المنشور

الاستقواء بالمراجع الدينية في الخارج

عرفت البحرين قبل بضعة قرون بريادتها في بروز كبار المرجعيات الدينية الفقهية الشيعية العربية من بين ابنائها الذين كانوا مرجعية ليس لأهل المذهب الجعفري بالبحرين فقط بل بعدد من بلدان المنطقة، دار الزمن دورة تاريخية كاملة وتبدلت الاحوال والظروف السياسية والاجتماعية والدينية، فأضحت البحرين تفتقر إلى كبار المراجع الدينية الفقهية الشيعية المعروفين بتبحرهم الفقهي والفلسفي والأدبي الذي كان عليه اسلافهم المراجع في العصور الخوالي، وزاد من الطين بلة انغماس معظم الرموز المؤهلة لمثل هذين الريادة والتبوؤ في التراتبية الفقهية في الانشطة والحركات السياسية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بوجه خاص وبعد انتصار الثورة الإيرانية بزعامة المرجع الديني آية الله العظمى الامام الخميني.
وشاءت الظروف الجديدة التي أوجدها ذلك الانتصار أن يكون عدد من المراجع الفقهية ممن يمتلكون تبحرا في الفقه أو الشريعة هم في الوقت ذاته يمتلكون قدرا من “الكاريزما” السياسية والدينية معا: (الخميني، محمد حسين فضل الله، الامام الخوئي، مطهري، حائري، بهشتي، محمد باقر الصدر – قبل استشهاده -، محمد صادق الصدر… إلخ).
وفي ظل خلو الساحة السياسية الشيعية المحلية من مراجع كبار لهم شعبيتهم المشهود بها في الداخل والخارج دينيا وسياسيا، هيمنت على هذه الساحة المرجعية الدينية السياسية الرسمية للنظام الإيراني التي كان يمثلها الامام الراحل الخميني على امتداد عشر سنوات (1979 – 1989)، ومن بعده خلفه مرشد الثورة الحالي الامام خامنئي وان بدرجة كاريزمية أقل.
وبعد سقوط النظام السابق في العراق وجد المرجع الديني المستقل السيد علي السيستاني الذي لم يعرف عنه قبلا انغماسه في الانشطة السياسية والمعروف عنه معارضته لنظرية ولاية الفقيه.. وجد نفسه في الظروف الجديدة مضطرا إلى لعب دور سياسي حذر ازاء ظروف واوضاع العراق الجديدة الدقيقة المعقدة تحت الاحتلال الأمريكي وتفجر أعمال العنف الطائفية المتواصلة يوميا، لكن من أسف كثيرا ما يتم اقحامه للإفتاء في شئون وقضايا محلية بحرينية عادية ليست اشكالية وذات طابع سياسي فحسب بل ليست بحاجة إلى الإفتاء أصلا من الخارج، على اعتبار ان أهل البحرين أدرى بشعابها. وهذا الاقحام غالبا ما يتم للأسف بغرض ترجيح وجهة نظر طرف من قوى الاسلام السياسية المحلية على طرف آخر، بحكم ما يتمتع به السيستاني من احترام وشعبية دينية طاغية في الشارع الديني الشيعي المحلي. فكأنما هذه القوى أو الاطراف المستعينة به سياسيا عاجزة عن استنباط وتقرير الاحكام السياسية العقلانية بنفسها لتقرير الموقف الصحيح فيما يتعلق بشئون وأوضاع وظروف بلادهم الداخلية السياسية ومن ثم لا تستطيع استنباطها إلا بمساعدة المراجع الدينيين الكبار في الخارج، كأن هؤلاء هم الأقدر على معرفة احوال وظروف شيعة البحرين السياسية المتغيرة من مراجعها وقياداتها السياسية المحلية، حتى لو لم يكن من بينهم مراجع كبار، لكأنما هذا الشيخ الجليل المسن القابع في صومعته العلمية والحوزوية في النجف خلا من كل المشاكل والقضايا الدينية والسياسية والاجتماعية الكبرى الجمة البالغة التعقيد التي يفيض بها عراق اليوم الواقع تحت الاحتلال الامريكي والغارق في بحر من الدماء ولم يتبق للشيخ الجليل المسن الوقور الامام السيستاني بعدما فرغ من كل تلك المشاكل سوى النظر والفصل في ادق تفاصيل قضايا وانشقاقات شيعة جزيرة البحرين السياسية المحلية الداخلية.
ولما كان الامام السيستاني يقيم في العراق ومعروفا بمواقفه العقلانية المعتدلة فقد أصبحت الحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى لإبعاد شبهة التبعية لإيران، ولاسيما ان المرجعية الإيرانية الموثوق بها هي في الوقت نفسه تقود دولة كبرى بحجم إيران لها سياساتها المثيرة للجدل والانقسامات على الساحتين الاقليمية والدولية.
وهكذا بات واضحا ان الامام السيستاني انما يستعان به في الغالب لتقوية أو ترجيح وجهة نظر طرف أو فريق من اطراف وقوى الاسلام السياسي الشيعي البحريني على موقف أو وجهة نظر طرف آخر أو أكثر. الأمثلة على ذلك عديدة وواضحة وضوح الشمس وذلك منذ بروز نجم السيستاني بُعيد سقوط نظام البعث في العراق.. ولعل آخر مثال على ذلك ما أعلنه مؤخرا الاستاذ عبدالوهاب حسين بأن السيستاني يؤيد ويبارك الجهود المبذولة لتشكيل الهيئة المشتركة التي تضم الرموز الاساسية العلمائية والسياسية مبينا ما يراه بما يحيط نصيحته – السيستاني – بالمشاركة في انتخابات عام 2006 من التباسات بما مؤداه ان السيستاني لم يؤيد المشاركة في الانتخابات البرلمانية في البحرين تحديدا، وانما – والكلام لعبدالوهاب – للمشاركة الانتخابية في كل البلدان الاسلامية مع مراعاة ان لكل منها استثناء من ذلك، حسب الظروف الموضوعية، بمعنى تجويز المقاطعة إذا ما رأى أهلها ذلك، وان السيستاني يحترم المشاركين والمقاطعين في البحرين، وان القرار متروك لثلاث شرائح: علماء الدين، المثقفين، ذوي الخبرة السياسية.
والسؤال هنا – ومع احترامنا الكامل للأستاذ حسين – إذا كان يقر بأن الامام السيستاني يرى ان قرار المقاطعة أو المشاركة متروك لأبناء البلد انفسهم، وانه – السيستاني – يقف على مسافة واحدة من الفريقين: المقاطع والمشارك، فلماذا إذًا يتم اللجوء إليه لدعم ما يعرف بمشروع “الهيئة المشتركة العلمائية السياسية” التي يفهم ويستخلص من تصريح الاستاذ حسين انها مشروع اصطفاف جديد لمقاطعة الانتخابات المقبلة باسم توحيد قوى المعارضة؟
من حق كل الجهات والقوى الدينية ان تستفتي وأن تتبع من تشاء في الخارج في الشئون الدينية والعَقَدية والمذهبية الخاصة بها.. لكن نرى بأنه آن الاوان ان تحترم قوانا الدينية السياسية الشيعية رغبة المراجع الكبار الخجول في الخارج في النأي بأنفسهم عن غسيلنا المحلي وتقرير شؤونها السياسية الداخلية لنفسها، وان ترحم هؤلاء المراجع الكبار وعدم زجهم سياسيا في كل شاردة وواردة.. ويكفيهم ما عندهم.

صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2010