المنشور

حقوق الإنسان العربي والإفلات من العقاب

مع ان تقرير المحقق الدولي جولدستون حول جرائم الحرب العدوانية الفاشية العنصرية الصهيونية على السكان الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزة خلال العام الماضي نجح نجاحا معقولا في رصد اهم جرائم تلك الحرب حتى بالرغم من اضطراره الى توخي قدر من التوازن في لغة التقرير بحكم موقع – جولدستون – الدولي الحساس الدقيق وتبعيته لمنظمة دولية تحكم قراراتها التوازنات والاعتبارات الدولية، ناهيك عن تأثير القوى الكبرى في آليات صنع تلك القرارات وعلى رأسها الولايات المتحدة، فان أكثر ما تميز به في هذا النجاح عن غيره من تقارير حقوق الانسان الدولية المختلفة، ان صح التقدير، يتمثل في وضع يده على ظاهرة بالغة الأهمية والخطورة ولطالما، على الأرجح، غفلت عنها تلك التقارير الدولية، ألا هي ظاهرة افلات المجرم من العقاب على جرائمه وهو هنا السلطة العنصرية الصهيونية المتمثلة في قيادة وحكومة الدولة العبرية اليهودية.
ولا شك ان اهمية التشديد على خطورة هذه المسألة في تقارير حقوق الانسان العالمية تتجلى في تذكير المجتمع الدولي أو افهامه ضمنيا بوضوح بعبثية اعمال لجان التحقيق والتقارير الصادرة عن منظمات حقوق الانسان طالما ان الانتهاكات والجرائم الفظة التي ترتكبها اي سلطة في اي دولة من دول العالم هي في مأمن من العقاب او المحاسبة، وهذا بالضبط ما يشجعها على التمادي في ارتكاب المزيد منها طالما انها أمنت العقوبة بل حتى المحاسبة المعنوية اللفظية، والاهم من ذلك فإن المجتمع الدولي وعلى وجه التحديد مختلف منظماته المعنية بحقوق الانسان سيجد نفسه مضطرا، سنويا عاما بعد عام وعقدا اثر عقد، يجتر تشكيل لجان التحقيق واصدار القرارات المنددة بانتهاكات حقوق الانسان من دون تقدم ملموس جوهري اللهم تقدما طفيفا في احسن الاحوال.
بهذا المعنى فإن الرسالة التي تنشدها منظمات حقوق الانسان في العالم لا ينبغي ان تقتصر على رصد مظاهر وحالات انتهاكات حقوق الانسان في العالم أو التحقيق فيها ومن ثم التنديد بها فحسب، على الرغم مما لهذه الاجراءات من اهمية في فضح وتعرية المجرم وهتك الستار الحديدي الذي يتوهم بقدرته على حجب جرائمه، بل التنديد بكل قوة بالجهات الدولية التي تمكنه وتوازره للإفلات من العقوبات.
وغني عن القول ان اسرائيل ما كانت لترتكب كل الجرائم التي ارتكبتها بحق ابناء الشعب الفلسطيني ناهيك عن جرائم الحرب التي ارتكبتها خلال حروبها العدوانية على دول الطوق العربية، وعلى الأخص لبنان، ومن ثم تماديها باطراد في تلك الجرائم عددا ووحشية لولا انها في مأمن حصين محصن من العقاب، وقد عجز العرب وكل المجتمع الدولي عن اختراق ذلك الحصن المنيع الجبار منذ تأسيسها وانضمامها الى المنظمة الدولية قبل 60 عاما ونيفا.
ولا نكشف سرا بأن اسرائيل وان كانت في مقدمة دول العالم المتحصنة جيدا من ان يطولها العقاب على جرائمها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان فإنها ليست الدولة الوحيدة على الساحة الدولية الفالتة من وجه العدالة وقبضة القانون والجزاء العادل، بل جل او كل دول العالم المتورطة في جرائم وانتهاكات لحقوق الانسان، وما تماديها هي الاخرى في هذه الانتهاكات والامعان في ممارستها بكل حرية وعلى نحو متزايد واكثر وحشية عاما اثر عام منذ عقود الا بفضل نجاحها في الافلات من العقاب.
وعلى الارجح فإن إعراب تقرير حقوق الانسان العربي الذي اصدره مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان تحت عنوان “واحة الإفلات من المحاسبة والعقاب” وإعرابه عن قلقه البالغ من تفاقم هذه الظاهرة انما جاء من وحي ما ابداه مسبقا تقرير جولدستون من اهتمام بهذه المسألة وذلك لما لهذه الظاهرة من تأثير خطر في تفاقم الجرائم التي ترتكبها الانظمة الشمولية والعنصرية والاستبدادية بحقوق الانسان، ومن ثم عدم اكتراثها البتة بتحقيقات وتقارير حقوق الانسان المكتفية بالتنديد من دون القدرة على ان تذهب ابعد من ذلك.
وصفوة القول ان الحد من ظاهرة الافلات من العقاب بحاجة الى جبهة عالمية لمجابهة القوى التي تمكن اسرائيل والانظمة الدكتاتورية من ذلك الافلات، والضغط عليها لشل قدرتها على مساعدة تلك الانظمة، وهذا بحاجة الى نضال تراكمي أممي عنيد وصعب من رص الصفوف وتضافر الجهود من قبل كل القوى الشريفة والمؤيدة لحقوق الانسان على مختلف الأصعدة المحلية والاقليمية والدولية، ومن دون ذلك ستظل ظاهرة الافلات من العقاب مرجأة الى اجل طويل غير معلوم والأخطر من ذلك فإن الانتهاكات ستستمر بوحشية وتفاقم.

14 يناير 2010
صحيفة اخبار الخليج