المنشور

عواطفنا المتشظية !

ربما كان سهلا أن اعتقد أن الكتابة لا يمكن فعلها وتفعيلها وأنا محبوس داخل كتلة من الجبس، فبدت يداك التي تكتب بها معطلة عن فاعليتها ونشاطها ، وبالفعل فلكل صاحب مهنة عضو أساسي لديه فالذين يكتبون باليد اليسرى لا يتمنون أن تصاب يدهم بالأذى ويفضلون بين خيار اليدين أن تتعطل يدهم اليمنى، أما إذا كان الشخص كاتبا يتعاطى مع الحرف والموضوعات يوميا من مثل شاكلتي، فهو يصاب بخيبة أمل قصيرة الأمد، عندما اكتشف الطبيب علة في الأربطة ( الوريد ) في كتفه الأيمن ومن الأفضل أن يخضع لعملية جراحية عاجلة. صار الأمر واقعا ولا فكاك من معضلة العملية وواقعها وأهميتها ومحنتها وخيارها المقيت، فمن خلال تلك اليد نسترزق قوتنا وخبزنا اليومي. لكم بدت الحقيقة مؤلمة عندما نكتشف كيف يعيش ذوو الاحتياجات الخاصة طوال حياتهم بتلك الصورة ، بينما سنمر نحن بالحالة نفسها لمجرد أسابيع ، ورغم ذلك، يداخلنا شعور مختلف بأنها مجرد حالة عطل مؤقتة مخيبة للآمال كلما تلمسنا حالة ما بأننا غير قادرين على انجازها بمفردنا ، ولا بد من أن يكون حولنا شخص نتكئ على مساعدته ، وهي بالطبع فرصة لاستخدام الابتزاز العاطفي وتوظيف المسكنة والدلال، فالآخرون ينظرون لنا بعين الشفقة، إلا ذلك المنحوس الذي مر بتجربة أسوأ فسيقول لك، بسيطة المسألة مافيها شيء ، كلها أيام وترجع لنشاطك ، ويبدأ يقارن السيئ بالأسوأ ، يبدأ يعد لك كيف مر بظروف سيئة فأنت وحالتك لا تعد أمرا يستحق التفكير فيه، إذا ما قستها بالويلات التي مررت بها ، لحظتها ينسونك الجالسون وكأنك مقعد فارغ لا قيمة لك وحالتك مجرد زكام عابر، لحظتها تود أن تخنقه من عنقه وتريح العالم منه وتريح نفسك . لكم مزعج هذا النوع من البشر، الذين لا يفهمون معنى المواساة والحنان وشعور الآخرين بأهمية الدفء وبضرورة رفع معنوياتهم المنهارة أو حتى الهابطة. لكل واحد فينا تجربة من هذا القبيل، يلامسها بأسى داخلي خاصة لمعرفته وتجربته اليومية وانه يعطل معه بعض أفراد العائلة لكي يقوموا بخدمته ورعاية مطالبه ومشاطرته ولو جزء صغير من معاناته، هكذا أعادت لذاكرتي زوجتي عندما أجرت عملية اعتقد في كتفها الأيسر وقمت كممرض لمتابعة شؤونها وحاجاتها، ولازمتها حتى في سفرتها إلى مسقط أثناء حضورها المؤتمر ، فقد كان عليها أن تستحم وترتدي ملابسها وتنظف أسنانها وان أكون برفقتها في المطعم ، إلى أن يحضر زملاء العمل فعلى الأقل هناك من تستطيع أن تطلبه أن يساعدها في حالة احتياجها لضرورات قصوى، لا يمكننها أن تفعلها إلا بوجود يدين معافيتين، في التجربة النسوية تعلمت كيف أشياء كثيرة عن النساء، وهن لا حول لهن ولا قوة، استعدت الحالة وما مرت بها، وها أنا أقع فريسة العملية في الكتف، متذكرا حكاية ذلك الإنسان، الذي لم يتعلم أن المشاعر والعاطفة الإنسانية، وفي لحظات معينة من الضعف الإنساني تحتاج إلى مشاعر استثنائية لا يمكن أن نقارنها بأوقات اعتيادية فزمن زمبرك الساعة فيه ممل من حياتنا، ونحن في كامل صحتنا ، فهناك لا يهتم البشر بكل ما يتحرك في داخل جسدهم ولا يستشعرون بدفق ذلك الدم، المميت أحيانا، فيما لو قيل لنا ذات يوم عن مدى نزيف منهمر لم يجد صاحبه وقت لإسعافه بسرعة . المرض والزمن هما حالتان تتحركان ببطء شديد ومقيت لا نحبه، ونود أن يمر الوقت بأسرع ما يمكن ، وكلما تقدمنا في وضعنا الصحي شعرنا أن مشاعرنا وعاطفتنا تتماسك كفصل من فصول السنة الأخضر، بينما الحياة الرمادية ليست إلا تشظيا حقيقيا في مشاعرنا المنهكة، كما هو الإعياء الخفي للموت المتربص بعاطفة امرأة، غادرها عشيقها ليلا مع امرأة أخرى، أو زوج تخونه امرأته مع صديقه العزيز، فتبدو عندنا الحياة لحظتها أكثر من حالة تشظي زجاجي لكأس من الكريستال . تذكرت أيام مراهقتي احد الأصدقاء من بين مجموعتنا كان معاديا للمدرسة والدروس وكل شيء يذكره بالدوام المدرسي، فقد كان يتمنى أن تنكسر رجله أو يديه لكي يمنحه الطبيب إجازة ! ولكن دورة الحياة غريبة فحينما زرته في المستشفى قابعا داخل ذلك الجبس، ذكّرته بحكايته فضحك : «هل ما زلت تذكر السالفة !! « فقال صحيح أن مدارسنا بدت لنا سجنا ولكن أن تحبس في هذا العالم الأبيض، فان عصا الأستاذ ارحم بمرات من آلام الكسور، ولكن مشكلتي إن كسور عواطف الخيانة ، لم اجمع شظاياها وقطعها المتناثرة حتى الآن ! لا أحد يستطيع رؤية الجبس الداخلي.
 
صحيفة الايام
8 مارس 2009