المنشور

أحمد الشملان .. التجربة في سياقهـا الإنسـاني


ربما كان كتاب فوزية مطر «أحمد الشملان، سيرة مناضل وتاريخ وطن» (أكثر من 1024 صفحة)، هو الجهد (الفردي) المميز، حتى الآن، في حقل التسجيل الميداني لتاريخ النضال السياسي في البحرين، فقد بذلت السيدة فوزية مطر  (وحدها) السنوات الأربع الأخيرة في إنجاز مشروع على قدر كبير من الصعوبة. ويحق لنا الشعور بامتنان صادق إزاء جهدها النادر، ونحن نقرأ تاريخاً قريباً يستعاد بأسلوب وثائقي طريف وفذ، تاريخ منظورٌ إليه من وجهات نظر عدة، تختلف على أشياء كثيرة لتتفق على شخصية الكتاب موضوع البحث، وهو أحمد الشملان بتجربته النضالية في سياقها الوطني الإنساني الرحب. لكي نتعرف على ما يمكن اعتبارها الخميرة النوعية لما يفترض أننا ( نتمرغ) الآن في معطياته (الديمقراطية)، التي يجري تداول مفرداتها، كما لو أنها من مكرمات الساحر، مغفولاً عن القدر الأكبر من التضحيات العظيمة التي بذلتها الأجيال الحديثة طيلة القرن العشرين الماضي. أقول «ربما»، لكي أشير إلى مساع عدة (فردية، جماعية، ومؤسسية) أعلنت، حسب علمنا، عن نيتها كتابة تاريخ الحركة السياسية، منذ سنوات، وهي لا تزال تتعثر في رفوف وإدراج وأذهان أصحابها، لا تتحقق لأسباب مختلفة، لتأتي فوزية مطر، وبدوافع الحسّ التاريخي، متداخلاً مع رغبة أداء التحية الشخصية الحميمة لأحمد الشملان، فتلقي ضوءاً بالغ السطوع، (سبراً وجرأة وإنصافاً)، على مرحلة تاريخية غنية ومتنوعة من تجربة قدمت فيها القوى الشعبية ما لا يحصى من التضحيات، في سبيل ما يمكن وصفه بتحقيق حلم التحولات الاجتماعية والسياسية في هذه المنطقة الأصغر من العالم.

2
وقد أحسنت المؤلفة صنعاً بتمهيدها بمقدمة تاريخية جزلة عن عائلة صاحب السيرة، حيث تعرفنا، للمرة الأولى، على بعض المعلومات التاريخية لعائلة الشملان ليس بوصفها معيناً لعدد مهم من الشخصيات النضالية التي ساهمت بقوة في التاريخ السياسي في البحرين، ولكن أيضاً لكون هذه العائلة كانت شريكاً مؤسساً لنشوء البحرين الحديثة بشكل من الأشكال، اجتماعياً، علمياً، وحضارياً.
كما أن التقسيم الذي اتبعته المؤلفة في فصول الكتاب كان موفقاً من الناحية التقنية، وكان دليلاً للمنهج المتماسك الذي اشتغلت على هديه المؤلفة، وبالتالي سيكون سلسا وممتعاً بالنسبة إلى القارئ الذي سيشعر بالترابط الأليف وهو يبحر في مئات الصفحات المكتنزة بالمعلومات، المشاعر، والاحتدام الإنساني.
والتقسيم نفسه أيضاً، كان أميناً بتوفير السياقات الدقيقة لرصد للدور الغني والبالغ التنوع، الذي بذله أحمد الشملان في شتى مراحل نضاله، وعندما أسهبت المؤلفة في ثنايا بعض الفصول، إنما كانت لتشبع البعد التاريخي لهذا الحدث أو ذاك، وظني أن في معظم هذه الاستطرادات جاء الكتاب موفقاً في إلقاء ضوء وتناول جديدين على بعض التجارب الملتبسة، التي ستحتاج المزيد من البحث والتقصي والدراسة من قبل الآخرين، يظل لفوزية مطر فضل التوقف الرصين عندها.
والجدير بالتفات القارئ أن بناء الكتاب بمجمله كان بناءً حيوياً ذكياً، ذكاء من يدرك طبيعة المادة التاريخية الخام التي بين يديه، ويحسن نسجها وتقميشها ثم إعادة خلقها بين فصل والآخر، لكي تسهم، من زوايا مختلفة وفي مرات مختلفة، في إضاءة الوقائع. وبهذا تكون فوزية مطر قد وضعت التجربة الفردية، الذاتية، الشخصية، تحت إضاءات مختلفة لإنارة تجربة أكثر شمولاً، عمومية، واتساعاً. وفي هذا العمل ضرب من «الوعي العادل»، إذا صح التعبير، في النظر إلى التاريخ العام، من دون التقليل من أدوار الأفراد الذين ساهموا في صياغته. كل ذلك بأسلوب يفيض عاطفة وحميمية.

3
ويتوجب أن نشير إلى تلك المشاهد الحميمة الفياضة بالعاطفة التي ميزت بعض المواقف في سرد الكاتبة، ليس فقط في معرض كلامها عن التجربة الشخصية في علاقتها بصاحب السيرة باعتباره حبيباً، رفيقاً، وزوجاً، وهذا بين أهم وأسمى ما تستدعيه طبيعة هذا المؤلف، ولكن ستتجلى العاطفة الفياضة والصادقة عندما يأتي الكلام عن التجارب الإنسانية التي تنشأ في تلافيف العمل النضالي والحزبي، حيث نكتشف العمق الإنساني الحميم الذي يتفجر، بأشكال مختلفة النوع والدرجة، بين رفاق ورفيقات يجدون كياناتهم الحقيقية في مثل هذه اللحظات الذي تشكل المعطى الكوني للنضال. ومن يعرف المؤلفة سيثق بأنها كانت على سجيتها الخالصة وهي تصوغ جملها برهافة ورفق حنونين، معبرة عن أن اكتشافها في تجربة أحمد الشملان النموذج الجميل، لما يمكن أن يتكرر في صيغ وتفاصيل لا تحصى بين المئات من الأشخاص وهم يخوضون نضالاتهم، سعياً لصنع العدل والخير والجمال لشعبهم ووطنهم. والحق أنني شعرت بالكثير من أنامل أشخاص أعرفهم جيدا، وقدمهم الكتاب بحنان بالغ، وهم يشتركون مع فوزية مطر وأحمد الشملان، بمختلف مراحل تجاربهما، لنسج تلك الملامح والمشاعر والعلاقات التي تصقل الروح الإنسانية الأكثر جمالاً وبقاء في أشكال الفعل السياسي والأيديولوجي كافة.

4
من بين معاني الإنصاف التي أعنيها – (في غمرة ما يطلع علينا به كثيرون في منشورات رائجة الآن في سنوات «السهل المنبسط الراهن»، يستعرضون تجاربهم بأنفسهم وعن ذواتهم بضعف وبؤس يستدران الشفقة) – أعني إنصاف التجارب الصامتة، (وليس مثل الصمت الأخير لأحمد الشملان نموذجاً صارخ الدلالة)، والمسكوت عنها، (من دون أن يكون السكوت ذهباً هذه المرة). وهو إنصاف يليق بأحمد الشملان الذي اجتاز الدرس الأكثر ضراوة في تجربته النضالية، من دون أن يعلن عن ذلك ومن دون أن يباهي أيضاً. وظني أنه الآن سيطمئن قرير العين والقلب وهو يرى تجربته ماثلة في تدوين شامل وصادق مثلما صنعت زوجته أم خالد، وبشهادة الرفاق الأمناء على التجربة.

5
يذكر أيضاً أن الكتاب يقدم لنا أحمد الشملان منذ طفولته، وهي طفولة تشبه طفولة الآلاف من أجيالنا، لكنها ستأخذ مسارات تختلف عن الكثير من مسارات الآخرين، ومن دون أن تشبهها مآلات الكثير من سير المناضلين المعاصرين له. وهنا بالضبط ما ينبغي أن نتوقف لكي نتلمس التجاعيد والتفاصيل الإنسانية الحميمة التي ستميز حياة أحمد الشملان، حيث سيشهد كل من عايشه عن كثب، بأن ملامح خاصة ستجعله شخصية على قدر كبير من الرهافة والشفافية، ربما لا تشي بها طبيعته وظاهره الصارمين لأول وهلة. وسيرصد الكتاب مسيرته في مناطق عدة من الوطن العربي، عبر مرحلة الدراسة والمرحلة الظفارية في عمان، منذ حركة القوميين العرب حتى جبهة التحرير مروراً بتجربته الأهم في الحركة الثورية والجبهة الشعبية. ثم العمل العلني في تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد مع ما عرف بلجنة العريضة.

6
في كتاب فوزية مطر، سنتعرف على أهم المفاصل المعاصرة لتحولات النضال السياسي من خلال الجبهتين الأبرز في حقل العمل السياسي، في فترات العنفوان والإخفاقات الشاملة لنضالهما، بقدر كبير من السرد الرصين. وباللغة الخالية من الركاكة، فكراً وتعبيراً. وسنعرف أحمد الشملان مناضلاً من خلال شهادات رفاقه في مسيرة الخمسين سنة الأخيرة. وهو الذي امتحن النضال في الحركتين (الجبهة الشعبية وجبهة التحرير)، ليعيش فترات الانتعاش والإحباط، من دون أن يستسلم، ومن دون أن يكفّ عن التشبث بما يؤمن، وهو الذي نال ما لا يقاس من العذابات، ليس أقلها الإصابة العنيفة بجلطة الدماغ التي يقاومها ببسالة نادرة. تلك هي طبيعة أحمد الشملان الإنسانية، صرامة الشخصية، مهابة السمت، رهافة الروح، والإصرار على المواقف. وليس من غير دلالة أن يكون (حازم العاصي) هو الاسم المستعار الذي اختاره أحمد الشملان في إحدى مراحل كتابته النضالية.

7
وإذا جاز لنا تحية السيدة فوزية مطر على هذا الإنجاز الحيوي، جديد الشكل والمضمون، في باب التأليف السياسي عندنا، سوف نقصر عن التعبير عن شعورنا العميق بالتقدير لها وهي تجعلنا نقرأ تاريخاً مازال ماثلاً، أخذنا منه الدروس في عنفوانه، ونتحمل مسؤولية تاريخية في الفشل والإخفاقات التي كنا جزءاً منها، ونؤكد أن في الكتاب، بالقدر الكبير من المعلومات والشهادات التي قدمها، مزجاُ سلساً بين التجربة الفردية لأحمد الشملان ومفاصل المشاهد المتتابعة من تجارب حركتي النضال التي اجتاز الشملان لحظات الأمل واليأس فيهما، لكي يعطينا الكتاب في نهاية الأمر جرعة قوية من ضرورة قراءة التاريخ، ليس فقط للذين يباهون بالماضي، لكن خصوصا لمن يزعمون صناعة المستقبل وتاريخه. فمن لا يتقن قراءة التاريخ لن يحسن كتابته.
وحتى إذا اختلف البعض مع بعض منهجيات الكتاب، فسيكون هذا دليل عافية معرفية، من شأنها أن تغني إنعاش عضلات الأمل في الفكروالعمل.
ويحسب لفوزية مطر، التي وضعت كل خبرتها العلمية والعملية في تحقيق هذا الكتاب، أنها تصدر في كتابها عن وعي بخطورة ما تفعل، ولعل في صنيعها المميز كانت تتحرك بدرجة الحذر القصوى، بلا إفراط ولا تفريط. فقد كمنت أهمية كتابها خصوصاً في كونه لا يزعم أنه يقدم الحقيقة كاملة في حقل بحثه، حتى لكأننا نلاحظ أحياناً أن هناك وجوه لحقيقة واحدة بعدد الشهادات، ففي ثنايا مثل هذه البحوث ستبدو لنا حقائق كثيرة غير مكتملة، ومتقاطعة مع معظم المسارد والشهادات التي تظل إسهاماً فردياً في موضوع جماعي. ولعل ما يشوب بعض تلك الشهادات التماهي بين آليات التسجيل في دور الشهادة التوثيقي، فيختلط على بعضهم الفرق بين الشهود والقضاة. فحين يرتفع حماس الشاهد سرعان ما يتقمص دور القاضي (قصداً أو عفواً)، الأمر الذي سيدفع المؤلفة لتبدأ عملها الرصين بوضع الشهادة في سياق آخر يمنحها قدراً من المصداقية. والحق أن الجهد الذي بذلته الكاتبة في تسجيل وتفريغ وصوغ الشهادات، ثم إعادة بنائها، هو جهدٌ منح أكثر الشهادات خفّة وجهاً قادراً على بذل المعلومة في مكانها الصحيح. ليشكل الكتاب، في نهاية التحليل، أحد أهم اللبنات التأسيسية في مجاله. ليحق لنا القول أننا لم نتعرف في الكتاب على سيرة أحمد الشملان فحسب، ولكننا أبحرنا في سياقات نضالية شاملة وقراءة ملامح متفاوتة من تجربته.

8
حتى إذا طاب للبعض، ممن شهدوا (بكلامهم) في الكتاب، أن يبالغوا، ببعض الحماس، في إظهار بطولات شخصية، فإن هذا سيكون دائماً من باب لزوم ما لا يلزم، لكننا نتفهمه ونستوعبه، ما دام سيسهم في إيقاظ ذاكرة الآخرين، لاستعادة الأحداث ووضعها في السياقات المناسبة بين وقت وآخر. فيجوز للبعض أن يكون موجوداً إذا تعلق الأمر بتأكيد أدوار الآخرين، خصوصاً عندما لا يزال هؤلاء أحياء يشهدون.
فالتاريخ، حتى عندما يسهم في صناعته الأفراد، فهو ليس ملكاً شخصياً لأحد، لكنه مسؤولية حضارية للجميع. والملامح التي يقدمها كتاب فوزية مطر عن تجربة أحمد الشملان في تاريخ وطنه، هي بمثابة ضوء القناديل الصارمة التي تساعدنا على الثقة بأن ثمة تاريخاً مازال ماثلاً يتوجب عدم تغييبه، وعدم ترك غيرنا يتجاوزه، والأهم، ضرورة تدريب الذاكرة على استحضاره بوصفه دروساً للسجال الفكري، وليس باعتباره طوطماً محصناً لا يأتيه الباطل من أي مكان، ولا هو أوسمة للمباهاة. 
واستطراداً، يمكن القول بأن مثل هذه الالتفاتات الشعبية العميقة والرصينة والصادقة، هي نموذجٌ مدهشٌ للعدالة والإنصاف، تحمي تاريخ النضال من مثالب المساعي الخائبة لتعويض الضحايا «المستمرة» للعنف والعسف من أية جهة كانت.

9
المفاجأة الأدبية التي أسعدتني شخصياً، تمثلت في الأسلوب الطيع السلس الذي كتبت به فوزية مطر فصول كتابها، حيث جاءت لغة الكتاب في أسلوب أدبي تميز بالجزالة والرصانة وقوة الجملة وبساطتها في آن، حيث استطاعت فوزية أن تتفادى الثرثرة والمبالغات في متن كتابها، تلك المبالغات الحماسية التي ربما شابت بعض شهادات الكتاب، والتي كانت المؤلفة مضطرة لنشرها تمسكاً بأمانة الوثيقة، غير أننا نتفهم مثل هذه المبالغات الشخصية في بعض تلك الشهادات، عندما نعرف السياقات السياسية التي تشكل الخلفيات الواقعية لأصحاب هذه الشهادات، فمن حق كل شخص أن يبوح بكوامنه المكبوتة، رجاة أن يبلور هذا فهمه للتجربة، من دون أن يغفل عن محاذير التداخل الرهيف بين حدود تاريخه الشخصي وتخوم التاريخ الجماعي الذي يتعلق بالتجربة المتصلة بعشرات ومئات الشركاء في هذه التجربة أو تلك.

10
من بين ما يظهره الكتاب، أيضاً، عبر السرد والشهادات، تلك التضحيات الدورية التي كانت القوى الوطنية تقدماها بين حقبة وأخرى، في سبيل وضع الشمس في أفق هذا البلد، وإن كان كثير من هذه التجارب يتوالى بقدر نادر من استخلاص الدروس، غير أن هذا لم يكن يقلل من صدق وإخلاص الأجيال وهي تتقدم نحو ذلك الأفق، بكثير من الأخطاء، لكن بقدر كبير من الوعي بطبيعة النضال سعياً نحو المجتمع الحديث، في واقع شديد التخلف والتعقيد.
كما ستتجلى في هذا المشهد كيف أن سلطة بهذه الضراوة كانت على استعداد (دوري هي الأخرى) للفتك والتنكيل بزهرة الشباب تحت طائلة حجة حماية الأمن في مواجهة شعب أعزل. وفي هذا يكمن أخطر ما يقترح علينا تأمله هذا الكتاب.

11
هذا كتاب سيكون مهماً لمختلف فئات القراء، وتنوع منازعهم، في حقول السياسة والتاريخ والاجتماع والثقافة، وخصوصاً دراسة الكائن في التجربة الإنسانية: النظر والممارسة.
وبطبيعة الحال هو كتابٌ قد يفزع من أوشكتْ ذاكرتهم على العطب، أو الذين يرغبون في المحو والنسيان. المنهمكون الجدد في الشاغل السياسي، الجادون منهم خصوصاً، وهم يصوغون رؤاهم الجديدة للراهن والمستقبل، سوف تعني لهم وتهمهم قراءة هذا الكتاب كثيراً، لمعرفة تجربة أحمد الشملان وجيله، على أن يأخذوا الدرس من دون نفي الأستاذ.

12
كنتُ من بين الذين حالفهم الحظ في قراءة الكتاب مبكراً، شاكراً للصديقة، فوزية مطر، عنايتها الكريمة، (وكنت عن كثبٍ من دأبها النادر) وهي تسهر على تحقيق ما عجزتْ، أو تأخرتْ، عنه المؤسسات والجمعيات والقوى السياسية ومراكز الدراسات الراهنة.
حيث كان حرياً أن نعتني بدراسة وتأمل هذه التجارب، واستنباط دروس الضرورة التاريخية: (لتعدد الرؤية ووحدة النضال)، بدل الانشغال بما يهمش التجارب ويضعف السعي ويكبح الأحلام وينعش الوهم.
 
الوقت 6 نوفمبر 2009