المنشور

عن جلسة تحقير السفير التركي

كان السيناريو الذي أعده نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني ايلون لإهانة وتحقير السفير التركي في تل أبيب أحمد ارغوز والذي نفذ باتقان باهر داخل مبنى البرلمان الإسرائيلي ليس له مثيل من الفظاظة والوضاعة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية المعاصرة، على الأقل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وقيام النظام الدولي الثنائي القطبية السابق.
فلقد نجح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي وطاقم مساعديه الذين حضروا جلسة تحقير السفير التركي وتعذيبه نفسيا في ضرب رقم قياسي عالمي على مدى الفظاظة والوقاحة اللتين مارسوهما لتحقير السفير سواء بصفته الشخصية أم بصفته التمثيلية كممثل لدولة مستقلة ذات سيادة وكرامة وهيبة دبلوماسية مفترضة، وكممثل أيضا لشعب الدولة ذاتها. ولا أظن أن أبرع المخرجين السينمائيين عالميا سيتمكن من بز مساعد وزير الخارجية الاسرائيلي ايلون في مستوى اخراجه “الرائع” للسيناريو الذي أعده سلفا لو أراد تقمص وتمثيل المشهد المقزز المؤلم للسفير التركي ودولته وشعبه، وهو المشهد الذي أتحفنا به الوزير الاسرائيلي، الذي لحماقته وغبائه، أمعن في طلب مصوري التلفزة المحلية والصحفيين لحضور الجلسة وليشاهد العالم كله تلفزيونيا مشهد عظمته في ممارسة العجرفة والصلافة في جلسة استدعاء السفير وتحقيره أمام مرأى العالم بأسره وبدم بارد من دون ان يرف له جفن وهو يفعل ذلك.
ويمكن أن نسجل أبرز مظاهر تحقير واهانة السفير بصفته الشخصية الانسانية وبصفته التمثيلية الدبلوماسية معا فيما يلي:
1- أُوقف السفير التركي في رواق خارج مكتب الوزير ايلون بمبنى البرلمان “الكنيست” وفرض عليه الانتظار وقوفاً طويلا بأن تأخر ايلون في استقباله متأخرا كثيرا عن الموعد المضروب ومن دون اعتذار لاحق. والغريب انه لم يحتج احد من النواب بفعله ذلك داخل مبنى مجلسهم.
2- قام نائب وزير الخارجية الإسرائيلي بمنع موظفي الخدمات والتنظيف في مبنى البرلمان – كعادتهم مع أي ضيف – من تقديم له أي كأس ماء أو مرطبات أو قهوة أو شاي، سواء في فترة انتظاره بالرواق خارج المكتب ام اثناء جلسة الاستقبال التحقيرية التاريخية.
3- تعمد بطل المسرحية ذاته نائب الوزير ايلون عدم مصافحة السفير التركي لا عند الدخول ولا عند الخروج من المكتب بعدئذ.
4- تعمّد نائب وزير الخارجية الإسرائيلي وضع علم بلاده وتغييب علم تركيا التي ينتمي إليها ويمثلها السفير الموبخ.
5- إلى جانب كل ما تقدم وفي مشهد مثير للتقزز عمد ايلون إلى جلب كرسي وضيع هابط يجلس عليه السفير بينما جلس وموظفوه على كرسي فخم مرتفع وليصوب إليه في الوقت نفسه نظراته الحادة الحاقدة من عل.
6- ظل نائب الوزير الإسرائيلي وموظفوه طوال جلسة جلد السفير التركي نفسيا متجهمي الوجوه ويتناوبون النظرات التحقيرية له شذرا مذرا.
وقد أسهم تسامح السفير مع كل تلك الإهانات المتقدم ذكرها، فضلا عما بدا عليه من بنية جسمانية نحيفة ومن ارتباك واضح، فضلا عن محياه البريء، كل ذلك أسهم في اظهاره بمظهر المتهم “المسكين” الذي يستعطف قضاته أو المحققين ويستميت لاثبات براءته امامهم، وهو ما أضفى على الاخراج والاداء اللذين برع فيهما نائب الوزير الإسرائيلي امتيازا على امتياز في نجاح مسرحيته.
ولم يكن موضوع التحقيق الذي جرى مع السفير والذي تم خلاله تقريعه أشد تقريع وتحقيره اشد تحقير سوى الاحتجاج على بث مسلسل تلفزيوني في احدى القنوات التركية المستقلة يظهر فيه رجل مافيا يهودي يخطف طفلا ويقتل عددا من أفراد عائلته، وبذل السفير التركي المهزأ كل ما يملك من وسائل وجهود اقناعية لإثبات ان المسلسل لا يمثل وجهة نظر الحكومة التركية باعتباره يبث من قناة مستقلة في دولة ديمقراطية غير شمولية، وانه عمل فني يحتمل اكثر من معنى واكثر من تفسير، وان اليهودي في المسلسل ليس وحده فقط الذي ظهر فيه بمظهر سلبي، فهناك شخصيات اخرى في المسلسل مثلوا ادوارا سلبية كرجال مافيا من ايطاليا وأمريكا وفرنسا ولم تحتج هذه الدول، ومع ذلك لم تنفع كل هذه الحجج، فأنهى ايلون اللقاء سريعا مكفهر الوجه من دون أن يتيح المزيد من الحوار حول الموضوع، ومثلما امتنع عن مصافحة السفير عند استقباله احجم عن ذلك عند مغادرته المكتب.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا يا ترى سيكون رد فعل أي دولة يتعرض فيها سفيرها لمثل كل تلك الاهانات والتحقيرات المتعددة بالصفتين الشخصية والتمثيلية؟ أليس ابسط مقتضيات رد الفعل لأي دولة تحترم نفسها وشعبها، وتحترم شخصية سفيرها، ان تقدم على قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ذلك المسؤول الإسرائيلي الجلف؟ أو على الأقل استدعاء سفيرها فورا من دون ابطاء؟
ومع ذلك فإن الخطوة التي اتخذتها انقرة بطلب اعتذار رسمي من إسرائيل في غضون 12 ساعة وإلا سحبت سفيرها المحقّر، وهو ما انصاعت له إسرائيل صاغرة وان كانت خطوة كهذه تبدو أقل من الرد المطلوب لرد الاعتبار للكرامة الوطنية والانسانية التركية المستباحة، إلا انها أثارت ارتياحا عارما لدى العرب وبضمنهم دعاة عدم اقامة أي علاقات بين الدول العربية والاسلامية مع اسرائيل.
لكن يظل السؤال المقابل أيضا:هل لو فعل ما فعله نائب وزير الخارجية الإسرائيلي ذاته مع أي سفير عربي من سفراء الدول المطبعة مع اسرائيل ستقدم دولته العربية على توجيه مثل ذلك الانذار التركي الحازم؟ نشك في ذلك وبخاصة إذا ما تذكرنا جيدا كيف قامت اسرائيل بارتكاب واحدة من أكبر وابشع مجازرها بحق الفلسطينيين في غزة على امتداد نحو 3 أسابيع متصلة من دون أن ترى أي من تلك الدول العربية المطبعة داعيا لاستدعاء سفيرها.

صحيفة اخبار الخليج
20 يناير 2010