود مشروع ديني – قومي تجاوزي لتعددية العصر.
ويحدو التجربتان أمل بتحقيق قفزة كبرى وتجاوز للديمقراطية الغربية، وكذلك التطلع للهيمنة على الدول المجاورة والطوائف الموالية.
وهكذا فإن إيديولوجية القفز فوق الرأسمالية التي تمظهرت في روسيا سابقاً أو الصين حالياً، تعني إجراء عملية الانتقال للرأسمالية الحديثة من خلال هيمنة حكومية بيروقراطية مما يفتح الطريق لاحقاً، بعد عواصف مجهولة، ل(الرأسمالية السوداء) على طريقة المافيا الروسية.
وقد تحققت التجربة الإيرانية في ظل تفكك مشروع الدولة الشمولية الشرقية الكلية السيطرة خاصة في روسيا والصين التي بلغ فيهما تطور القوى المنتجة حداً يزيحُ(الاشتراكية الحكومية) الصارمة في بناء القطاع العام القومي  النهضوي، فمضت إيران بشكلٍ مضاد، آملة باختراق هذه العملية الواسعة النطاق عالمياً، لكنها لا تفعل سوى أن تنسخ التجارب الشرقية.



الصراع السياسي بين الدولتين


وبهذا وجدت حكومتا إيران والولايات المتحدة إنهما على طرفي نقيض، كذلك فإن إرث الهزيمة الأمريكية في إيران، والجراح السياسية المترتبة على تلك الهزيمة، وصعود الولايات المتحدة لموقع القطب الدولي الأول، ودعوة إيران لخطٍ معاكس، له ما يبررهُ كذلك في عملية استغلال ونهب دول العالم الثالث، قد جعلتْ من الدولتين قطبي الصراع الكبير في المنطقة.
انطلقت حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة المتعددة لتحقيقِ أهداف رئيسية مشتركة، تتمثل في فتح الأسواق للرساميل الأمريكية، وتذويب القطاعات العامة القائدة للتنمية في الدول النامية، ومواجهة الجماعات الدينية والقومية المتشددة وخلق حريات ليبرالية وغير ذلك من الأهداف المعبرة عن توسيع دوائر النفوذ الاقتصادي والسياسي.
وهكذا كانت سياساتها في دول المنطقة تعكس هذه الأهداف بأشكال مختلفة، ففي المملكة العربية السعودية تؤيد إصلاحاً للنظام التقليدي المتخلف بحيث يضمن استمرار هيمنتها على السوق النفطية والاقتصادية السعودية ويخففُ من التطرف الديني والذي يأخذ أشكالاً عنيفة جماهيرية متنامية.
في حين يختلفُ الأمرُ في العراق ولبنان حيث تؤيد التطور الداخلي للقوى غير التابعة لإيران وسوريا الخ..
فتجد السياستان الإيرانية والأمريكية نفسيهما في صدام مستمر، فالأولى تعملُ ل(إزالة) إسرائيل في حين تعملُ الأخرى على بقائها وتحولها إلى دولة قيادية في المنطقة، وإيران تدعم حماس في حين تعتبر أمريكا حماس منظمة إرهابية، وتريد أمريكا خروج سوريا الكلي من لبنان وانتصار حلفائها بينما تعمل إيران على بقاء سوريا مؤثرة فيه ومن أجل أن يتوسع نفوذ حزب الله والقوميين السوريين، وفي العراق تحاول أمريكا أن تحتوي النشاط الإيراني وتطور الوضع الداخلي المتمايز عنها الخ..
هكذا نجد أن السياسيتين الأمريكية والإيرانية على طرف نقيض، وهما تحتكان بشدة في مواقع معينة هي العراق والخليج ولبنان، فيما تخفت حدة الصراع في المواقع الأخرى .
 
في البحرين
 
قام النفوذ الحكومي في البحرين على شكل سيطرة قبيلة على الموارد الاقتصادية وهو أمر تشكل على أرضية الصدام مع السكان الشيعة خلال القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، وتجلى ذلك بمصادرة الأراضي الزراعية واحتكار العديد من الجزر والمداخيل، وهو أمر لم تقم بمعالجته الحركة الوطنية خلال نهوضها الديمقراطي منذ الخمسينيات، بل عالجت الموقف الوطني ومعارضة الأحتلال، لكن المطالب الاجتماعية أخذت تتصاعد بعد انحسار الجانب الأكبر من القضية الوطنية، وجاءت فترة هيمنة أجهزة الحكم المطلقة بعد حل البرلمان في سنة 1975 لتصعد القضايا الاجتماعية، بسبب قيام تلك الأجهزة بتوسيع حضور العمالة الأجنبية لتحجيم القوى العاملة الوطنية والتحكم في عيشها وحركتها، وتحويل الخدمات الإسكانية إلى تجارة إستنزافية للمواطنين وتصاعد الغلاء والعديد من المشكلات الأخرى.
وفي هذه السنوات نفسها كان محور الحراك الاجتماعي – السياسي المناطقي ينتقل من بؤرته المصرية الوطنية القومية التنويرية السابقة ليتوجه نحو بؤرة جديدة هي بين القطبين: إيران والسعودية، لما فعلته مداخيل النفط المتزايدة من تغيير هيكل السكان في المنطقة ومن تحكم دول النفط في الحياة الاجتماعية.
وهذه البؤرة هي أقل تطوراً من البؤرة السابقة بسبب الطابع السكاني البدوي والقروي الغالب، وهو أمرٌ أدى إلى تغذية الجماعات الدينية الصغيرة المتواجدة على هيئة جمعيات وتحويلها إلى تيارات سياسية سنية وشيعية ، فجرى تنظيم قسم من السكان في المنطقة بسرعة شديدة وتم زجها في قضايا الصراع الذي اتخذ أشكالاً قطرية مختلفة حسب تاريخ كل بلد وظروفه.
وفي البحرين فإن الجمعيات الشيعية الصغيرة المنشأة بدعم الحكومة نفسها، لمناهضة التيارات اليسارية، وجدت زخماً كبيراً من الأحداث الإيرانية ومن الدعم الإيراني، خلافاً لآفاقها المنتظرة من قبل الحكومة.
وبسبب طرحها مشروعات للصدام فقد حازت على تأييد كبير من الناس الشيعة خاصة.
إن هذا الحراك السياسي هو مظهرٌ حديثٌ من التحرك الشيعي السياسي عبر العصور الماضية، فهو ليس منقطعاً عن جذور قديمة متأصلة منذ الحركات الفاطمية والقرمطية والأثناعشرية، وقد ظهر فوق التربة الفقهية المحافظة بعد هزيمة الفكر الديني الإمامي المتمرد، وليعبر عن معارضة جديدة مساوقة لقوى الفئات المسيطرة في الحياة التقليدية رجال دين، تجار، ملاك أرض، فاعتمد على الدعم الإيراني الحكومي، رغم أن بعض بؤر التنظيمات تكونت في مناطق أخرى كالعراق، أو من تنظيمات مستقلة، لكنها في مجرى التحول إلى بنية البحرين الاجتماعية نقلت ما هو خارجي من أشكال تنظيمية وشعارات خاصة في المرحلة الأولى.
إن تقليد نموذج الثورة الإيرانية كان في البداية قوياً، وقد جرى ذلك عبر فيض الوعي الديني غير الآبه للحياة الموضوعية، ولكن الضربات والأحداث العنيفة راحت تكيفُ الشكلَ العامَ للحركة لواقع بنية البحرين وظروفها الخاصة.
كان الشكل الأول الذي ساد في هذه الجماعات على مدى عقد هو شكل الصدام الذي كان منظماً بشكل نخبوي ثم غدا واسعاً جماعياً بعد أن رسخت الجماعات المذهبية السياسية نفسها بين الجمهور بشكل فوقي.
وكان من نتائج مثل هذا الوضع هو إدخال النظام والبلد الصغير في مأزق تاريخي شامل، وهو أمر لم تدرك خطورته قيادة الحكم في تلك السنوات.
لقد ظهر خطان أساسيان في هذه التشكيلات الدينية المعارضة، فهناك خط الصدام المستمر مع النظام عبر الكتلة المنظمة من الطائفة حتى يجري تغيير أساسي في النظام السياسي، وقد اتفقت هذه الكتل على وجود الخط الأساسي بوجود برلمان له كافة الصلاحيات الدستورية، فلم يتم طرح تغيير النظام برمته، أو هذا ما ظهر على السطح.
والخط الثاني هو الذي ظهر بعد ذلك وهو خط القبول بالبرلمان المنقوص الصلاحية وتغييره من الداخل، وتوظيف الحركة المذهبية السياسية في خدمة التغييرات الواسعة المنتظرة.
لكن في عظام هذه الحركة المتوارية هناك الصدام التاريخي مع القبيلة الحاكمة واعتبار هذا الصدام هو جوهر الحركة، لتغيير واقع جرى قبل قرنين، لكن هذا الخطاب المسكوت عنه المتواري، هو الذي يجعل الحركة ذات هيكل تنظيمي طائفي، وبالتالي فإن الامتداد الإيراني، وهو السند الورائي لهذا التكتل وامتداده التراثي والجغرافي، خاصة قبل إسقاط نظام صدام حسين، وبعد هذا السقوط دخل الجنوب العراقي في التأثير، وهو ما جعل الطائفة السياسية تحصل على بديل آخر وهو أن المصدر الإيراني لم يعد وحيداً، وهو  ما عبر عن حراك اجتماعي تاريخي للطائفة الشيعية في منطقة الشرق الأوسط كلها، وأنها تريد المساهمة في الحراك ولكن من خلال قواعدها الريفية والعقيدية ومن خلال المراكز المعروفة لديها.
وهو حراكٌ نشأ بفعل عمليات التطور الرأسمالية المتفاوتة والضاربة للأرياف الإسلامية، وهو حراك ضد تغلغل فوضوي وإستغلالي واسع النطاق، تم في عدة دول وبأشكال مختلفة، ولكنه يعبر عن تبديل هذه الأرياف الغارقة في الاقتصاد والثقافة التقليديين لصالح المسيطرين على السلطات، ولكن السلطات الدينية الشيعية المحلية تحاول عبر الوعي السياسي الراهن المتنوع أن تحافظ على مراكز سيطرتها داخل هذه الطائفة وترفض عملية تذويبها في المجتمع لصالح السلطات السياسية – الاقتصادية المسيطرة التي ترفض وجود مركز معارض.
ومن هنا فالمركز الإيراني هو القائد لهذه المناطق بحكم حجمه السكاني والاقتصادي وبحكم أسبقيته في قيادة الطائفة الشيعية على مدى تاريخ يمتدُ إلى عشرة قرون، رغم إن المركز العراقي لعب دور المؤسس والقائد الفكري، لكن المركز القيادي انتقل إلى ما وراء جبال زاجروس التي تفصل الدولتين المتصارعتين دوماً في التاريخ، وهذا الانتقال هو بسبب التحاكك والتصادم بين (القوميتين) الرئيسيتين والمتنافستين في قيادة المجموعات الأثنية المختلفة وهما العربية والفارسية، فغدا المركز بعيداً في طهران.
ومن هنا فقدرة المركز الفارسي أكبر في توجيه مصير الطائفة، في حين يقوم المركز العراقي بلملمة نفسه في هذا الوقت دون أن يتركه المركز الإيراني قوياً في زمن هذه اللملمة الصعبة، ويلعب النفوذ الأمريكي هنا دوراً متعدد الأشكال على هذه المراكز.
 
الدور الأمريكي
 
عبرَّ الدور الأمريكي في التأثير على مصائر المنطقة السياسية في الوقت الراهن عن إعادة تشكيل الأنظمة التقليدية في المنطقة التي عجزت عن إنتاج قوى تغيير تحديثية، بسبب نفس السياسة الغربية والأمريكية في ضرب قوى التحديث وخاصة اليسار في عقود التراكم السابقة مما قوى الاتجاهات التقليدية وأبرزها للسطح.
وبعد انهيار المجموعة (الاشتراكية) الشرقية فإن عمليات التغلغل الرأسمالي الغربي، وعولمة السوق الدولية، تأخذ أبعاداً كبيرة، ومن هنا كان لحكومات الولايات المتحدة برامج متعددة في تغيير الدول الشرقية، بفتح الأسواق والتأثير على شركات النفط وهدم القطاعات العامة المسيطرة على الملكية الاقتصادية، وذلك كله يجري في صراع بين الدول الرأسمالية الكبرى على الحصص، وبينها وبين الدول الشرقية على الخطوط العريضة للتنمية والتسليح والحقوق القومية ونفوذ الدول، أي كل ما يتعلق باعتراف الدول الشمولية الشرقية بنظم العالم الحديث المرفوضة لدى هذه الدول والحركات.
ومن هنا كانت الولايات المتحدة مشجعة على قيام تغييرات سياسية في الدول العربية ومن ضمنها البحرين، وقد جاء ذلك ضمن الخطوط العريضة السابقة، وكذلك بسبب تململ الأمير من السيطرة الكلية لمجلس الوزراء ورئيسه على الوضع العام، فتقاربت الأهدافُ بين المركز الأمريكي المسيطر وبين الشريك البحريني ذي البلد الصغير لكن الذي يمثل بارجة عسكرية جاهزة للأمريكيين وفندقاً ترويحياً للجنود كذلك، عبر القيام بتغيير في الوضع السياسي بما يحقق الرؤية الأمريكية للمنطقة ويجعل الحاكم يسيطر فعلاً على الوضع السياسي الداخلي المنفلت لدى جهتي؛ مجلس الوزراء وقيادة الطائفة الشيعية.
وهكذا فإن الحديث عن مشروع(الإصلاح) لا بد أن يُوضع بين قوسين، فهل هو إصلاح أم إعادة تشكيل سيطرة على البناء الاجتماعي؟
إن الظاهرة تجمعُ بين هذين الجانبين فهناك تغييرات سياسية واقتصادية قادت إلى حراك سياسية وتغيير معيشي، ونمو اقتصادي وحريات، وفي البداية جرت عبر المؤسسة القديمة ثم قامت المؤسسة الجديدة باختراق المؤسسة القديمة وتحجيم دورها المسيطر الكلي السابق.
ويبدو إن صيغة التسوية هذه ليست أمريكية ولكن تعود للرؤية القبلية الارستقراطية المسيطرة في المنطقة بعدم خلق هزات كبيرة في قيادة الدولة، واستمرار الثنائية بين القيادتين القديمة والجديدة، ومن أجل تنفيذ بعض التغييرات التي تعبر بالبلد عنق الزجاجة الذي كادت أن تختنق فيه.
وهو أمر جعل للدولة إرادتين متضادتين، وخلق مجلسين منتخب ومعين، وهو شأن كان غامضاً في البداية حتى اتضحت صورته، المعبرة عن خلق وضع لا يتيح للمذهبية الشيعية السياسية الوصول إلى تصادم كبير وغير مسيطر عليه في السلطة التشريعية، أي بعدم إلحاق القوى(اليسارية) بهذه القوة المذهبية السكانية الكبيرة ومن ثم قيامها الموحد بالانقضاض على النظام من خلال هذا المجلس التشريعي الذي سوف يرفع سقف مطالبه السياسية للوصول إلى مطلب الوزارة وما بعدها.
أما خلق مجلسين فهو استمرار في السيطرة على اللعبة الطائفية ومحاصرة القيادة السياسية الشيعية في مربع التغيير الاقتصادي – الاجتماعي الجزئي، غير المرتفع إلى السياسي الجذري، بإعادة تشكيل الدولة حسب أحجام الطائفتين كما يتراءى ذلك لهذا الوعي المذهبي السياسي.
أي عملت الدولة على رسم خط أحمر فوق لوحة التغييرات بأن تبقى ضمن الاقتصادي – الاجتماعي لا تتعداه، بما يتيح تطور الحياة المعيشية، كذلك يتيح هذا ومن جهةٍ أخرى تفكيك (الطائفة المغبونة) المعارضة، وهي المُعبرُ الأكبر في هذا الوقت عن القوى العمالية والشعبية، المتغربة عن وعيها التقدمي، والتابعة للقوى الدينية المتخلفة حالياً.
ولكن القيادة القديمة البحرينية كانت لا تريد لهذا السيناريو أن ينجح لأن هيمنة القيادة السياسية الجديدة على الخريطة العامة، يؤي إلى ذوبانها وانتهاء دورها، ومن هنا دخلت في لعبة تأجيج الأوضاع والإكثار من استيراد العمالة الأجنبية والمساهمة في توسيع التجنيس وتحجيم حضور النقابات وخلق معارك جانبية ضدها، وتأييد التطرف الشيعي من جهة أخرى وتأجيج الصراع الطائفي، بهدف زعزعة موقف القيادة الجديدة.
ومن هنا كان الدور الأمريكي في مساندة القيادة الجديدة، والتغاضي عن هجوم القيادة القديمة على الدور الأمريكي، والذي يتجلى في صرخات بعض الصحف المحلية والتي يتمحور فيها نفوذ تلك القيادة.
 
لكن الصراع المناطقي الكبير بين أمريكا وإيران يتغلغل في كل الدول في المنطقة، وقد وجدنا القيادة الإيرانية تؤجج الصراعات في مختلف مناطق السيطرة الأمريكية كالعراق أو التي لها نفوذ سياسي كبير فيها كلبنان، ومن هنا نرى الصراعات بين الجماعة السياسية الشيعية البحرينية والنظام لا تهدأ، عبر هذه الخلطة المركبة المتداخلة بين القيادتين القديمة والجديدة وبين المعارضة الداخلية المذهبية، وبين النفوذ الأمريكي عامة.
– فهناك توسع للنفوذ الأمريكي على حساب الدول الرأسمالية الكبرى الأخرى.
– ومحاصرة نفوذ إيران الاقتصادي والعجز عن محاصرة نفوذها السياسي المتوسع والمتغلغل في الجماعات الشيعية.
– حدوث تقارب بين القيادة القديمة والجماعة المتضررة من التغيرات وبين النفوذ الإيراني في الصراع المشترك ضد النفوذ الأمريكي الكاسح.
– حدوث تداخلات مشتركة لتأجيج الوضع الراهن وخلق الاضطرابات بين القيادة القديمة وحركات التطرف والتوجه الإيراني بإحداث قلاقل في مناطق النفوذ الأمريكي.
– عجز القيادة الجديدة عن تغيير القيادة القديمة وما تحدثه من إرباكات على مستوى تنفيذ المشروعات الاجتماعية وعرقلة الاستقرار الاقتصادي والمعيشي، كما أنها تماشي عمليات التغلغل الأمريكية والغربية المتوسعة في الاقتصاد والتي ترغب في زيادة أرباحها دون تغيير كبير في البنية الخدماتية، وطرحها مشروعات الخصخصة الموجهة ضد قوت الشعب ومشاركتها في عمليات النهب للموارد العامة والأراضي والجزر وإحداث بذخ غير مسبوق للموارد العامة الخ..
 
إن العجز البحريني عن إنتاج قيادة وطنية تقطع عمليات التبعية للجهات الأمريكية والإيرانية والسعودية الخ هو السبب الرئيسي وراء الفوضى والارتباكات ومن ثم وصول مشروع(الإصلاح) إلى الحائط المسدود مع تأجج الصراع بين الطرفين الأمريكي والإيراني على الساحة المناطقية وعلى الساحة البحرينية.
إن مشروعات(الإصلاح)الأمريكية تقف فوق أرضية التوسع واستغلال موارد الدول الأخرى الثمينة خاصة النفط وإحداث احتكاري أمريكي لها أو سيطرة منظمة على منابعها وتوجهاتها.
ولهذا نرى إن هذه المشروعات(الإصلاحية) تقف فوق أرضية دينية واستبدادية، يُفترض أن تلغيها، فهي لا تستند على الإرث الديمقراطي الغربي في العلمانية والديمقراطية والعقلانية، بل تبقي على البنية الإقطاعية الدينية، وتغيرُ بعضَ الجوانب التي تبشع سيطرتها، تاركة الأدوات الدينية والسياسية وهي احتكار السلطة السياسية واحتكار السلطة الدينية لدى أجنحة الإقطاع المختلفة المتصارعة، محاولة النفاذ بينها جميعاً والتحكم بها، مغلغلة رؤوس أموالها نازفة البنية الخليجية البترولية، وهو أمرٌ يماثل خطط السيطرة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى في المنطقة، ولهذا تتعاون الدولتان في هذا المجال.
 
مخاطر الحرب
 
يمثل الخيار النووي الإيراني نقطة الخط الأحمر في الصراع الأمريكي – الإيراني، أو ذروته التي سوف يتغير الوضع بعدها، أما بتحجيم مشروع الجمهورية الإيراني القومي المتوسع، أو بهزيمة الوجود الأمريكي في منطقة الخليج.
وعلى الرغم من إعلان حكومة البحرين والحكومات الخليجية عامة حيادها في هذا الصراع، لكنه حياد غير حقيقي، لأن ارتباطها بالسياسة الأمريكية والغربية أمر يتشكل في كل مجال، وخاصة في مجال التسلح والقواعد العسكرية، مما يعني أنها أرض إسناد للعدوان المرتقب حسب المصطلح الإيراني.
وتتوجه السياسة الأمريكية لسياسة حافة الهاوية هذه بسبب ضخامة الفوائض النقدية التي تنبع من الخليج والجزيرة العربية، وتقدر أرباح الشركات الأمريكية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي وقتذاك بخمسة عشر ملياراً من الربح سنوياً، إضافة لما يمثله الخليج من أرباح للحلفاء الغربيين ومن مورد طاقة هائل ومن سوق واسعة تتحول أحياناً إلى مكب نفايات للسلع المنتهية الصلاحية.
وتنبع حماية الحكومات الأمريكية للأسر الحاكمة في الخليج من تغييب الرقابة على هذه العمليات الاقتصادية وقبول هذه الأسر بشراء الكميات الهائلة من السلاح الأمريكي والغربي وإقامة القواعد، وهذا كله يمثل استنزافاً هائلاً للموارد، كذلك يجري ملء الخليج والجزيرة العربية بالعمالة الأجنبية الآسيوية لمنع تشكل مواقف شعبية مناهضة أو قيام تحرك قومي يقطع أنبوب الذهب السائل الهائل المتوجه للخزائن الغربية.
وهذا مغاير لما يحدث في الجانب الإيراني المتوحد في كيان سياسي صلب، ومن نمو لعسكرية كبيرة ذات قوى بشريه ضخمة، ومن تصعيد لقطاع حكومي هائل، وهذا كله يناقض المصالح الأمريكية والخليجية الحكومية، وتغدو الليبرالية المقترحة على النظام الإيراني تفكيكاً لهذا المشروع العقائدي المسلح القوي(القومي)، الذي تمثل ذروته الخطرة مشروع القنبلة النووية الإيرانية.
إن مشروع القنبلة يتخذ كمدخل لإعادة النمر الإيراني إلى حجم الشاة السابق، ومن المحتمل أن توجه الضربات من قبل إسرائيل خاصة، ولكن لا نعرف الاحتمالات الأخرى المأخوذة في الحسبان.
إذن لدينا مشروعان متصادمان يفتقدان الحكمة في كل جانب، ولا يأبهان لمصير الشعوب، ولا يستطيع الطرف المحلي أن ينفك من التحالف الأمريكي، ولا أن يتخلص من أغلبية شعبه كذلك، فالصدام الخارجي لا بد أن يكون صداماً داخلياً أيضاً.
ويتضح موقف الجانب السكاني الديني البحريني في رفع صور وشعارات الدولة الإيرانية ومن ترديد شعار(الموت لأمريكا) ومن هجوم سابق على السفارة الأمريكية، أي ثمة استعداد للتضامن الكبير مع إيران يمكن أن يصل إلى أقصى أشكاله.أي هي سويس جديدة ولكن إيرانية هذه المرة وذات أبعاد أكبر وأخطر.
 
لم يستطع الطرف الحكومي المحلي أن ينفك من التبعية للولايات المتحدة، فانعكست كل سلبيات هذه العلاقة على تقلقل التجربة السياسية البرلمانية الجديدة، أو مشروع الإصلاح المطروح.
فقد أوجدت التجربة الجديدة العديد من أشكال التنظيم العلني المتاحة للجمهور، لكنها رفضت نتائج الانتخابات المؤدية لسيطرة حزب الأغلبية على البرلمان، فأحدثت شكلاً من التزوير المنظم الواسع النطاق، عبر خلق تنظيمات مؤيدة ذات حضور زائف في البرلمان، ثم محاصرة هذا الوجود المعارض داخل البرلمان، وخلقت ممانعة حكومية قديمة – جديدة لتحول حزب الأغلبية إلى مغير للأوضاع المعيشية السيئة عبر  نفس النظام المقترح من قبلها.
وهذا كله يخلق قوى جمهور متذمر قابل للاستخدام العنيف والفوضوي، خاصة إنه وجدَ الأدوات المنظمة له، ومن هنا فإن استمرار تأييده للسياسة الإيرانية يعبر عن عجز السياسية الأمريكية – المحلية عن الوصول لجذور المشكلات وحلها، بسبب تناقض سياستها، بين دعوة للإصلاح والتغيير وإبقائها للقوى البيروقراطية القديمة الفاسدة. وبين دعوتها للتخفيف من أعباء الناس وفتحها الأبواب للشركات والعمالة الأجنبية التي لا تستفيد منها أغلبية الناس.
وهكذا فإنها تضعُ النارَ بقرب البنزين، وتغيبُ الحقائقَ المتضادة بصحافة محدودة النطق الحر، وبتوسيع دوائر الأدلجة والنقد الجزئي الانتهازي النفعي، وتجعل من هذا كله غسيلاً دماغياً يومياً، متصورة قدرتها على السيطرة على التاريخ الوطني والمناطقي والعالمي.
والحلول صعبة في مثل هذا الواقع الذي تسيطر فيه قوى عالمية – محلية كبيرة، ولن يكون سوى الصدام بينها في مستقبل الأيام، وهو صدام كارثي بكل النتائج المترتبة عليه.