المنشور

ما هذا‮ ‬يا عرب‮.. ‬حتى الدول‮ »‬الطرّارة‮« ‬لم توفركم‮!‬

أولاً‮ ‬هل هناك دول‮ ‘‬طرّارة‮’ (‬تعبير خليجي‮ ‬دارج‮ ‬يعني‮ ‬الدول المتسولة)؟ نعم لقد اقترنت ظاهرة التسول والمتسولين‮ (‬الطّراروة‮) ‬بالأفراد كما هو معروف وشائع‮. ‬إنما أن‮ ‬يصل الأمر بالدول وحكوماتها لتمارس عادة تسول أحد أشكال الدعم والمساعدة فهذا ما لا‮ ‬يستقيم والبنية السيادية،‮ ‬القانونية والأخلاقية،‮ ‬للدول والبروتوكولات والأعراف الدولية،‮ ‬ولكن شتان بين هذه الأنساق والقواعد وبين الواقع الدولي‮ ‬المعاش،‮ ‬ففي‮ ‬هذا الواقع هنالك العديد من الدول التي‮ ‬تجد نفسها أكثر في‮ ‬توسم عشم الدول الغنية من ابتداع برامج خلاقة لحشد وتسخير كافة الطاقات المحلية المتاحة والبناء عليها‮.‬ والطرارة أو التسول على صعيد الدول،‮ ‬أنواع وأشكال‮. ‬فهنالك سلوك الطرق التقليدية المتبعة في‮ ‬استجداء العون والمساعدات الدولية من الأطراف والأقنية المتيسرة والمعروفة،‮ ‬وهناك التطوع لقبول النهوض بمهام لوجستية لصالح أطراف ثالثة لقاء الحصول على مساعدات ثابتة أو مقطوعة أو الحصول على تسهيلات وميزات محددة‮.‬ جمهورية تشيكيا هي‮ ‬أحد النماذج المضلّلة‮ ‬للدول المتسولة‮ (‬الطرّارة‮)‬،‮ ‬فهي‮ ‬إذ تخدعك ويخدعك شعبها بأنفتهما وغرورهما،‮ ‬إلا أنها في‮ ‬حقيقة الأمر لازالت تعيش في‮ ‬جلباب عقدتها من عقود الخضوع للتبعية الألمانية في‮ ‬القرنين الرابع عشر والخامس عشر ثم ولمدة‮ ‬300‮ ‬سنة لهيمنة الإمبراطورية البروسية الهنغارية التي‮ ‬استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬1919‮ ‬ولم تهنأ القومية التشيكية التي‮ ‬استدرجت القومية السلوفاكية في‮ ‬إعادة تأسيس دولتها في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1918‮ ‬إذ سرعان ما عاد النازيون في‮ ‬بداية الحرب العالمية الثانية في‮ ‬عام‮ ‬1939‮ ‬وضموا مقاطعتي‮ ‬بوهيميا ومورافيا إلى الدولة الألمانية قبل أن تعود دولة تشيكوسلوفاكيا مرة ثالثة للمسرح الدولي‮ ‬بعد تحريرها على‮ ‬يد القوات السوفييتية في‮ ‬ابريل‮ ‬‭,‬1945‮ ‬العام الذي‮ ‬وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها‮.‬ وعندما أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً‮ ‬من الكتلة الإشتراكية العالمية التي‮ ‬قادها الإتحاد السوفييتي‮ ‬منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عشية سقوطه في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1995‮ ‬كان التشيكيون‮ (‬وليس السلوفاكيين‮) ‬لا‮ ‬يخفون نبرة‮ ‬غرورهم ونكرانهم للجميل والهزأ والسخرية من أبناء القومية السلوفاكية الذين كانوا‮ ‬ينظرون إليهم نظرة دونية كفلاحين متخلفين‮. ‬فما ان تفكك الإتحاد السوفييتي‮ ‬ومعه كتلته الشرقية حتى قاموا بتفكيك الفدرالية التشيكوسلوفاكية في‮ ‬عام‮ ‬1993وتحولوا لتملق الغرب واستجداء عضوية حلف شمال الأطلسي‮ ‘‬الناتو‮’ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1999‮ ‬توطئة للإلتحاق بمنظومة الدول الأوروبية الغربية المتقدمة المؤتلفة في‮ ‬إطار الإتحاد الأوروبي‮ ‬لجني‮ ‬ثمرات هذه العضوية وإشباع‮ ‬غرورهم بالتفوق والتميز‮ ‬،‮ ‬حيث نجحوا فعلاً‮ ‬في‮ ‬الحصول على عضوية الإتحاد في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬2004 وعندما أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها نشر ما أسمته بالدرع الصاروخية في‮ ‬أوروبا سارع التشيكيون للتطوع بدعوة واشنطن لنشرها على أراضيهم،‮ ‬في‮ ‬استفزاز وقح للجار الروسي‮ ‬لا‮ ‬يليق إلا بالدول الخائبة المتعايشة على استجداء الدعم والمؤازرة لقاء‮ ‘‬توفير الخدمة‮’.‬ فلا‮ ‬غرو،‮ ‬والحال هكذا،‮ ‬أن‮ ‬يعلن وزير خارجية تشيكيا كارل شفارتسينبيرغ‮ ‬فور تسلم بلاده الرئاسة الدورية للإتحاد الأوروبي‮ (‬مدتها ستة أشهر‮)‬،‮ ‬أن العدوان الإسرائيلي‮ ‬على قطاع‮ ‬غزة‮ ‬يندرج في‮ ‬إطار الدفاع عن النفس‮(!). ‬وليته اكتفى بنسب هذا الموقف الصفيق ببلاده،‮ ‬ولكنه أصر على الإدلاء به باسم الإتحاد الأوروبي،‮ ‬وهو الذي‮ ‬لم‮ ‬يكن ليتخيل‮ ‬يوماً‮ ‬أن تترأس بلاده،‮ ‬ولو إلى حين،‮ ‬دول أوروبية كبرى رئيسية في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا‮.‬ فكان أن تسبب هذا الموقف التشيكي‮ ‬الأخرق في‮ ‬إحراج الاتحاد الأوروبي‮ ‬كمفوضية في‮ ‬بروكسل وكدول أعضاء،‮ ‬ما حدا بكل من لندن وباريس للمسارعة للتبرؤ من هذا التصريح والإعلان عن عدم تعبيره عن الاتحاد الأوروبي،‮ ‬مما اضطر الدولة الطارئة إلى سحب تصريح وزير خارجيتها ولكن من دون الاعتذار عنه‮.‬ وهل‮ ‬يعتذر المغرور عن سوءاته؟ كلا بطبيعة الحال،‮ ‬لأنه لا‮ ‬يملك الارتداع عن‮ ‬غيه،‮ ‬خصوصاً‮ ‬إذا كان مخزون هذا الغي‮ ‬وفيراً‮ ‬يحتاج إلى تصريف منتظم،‮ ‬كما هو حال تشيكيا التي‮ ‬كانت قد أعلنت أصلاً،‮ ‬ومن قبل تسلمها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي،‮ ‬إنها تعتزم عقد قمة بين الاتحاد الأوروبي‮ ‬وإسرائيل‮.‬ أولم‮ ‬يسمها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي‮ ‬السابق بـ‮ ‘‬أوروبا الجديدة‮’ (‬أي‮ ‬أوروبا المطواعة والتابعة لبلاده‮) ‬نكاية بألمانيا وفرنسا وبقية الدول التي‮ ‬رفضت‮ (‬باستثناء أسبانيا التي‮ ‬كان‮ ‬يحكمها اليمين وقتذاك‮) ‬تأييد الحرب الأمريكية ضد العراق عام‮ ‬‭,‬2003‮ ‬والتي‮ ‬أسماها أوروبا القديمة؟ ولكن‮.. ‬ما الذي‮ ‬شجع حتى‮ ‘‬الصغار‮’ ‬للتطاول علينا والنيل من كرامتنا ومصالحنا بعد أن اعتدنا تلقف الحيف والضيم من‮ ‘‬الكبار‮’‬؟ إنه تخاذلنا وتهاوننا،‮ ‬فلو لم نكن ندير خدنا الأيسر عندما‮ ‬يصفعنا أحد الكبار على خدنا الأيمن لما تجرأ الصغار على النيل منا ولكانوا فكروا ملياً‮ ‬في‮ ‬عاقبة إثمهم‮.‬ في‮ ‬الأثناء،‮ ‬وفي‮ ‬ذات السياق،‮ ‬ما الذي‮ ‬نفعله؟ ما نفعله‮ ‬غير معقول‮: ‘‬نقطّع في‮ ‬بعض ونخبط رأسنا في‮ ‬بعض‮’ ‬ونهيل التراب على أنفسنا‮! ‬أي‮ ‬إننا انصرفنا لتصفية حساباتنا مع بعضنا البعض واتخاذ المواقف الكيدية إزاء بعضنا البعض،‮ ‬بل وحتى الشماتة المضمرة مما‮ ‬يتعرض له بعضنا على‮ ‬يد الغريب،‮ ‬وذلك في‮ ‬تغييب صريح ولافت لأحد أنساق مكونات ارثنا الثقافي‮ ‬الذي‮ ‬عادة ما‮ ‬يستحضر في‮ ‬مثل هذه الملمات،‮ ‬ونعني‮ ‬بذلك‮ ‘‬أنا وأخي‮ ‬وابن عمي‮ ‬على الغريب‮’!‬ إلى ذلك أيضا نجد أن البعض قد شطح وذهب بعيداً‮ ‬في‮ ‬تخبطه،‮ ‬بإشهاره،‮ ‬باستخفاف مريب سيف التشهير والتسقيط في‮ ‬وجه مصر واعتبارها الملامة الوحيدة فيما جرى والمسئولة عن تداعياته‮. ‬وهذا موقف‮ ‬يحمل الكثير من التجني‮ ‬غير المنصف والخالط قصداً‮ ‬للأوراق‮.‬ فحذار من الإنجرار وراء حملة التحريض والتشهير الرخيصة ضد مصر على خلفية الخلاف المصري‮ ‬مع حماس بشأن حوار القاهرة بين فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية الذي‮ ‬رعته القاهرة ولم‮ ‬يكتب له النجاح وترتب عليه الخلاف المعروف بشأن اتفاق التهدئة مع إسرائيل‮.‬ على أية حال،‮ ‬وبالعودة إلى موضوعنا نقول إن أخشى ما نخشاه هو أن‮ ‬يتم نسيان موقف تشيكيا العدائي‮ ‬سالف الذكر والتغاضي‮ ‬عنه ونسيانه واستقبال وزير خارجيتها في‮ ‬العواصم العربية بصفته رئيس الدورة الحالية للإتحاد الأوروبي‮ ‬بل وربما بصفته وزيراً‮ ‬لخارجية تشيكيا والإستجابة لتملقات ودعوات بلاده للإستثمار فيها لإنتشالها من أزمتها الإقتصادية‮.‬ الراجح أن هذا ما سيحصل للأسف الشديد،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن لحليمة إلا أن تعود إلى عادتها القديمة‮!‬
 
صحيفة الوطن
10 يناير 2009