المنشور

على البرابرة أن‮ ‬يأتوا

يقال إن اليونانيين القدماء هم أول من أطلق كلمة‮ “‬البرابرة‮” ‬على الآخرين،‮ ‬أي‮ ‬على الأقوام الأخرى من‮ ‬غير اليونانيين،‮ ‬لأنهم لم‮ ‬يكونوا‮ ‬يتكلمون اللغة الإغريقية وإنما‮ ‬يبربرون بلغات أخرى‮.‬ البرابرة بهذا المعنى كانوا هم الآخرين،‮ ‬الآخر الأقل مرتبة وتحضراً،‮ ‬وهم بهذا المعنى أيضاً‮ ‬العدو الفعلي‮ ‬الماثل أو العدو الكامن المحتمل،‮ ‬الذي‮ ‬يجب إقصاؤه من دون التخلي‮ ‬عن وجوده بوصفه‮ ‬غريماً‮ ‬يهيئ الأسباب والذرائع الضرورية كلما كان ذلك ضرورياً‮.
الشاعر قسطنطين كانافيس الذي‮ ‬عاش في‮ ‬الإسكندرية في‮ ‬زمن‮ ‬غابر عبر عن هذه الفكرة شعراً‮ ‬حين قال في‮ ‬إحدى قصائده‮: “‬لأن الليل قد أقبل ولم‮ ‬يحضر البرابرة‮ / ‬ووصل البعض من الحدود‮ / ‬وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود‮ /‬ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟‮/ ‬لقد كان هؤلاء الناس حلاً‮ ‬من الحلول‮”. ‬هذا النص مأخوذ عن ترجمة للأستاذ نعيم عطية نشرت في‮ ‬الكويت عام ‮٣٩٩١ ‬استشهد فيه الباحث المعروف سيد‮ ‬ياسين في‮ ‬دراسةٍ‮ ‬له،‮ ‬مقدماً‮ ‬شرحاً‮ ‬إضافياً‮ ‬فحواه أنه شاعت في‮ ‬المدينة أخبار أن البرابرة قادمون لغزو المدينة،‮ ‬ومنذ الصباح الباكر لبس الحاكم أفضل ثيابه ووضع نياشينه وانطلق على رأس وجهاء المدينة نحو الحدود بانتظار قدوم البرابرة لاستقبالهم والترحيب بهم،‮ ‬لكن حل المساء من دون أن‮ ‬يأتي‮ ‬البرابرة،‮ ‬حينها قال الحاكم بأسى‮: ‬واسفاه‮.. ‬لم‮ ‬يأت البرابرة،‮ ‬فلقد كان في‮ ‬مجيئهم نوع من الحل‮.
وهذا الشرح‮ ‬يفضي‮ ‬إلى فكرة الذريعة الخارجية أو الخطر الخارجي‮ ‬الذي‮ ‬تحت عباءته‮ ‬يمكن تصريف المشاكل وترحيلها‮.‬عندما كان الاتحاد السوفياتي‮ ‬ومحيطه الحليف في‮ ‬أوروبا الشرقية موجودين،‮ ‬كانت المهمة في‮ ‬الدوائر الغربية أسهل،‮ ‬فعلى شماعة الخطر الشيوعي‮ ‬شُنَّ‮ ‬كثير من المغامرات والحروب،‮ ‬ودبرت الانقلابات العسكرية التي‮ ‬أطاحت بحكومات شرعية منتخبة من الشعوب ومعبرة عن مصالحها،‮ ‬لكن بنهاية الحرب الباردة توارت هذه الذريعة أو سقطت‮.
ابتدع الغرب،‮ ‬في‮ ‬ظروف اليوم،‮ ‬ذريعته عن برابرة جدد تحت عنوان الصراعات الحضارية والقومية والثقافية على النحو الذي‮ ‬صاغه صموئيل هانتنغتون في‮ ‬أطروحته عن صراع الحضارات التي‮ ‬حدد فيها بعض الحضارات بمكانة أولى بوصفها خطراً‮ ‬محتملاً‮ ‬قادماً‮ ‬على الحضارة الغربية،‮ ‬لأن الغرب لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعيش أو‮ ‬يتنفس من دون عدو خارجي،‮ ‬من دون خطر حتى لو كان مفتعلاً‮.‬
منذ اليونان القديمة،‮ ‬كرست الحضارة الغربية مبدأ الثنائية الحضارية،‮ ‬حضارة أولى هي‮ ‬الأنموذج والمثال في‮ ‬النهضة والرقي،‮ ‬وأخرى‮”للبرابرة”‬الذين‮ ‬يتكلمون بلغات أخرى ويفكرون بطريقة أخرى‮.‬ هؤلاء هم الخطر الذي‮ ‬يتعين محاصرته وحشد القوى ضده وتجييش الجيوش لاتقائه حتى لو اقتضى الأمر الذهاب إليه في‮ ‬عقر داره للبطش.
 
صحيفة الايام
7 مايو 2008