المنشور

أولويات الوطن والمواطن


كائنة ما كانت تعرجات أداء معظم نواب مجلسنا النيابي، وتداعيات هذا الأداء طيلة السنتين الماضيتين من عمر الفصل التشريعي الثاني والذي بدأ دور انعقاده الثالث يوم الاثنين الماضي، إلا أن مسيرة هذا المجلس تظل رغم كل الملاحظات والمآخذ والتحفظات والتطلعات بشأن الصلاحيات أو الأداء أو المسار أو المخرجات، في حاجة إلى أن تبرهن بأنها تتطور باستمرار، وأن التصرف الديمقراطي الحقيقي هو الطبيعي للنواب والحكومة على حد سواء، وإنه لابد من تفعيل هذا التصرف والارتقاء بمستوى الممارسة النيابية والدفع بها في الاتجاه السليم والصحيح الذي لا يجعل زهو هذه التجربة وما علق عليها من آمال يذهب سدى.. !!.
ولأننا لا نعلم حقيقة ما إذا كان دور الانعقاد السابق وحصيلته وحصاده قد أخضع للتأمل والتقييم الهادفين إلى مراجعة تصحيحية ذاتية، وما إذا كان دور الانعقاد الجديد سيثمر عن مخرجات أفضل في مجال التشريع والرقابة الفعالة، فإنه من الواجب على النواب جميعهم من دون استثناء على الأقل من زاوية حقنا عليهم كمواطنين بأن يحسنوا فيما يقدموا عليه من عمل في الفترة المقبلة، وعلينا أن ننبههم وننصحهم بأن ينتصروا للجدية ضد ترف إضاعة الوقت ووقف ذلك السيرك الذي تمثل في ممارسات سابقة لكثير من النواب خلال دوريّ الانعقاد السابقين، ممارسات هيئت مناخاً بدا وكأن كل نائب يناصب للآخر العداء في خضم جدل ممقوت وابتكار كل ما كان يؤزم ويبعث على قدر كبير من القلق والإحباط والشحن الطائفي.
 ما نريده من النواب في دورة العمل الجديدة أن يحسنوا اختيار وتبني الأولويات والمطالب المشروعة التي لا يمكن الخلاف أو الاختلاف عليها أو إخضاعها لصولات وجولات ومزايدات لا تفتح آفاقاً لإنجازات تذكر، وعلى النواب أن يسترشدوا برؤى وتوجهات صاحب الجلالة الملك التي عرضها في كلمته الافتتاحية لدور الانعقاد الثالث للمجلس الوطني يوم الاثنين الماضي، فهي رؤى وتوجهات حددت ثوابت وأسس وأولويات واضحة يجب أن تكون حاضرة في أذهان السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً، لأنها تضع الجميع أمام مسؤولياتهم التي تفرض عملاً دؤوباً لا يستهان به يتطلب الكثير من التعاون الإيجابي الحقيقي والملموس وغير المسبوق بين السلطتين دونما مناكفات أو تجاذبات أو إعاقة أو تعطيل من هذه السلطة أو تلك رغم كل شعارات التعاون.
 نعلم جيداً وبالتجربة أن ملفات كبرى ومسائل كبرى لم يمسكها أو لم يتعاط معها النواب في الفترة الماضية كما يجب، ومن هنا فإن دعوة صاحب الجلالة الملك بالنظر في الدروس والتجارب الجديرة في المسيرة البرلمانية للاستفادة، وتوجيه هذه المسيرة إلى ما يخدم مصلحة الوطن والمواطنين، هي دعوة في محلها ومتوافقة مع مستوى المهمة التاريخية ولمستوى المسؤولية الملقاة على عاتق مجلس النواب والتي شدد عليها الملك بنفس القدر الذي شدد على الدور التشريعي والرقابي الفعال.
 ومع كل التقدير للمناقشات الطويلة ومهرجان التصريحات الهادئة وغير الهادئة التي بشرتنا عن تنسيق قيل بأنه قد تم بين الكتل النيابية حول الأولويات والملفات التي سيتم تبنيها ضمن أجندة عمل الدورة الجديدة لمجلس النواب بشكل جماعي أو على مستوى كل كتلة، فإن الموازنة العامة التي هي الأولى والأخيرة التي سيناقشها البرلمان الحالي والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية البحرين الاقتصادية المستقبلية وإستراتيجيتها الوطنية التي شدد الملك على أهميتها البالغة بقوله إنها تتمحور حول الوطن والمواطن لجعله المستفيد الأوحد من ثمار التنمية الاقتصادية والاجتماعية بعد أن قيل لنا بأنه كان الخيار المفضل.. !
هذه الميزانية ترسم ملامح المستقبل وتعد أهم وثيقة اقتصادية ومالية في سياسات الحكومة خاصة بما تضمه من برامج ومشاريع تستوجب أن تكون في قمة الأولويات لأنه من خلالها تفعّل الرؤى والتوجهات التي عرضها الملك حفظه الله، ويفعل الدور الرقابي لمجلس النواب ومواجهته لمظاهر الخلل والفساد، ويفعّل الاهتمام بالقضايا المعيشية للناس لاسيما ما يتعلق منها بالصحة والتربية والتعليم، والإسكان.
 تلك هي الأولوية التي تتفرع عنها أولويات يجب أن تكون على رأس اهتمامات السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً، وما جاء في كلمة جلالة الملك يقضي بأن تنذر كل سلطة نفسها للانصراف والتركيز على هذه الأولويات للتخفيف من اليوميات والأعباء الثقيلة للمواطن دون مزيد من التضليل والتمويه وتضييع الوقت، وطالما أن المواطن أصبح هدفاً معلناً من رأس السلطة السياسية في البلاد ليكون الخيار الأوحد المستفيد من ثمار التنمية، فإن هذا الهدف هو الذي يجب أن يستأثر بكل الاهتمام وبمنتهى الجدية.
إن التنمية التي من المصلحة أن يفهمها ويستوعبها الجميع هي التنمية بمعناها الشامل وليست تلك التي تتحقق بمجرد تشغيل المقاولين والأيدي العاملة الأجنبية لتنفيذ المشروعات العمرانية والعمارات الشاهقة والمدن الخاصة التي يصعب على المواطن البسيط أن يحلم بها، بل التنمية هي عملية حضارية شاملة لمختلف أوجه النشاط في أي مجتمع بأبعادها السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والتي تحقق رفاه المواطن وكرامته، وهي أيضاً التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون أن يكون ذلك على حساب احتياجات الأجيال المقبلة، ومن هنا فإن هدف جعل المواطن البحريني الخيار الأوحد المستفيد من ازدهار وخيرات التنمية، هو القضية الجوهرية والأولوية التي تتصدر كل الأولويات، ومن باب الجسارة الباهظة الثمن أن يتغافل أو ينشغل النواب عن تحقيق ذلك الهدف أو يكونوا عاجزين عن استكشاف آفاق تفعيل هذا الهدف، وإذا كان من حق النائب أن يكون له حضور في السوق السياسي بالرأي والموقف أو حتى باللافتات واليافطات والصور العملاقة، إلا أنه ليس من حقه أن يبقينا أسرى المراوحة أو تلك الصور من التأزيم والتصعيد والمناكفات والسجالات، وطأفنة قضايا الوطن والكثير من الممارسات المستفزة التي تؤخر ولا تقدم.
بقي أن نقول شيئاً عن رؤية البحرين الاقتصادية وإستراتيجيتها الوطنية، هذه الرؤية طالما هي محورية بما لا يدعم أي مجال للشك في أهميتها في رسم ملامح مستقبل البحرين، ألم يكن من منظور البناء المشترك الذي دعا إليه صاحب الجلالة الملك أن تطرح هذه الرؤية للعرض وأن يدار حولها نقاشاً وطنياً يقتسم فيه الكل المسؤولية وتحمل تبعاتها بأسلوب التشاور والحوار البنّاء الذي يهيئ لعمل وطني نوعي بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى.
 
الأيام 24 اكتوبر 2008