المنشور

ثقافة العمل التطوعي


تناولت أقلام صحفية وكتّاب مقالات وأعمدة خلال السنوات الأخيرة في بلدان مجلس التعاون الخليجي مسألة العمل التطوعي وظاهرة الانكماش قياسا بمراحل تاريخية معينة. والمشترك فيما بينها هو ظاهرة التراجع باختلاف التفاصيل والأسباب  وبكونه في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة كان أفضل بمقياس نسبي إذا ما تم قياسه في الألفية الثالثة.
وقد طرحت آراء ووجهات نظر عدة متباينة  حاول بعضها تلمس الظاهرة عن قرب  في محاولة جادة لظاهرة الانكماش الاجتماعي في مرحلة تاريخية تتطلب دورا اكبر وأوسع من المجتمع المدني في المساهمة كطرف مكمل للدور الحكومي كما نراها في العالم الغربي  والتي تناشد بها منظمات الأمم المتحدة  حيث مطلوب من المنظمات غير الحكومية أن تتبوأ مكانتها في لعب ذلك الدور  خاصة وان المجتمع المدني يضغط بقوة في حقه في الشراكة المجتمعية في مجالات كثيرة  سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية وحقوقية. فلماذا رغم تطور المجتمع الدولي في جوانبه الحقوقية والإعلامية  الداعي بالمزيد من توسيع هامش الحقوق وتوسيع هامش الحريات  نرى بالمقابل انكماش المجتمع الخليجي عن اخذ زمام ذلك الدور بشكل يتناسب مع التحولات الداخلية والدولية لضرورة المشاركة في عمل تطوعي حر واختيار واع للفرد في أن يكون له دور في مجتمعه وبلده. لماذا انكمش المواطن في دول مجلس التعاون عن العمل التطوعي بشكل لافت للواقع الاجتماعي وحراكه في المشاركة في بناء مجتمع فعّال؟.
ما نراه أمامنا من ظاهرة سلبية ليست إلا نتيجة لتراكم حالة عميقة الجذور  للعلاقة المضطربة ما بين الدولة كنظام سياسي والمجتمع  حيث تعود جذور الظاهرة لمرحلة ما قبل الاستقلال وزمن الاستعمار الذي لم يفتح مجالا وإنما سمح به في أوضاع محدودة وخيرية انطلاقا من شكوك الاستعمار من انخراط المجتمع في عمل سياسي تحت واجهات أعمال تطوعية وثقافية.
واستمر هذا الدور بشكل أوسع في مرحلة اتساع الهوة عندما نشطت الأعمال السياسية وبرزت المنظمات السرية  التي نتيجة منعها وجدت في الواجهات المهنية والثقافية المشروعة قناع تخفي خلفه أنشطتها الجماهيرية غير المشروعة بل وتحولت تلك الأنشطة إلى أوكار فاعلة مما وضعها تحت مظلة المراقبة والضغوطات وحتى المنع. وعندما يتم اعتقال نشطاء سياسيين في البلاد يتم ربطهم بتلك التجمعات والواجهات  مما أعطى للمجتمع والدولة صورة سلبية عن تلك الأنشطة التطوعية  التي كان لوضعها الاستثنائي السري مسبباتها ونتائجها. ومن حالة الظاهرة اليسارية والقومية في الستينات والسبعينات حتى الظاهرة الدينية في الثمانينات حتى يومنا  والتي تغطت خلف عباءة الأعمال التطوعية الخيرية والإنسانية بحجة الدعم الإسلامي للإخوة المسلمين في العالم. هذه الحالة دفعت بالضرورة الناس إلى ربط كل عمل تطوعي معرض للمداهمات والاعتقالات في صفوف رجال وشخصيات تعمل من داخل تلك المؤسسات.
وزاد حالة الانكماش عندما جاءت الطفرة النفطية الأولى وبين جيلين عايشا الظاهرة النفطية  وكان الانخراط في حياة اجتماعية استهلاكية جديدة عاملا مهما وملحوظا في عزلة الناس عن العمل التطوعي المحدود  السائد يوم ذاك بحجم واقع تلك المجتمعات ما قبل النفطية. وبسبب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة وسط الجيل الشاب  فان نوعية اهتماماته اختلفت ونوعية علاقته تطورت  بحيث خلقت الرفاهية والاتصالات ونزعة الاستهلاك المتزايدة ضمورا واسعا وانكماشا كبيرا في العمل التطوعي.
وقد وجدنا إن كلما تم فتح أبواب الحريات والحوار المفتوح إزاء ظواهر كثيرة بما فيها تطور وعي المجتمع للتمييز بين الأنشطة جميعها  صارت فرص الالتحاق بعمل الجمعيات التطوعية اكبر ووضوح رؤية التمايز في العمل التطوعي واختلافه بين عمل سياسي مؤدلج عن تلك المنظمات المهنية والبيئية والاجتماعية والإنسانية  وبضرورة استيعاب دور كل منها  بل وبضرورة عدم الخلط بين تلك الأنشطة ان بلدان مجلس التعاون قطعت شوطا طويلا من تطورها بعد الاستقلال  وكبرت أجيال جديدة في هذه المنطقة  من الضروري أن تستوعب دورها الجديد في خدمة العمل التطوعي في بلدانها  مثلما لا ينبغي من المؤسسات الرسمية تهويل تلك المسألة والمغالاة بأبعادها  إذا أردنا الجيل الجديد يندفع للعمل التطوعي ويفرز الفروق بين كل الأنشطة وطبيعتها وأهدافها  فوجود جيل سلبي ولا مبالٍ في مجتمع استهلاكي مرفه  ينتظر منا جميعا جذبه للعمل التطوعي  فالتأسيس لثقافة جديدة للعمل التطوعي مسألة مهمة للغاية  فكل تدمير للبيئة نحن مسؤولون عنه “المنظمات غير الحكومية” قبل الحكومات  والصمت والسلبية عن ذلك التدمير جريمة كبرى  فما بالنا في الانكماش عن أمور عديدة أخرى.
 
الأيام 25 نوفمبر 2008