المنشور

هيئة التخطيط الاستراتيجي .. حاجة أم ترف؟


مرة أخرى تعاود الحكومة رفضها للمقترح النيابي الداعي  لتشكيل هيئة عليا للتخطيط الاستراتيجي، والذي سبق لمجلس النواب في الفصل التشريعي الأول  أن تقدم باقتراح تشكيلها عبر اقتراح تقدمت به كتلة النواب الديمقراطيين، والذي حظي  آنذاك بإجماع  مختلف الكتل النيابية، مما أعتبر مؤشرا عن الحاجة الماسة إليه، علاوة على  الإحساس  بحجم الفراغ الحاصل جراء ما يعتري العمل الحكومي من تخبط وإرباك وإضاعة للوقت وتكريس للبيروقراطية المعيقة لتوجهات التنمية، والتي كثيرا ما تطفو للسطح، لتضيع فيما بعد في دوامة فوضى التخطيط وخلط الأولويات، وبالتالي تعطيل وإعاقة مسار التنمية، ولتتحفز مجددا مؤشرات الفساد، وتتراكم نتيجة لذلك المصاعب أمام الدولة. 

  غريب أمرنا حقا، فكيف لنا أن نتحدث بزهو عن تجارب ناجحة للكثير من الدول المتقدمة، كسنغافورة أو ماليزيا على سبيل المثال، ونبدأ في تتبع نجاحاتهم، وهم الذين خططوا ودرسوا ونفّذو، ونرفض مجرد الحديث حول ضرورات التخطيط الاستراتيجي ومركزيته على مستوى دولتنا ومؤسساتها؟ وتتباهى جامعاتنا ومعاهدنا بتدريس مناهج وبرامج التخطيط الاستراتيجي، ويستمر الحديث حول مفاهيم الجودة والتمّيُز وزيادة الإنتاجية ومراقبة الأداء وتقليص الفساد والهدر في الموارد العامة والخاصة، وزيادة معدلات الشفافية والتوظيف الأمثل للموارد البشرية والمادية وغيرها! فجميعها مؤشرات ومفاهيم عصرية لا يمكن إهمالها في بناء الدول والمؤسسات.

وبالرغم من كل ذلك تبقى إرادة السلطة التنفيذية على مدى أكثر من ثلاثة عقود وتحديدا منذ انتهاء مرحلة الحماية البريطانية وتحقيق الاستقلال الوطني، وانتهاءاً بفصلين تشريعيين غير مقتنعة بأهمية التخطيط، ونراها تصر على إبقاء الأمر للوزارات والهيئات من دون نسق محدد، لتضيع بعدها جهود وميزانيات وكفاءات دون تحقيق أدنى استفادة، وهذا في حد ذاته وبمفهوم الإدارة الحديثة يعتبر فسادا إداريا وماليا أيضا.

ونظرا لغياب مفهوم وممارسات  التخطيط تضطر الدولة لإلغاء الكثير من المشاريع والخطط، كما تضطر باستمرار بتوجيه مؤسساتها ووزاراتها ومسئوليها بضرورة التعاون فيما بينهم، لتنفيذ أو استكمال مشاريع تعطلت بفعل غياب الخطط والبرامج أو حتى خلط الأولويات، وهذا بالضبط ما حصل منذ فترة وجيزة عندما  تأخرت بعض الوزارات في تقديم خططها وبرامجها التنفيذية، لتصدر توجيهات عليا للوزراء المعنيين بضرورة التعاون والالتزام.
 
واقع الحال يقول أن غياب التخطيط  قد كلف ويكلف الدولة عشرات إن لم نقل مئات الملايين سنويا، نتيجة كل تلك الفوضى المستحكمة والتي لا تخضع أبدا لآليات واضحة، وهي بكل صراحة خاضعة لعدة اعتبارات ليس اقلها اعتبارات المزاج الشخصي  للوزير أو المسئول المعني، وهي في أغلب الأحيان ليست ذات علاقة بأولويات التنمية ومصالح وأولويات الناس أيضا. 

 وإذا كان التفكير بالاقتداء بتجارب دولية وإقليمية ناجحة  وقريبة منا في هذا المجال، هو أمر وتوجه محمود يستحق الإشادة ، مكابر من يعترض عليه، فالأجدر بنا أخذ جوهر ومغزى تلك التجارب، وفهم ابعادها وكيفية بناءها لمقومات نجاحها قبل التفكير في استنساخها،  فهي بالمناسبة لدول نامية تتشابه وتتقاطع معنا في الكثير من الأمور، فتجربة مثل  التجربة السنغافورية تتشابه معنا في عدد السكان والمساحة الجغرافية وقلة الموارد والإمكانات وطبيعة الطقس وحتى تعدد الإثنيات والأعراق، تجعل منها التجربة الأنسب لنا ربما، ولكن يبقى التحدي الأكبر  أمامنا هو كيفية التخطيط لتوظيف مرامي تلك التجارب التي بقينا نتحدث عنها بما يشبه الحلم طيلة عقود طويلة ولم نعكس من نجاحاتها على واقعنا سوى القشور حتى الآن! 

فهناك فرق شاسع بين الحلم والرغبات المتوقدة وبين التعاطي بجدية وبعيدا عن الازدواجية في القرار أو التخبط والخلط في الأولويات، وذلك كثيرا ما يحدث لنا لأننا ببساطة نكابر في رفض مبدأ التخطيط الاستراتيجي في ألأساس.  فمتى نعي أن الأخذ بمبدأ التخطيط ليس مساً أو جنوناً أو رجس من عمل الشيطان، فالتجارب تؤكد مدى الحاجة إليه، واعلم أن هناك من يستحضر باستمرار تجربة دولة شقيقة هي الكويت التي لديها وزارة للتخطيط  منذ عقود، ليدلل على مدى الشلل والبيروقراطية الذي يعتري العمل الإداري الرسمي هناك، ولكن السؤال يبقى أليس بمقدورنا الاستفادة من تجارب ناجحة في دول عدة مثل سنغافوره والولايات المتحدة الأميركية وكوريا وماليزيا والصين وحتى من تجربة  الكويت إن كانت معيقة أو ناجحة، لنستخلص منها جميعا نموذجا بحرينيا بمقدوره أن ينجح، بل أن السؤال يبقى هل البديل الحالي هو غاية طموحنا كدولة ؟ أم أنه إعاقة لعملية التنمية برمتها؟ أسئلة كثيرة لابد أن تسأل وبإلحاح، بدلا من الاستمرار في المكابرة والتخبط وضياع الجهود والأولويات والموارد والكفاءات، وفي ظل زحمة التحديات من حولنا وعلى أكثر من مسار، تساؤلات عدة نتركها أمام المسئولين في الجانب الرسمي وبالتحديد لدى الحكومة ومجلس التنمية الاقتصادية بانتظار إجابات أكثر إقناعا، والتي تبدو مبررات الرفض  الرسمي حيالها حتى الآن غير مقبولة بكل تأكيد!