المنشور

صعقــة النخــب !


في ظل الاجواء السياسية والاجتماعية والثقافية المشحونة والمضطربة في العالم العربي، منذ اندلاع حركة الاحتجاجات والهبات الشعبية مطلع العام الجاري، تطغى النزعات الكيدية والرغائبية المشبوبة بالعواطف المنفلتة ونوازع التشفي، على كثير من التداولات والقراءات التحليلية الذاتية للاوضاع الجارية.

وقد يكون الاضطراب واللايقين هما القاسم المشترك في كل تداعيات تلك الانتفاضات الشعبية العارمة وغير المسبوقة التي اجتاحت العالم العربي شرقا وغربا ومحصلة نتائجها الأولى التي بدأت تترى رويدا رويدا. وبالكاد يستطيع المرء المراقب احصاء من تمكن، سواء من الأحزاب أو الحركات الاجتماعية أو النخب الثقافية المتوزعة، فرديا أو جماعيا، على قوس الاستقطابات الذي شُرِّعت أبوابه تحت وقع صيحات النفرة والفزعة المندفعة فجأة من كمونها المريب في اللاوعي – بالكاد يستطيع احصاء من تمكن من الابقاء على نفسه بمنجاة من هذا “التيه” الذي يصعب التنبؤ بمآلاته، خصوصا في ظل استمرار زخمه بموجات متقطعة، مستفيدة من الخزين الوفير للسخط المتولد من “بركات” الاستبداد بالغة الكرم والعطاء!

حتى معشر الحكماء الذين أطلوا برأسهم لوهلة في خضم حالة البلبلة والاضطراب السياسي التي سيطرت على الشارع المصري ابان وفي اعقاب نجاح ثورة 25 يناير في اطاحة رأس وبعض من رموز النظام السابق، والذين كانوا من بين من أفرزتهم أحداث الثورة، كبارقة أمل توسم المحيطون بقوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات، فيها خيرا يمكن أن يبدد القلق الذي راح يتسرب الى نفوسهم جراء فداحة وهول مخاطر عدم السيطرة على جموح عوامل التفخيخ والتفجير المحدقة بدول المنطقة وشعوبها من كل حدب وصوب – حتى ذلكم النفر من الحكماء والعقلاء سرعان ما اختفى وذاب وسط الضجيج وموجات السخط العارم وتكالب المتكالبين.

ما الذي يعنيه ذلك؟ … انه يشي، بمعنى من المعاني، ان “البنية التحتية” (Infrastructure)، للعقلانية وللتفكير العقلاني الرشيد في العالم العربي، غير متوفرة كما يستلزم أن تكون عليه، أو انها غير مكتملة الاركان والشروط في أحسن الاحوال. المجتمع المدني ضعيف البنية بسبب حداثة التكوين نسبيا (الحديث يدور هنا عن حالة المأسسة)، واستقلالية المؤسسات المعاصرة والأفراد هي الاخرى نسبية، حيث نجحت القوى المهيمنة على أجهزة التسيير الحكومية في تضخيم وتحويل الدولة الى تنين متغول ومتوغل في حياة المجتمعات العربية واحالت سكانها من مواطنين وفقا للنصوص الشكلية للدساتير السارية الى مجرد رعايا تابعين وخاضعين بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة لمشيئة ومزاجية السياسات المتقلبة لذلك الجهاز المتضخم والمتعول ولابتزازاته، المرئي منها والمخفي.

ولعل هذا ما يفسر وجود كتلة بشرية، تصغر هنا وتكبر هناك، اختارت الصمت والفرجة والمراقبة من بعيد، مفضلة الانزواء العفيف والنأي بنفسها عن حالة الصراع اللامعقول التي أنشأها “القديم” كرد فعل مضاد وممانع لتقدم “الجديد” في غير موقع. وما درت هذه الكتلة ان انزواءها انما يساهم في تعقيد الموقف ويزيد بلبلته واضطرام نيرانه.

مثلما يفسر أيضا ازدياد سخط ونقمة اولئك الشباب الثائرين الذين أشعلوا فتيل الثورات العربية اعتبارا من مطلع هذا العام وقدموا التضحيات الجسام من أجل استمرار زخمها حتى تحقيق أهدافها، وذلك بعد النتائج المحبطة والمخيبة لآمالهم التي أسفرت عنها انتخابات ما بعد الثورات. ويكفي للوقوف على ذلك القاء نظرة سريعة على عناوين عديد المقالات التي كرسها كتابها لنعي الديمقراطية العربية التي طالما شكلت حلما عربيا موؤودا.

ونجد تجليات هذا السخط النخبوي على النتائج المثيرة لقلق أوساط مجتمعية واسعة على مستقبل الدولة المدنية ومسارات التحديث في العالم العربي، متجسدة في كتابات من قبيل “العرب يعيدون انتاج تخلفهم..ولكن عن طريق الديمقراطية هذه المرة” .. وفي محاولة اسقاطية لا تخلو من فطنة بالغة الصحة، يكتب وهيب أيوب مستحضرا التاريخ البعيد وتحديدا مقولة ابن خلدون التي تعود لستة قرون خلت ومفادها “ان العرب لا يحصل لهم الملك الا عن عصبية دينية”، وذلك عطفا على نتائج الانتخابات التونسية والمغربية والمصرية… و”الخير لَقُدّام” كما يقول المثل الشعبي.

ونسجت كتابات تحليلية ساخطة على نفس المنوال، على نحو ما ذهبت اليه الكاتبة المصرية المعروفة نوال السعداوي التي وجهت نقدا لاذعا لمجاميع المثقفين الذين سرعان ما ينقلبوا على أعقابهم لدن وقوع أي انعطافة في الاحداث بقولها: “مقالاتهم “الثورية”(!) الجديدة تشتم الرئيس السابق (اعطوه لقب المخلوع)، هو الذي أنعم عليهم بالجائزة الكبرى والوسام، لا يعرفون النقد المؤدب الرصين بل الشتيمة والهجاء والسوقية في اللغة والتعبير، واتهام الآخرين بالعمالة وتلقي أموال من الخارج، وينسون انهم سعوا للقاء الرئيس الامريكي باراك اوباما في الخارج، وانهم صفقوا له طويلا حين القى خطبته في جامعة القاهرة”.

وكما هو واضح، فان النخب المحسوبة على الاتجاهات الليبرالية والتحديثية، تبدو مصعوقة ومنزعجة مما آلت اليه هبات التغيير الشعبية الكاسحة في العالم العربي. فلم تكن لتتصور ان “تستخلف” في الحكم من كان يحكمها باستغلال فوبيا الاسلاميين بمن سيحكمها باستغلال الدين. فماذا تُرى عساها فاعلة ازاء هذه المحنة التاريخية الجديدة التي سيتعين على البلدان والشعوب العربية اجتيازها؟

نحسب انه لابد من احترام ارادة الشعوب، فاذا هي اختارت بمحض ارادتها قوى الاسلام السياسي فانها هي نفسها من سيتحول الى خيار آخر اذا ثبت لها بالدليل القاطع ان هذه القوى قد خذلتها..بشرط ان يتم تثبيت مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة في الدساتير الجديدة، وذلك لقطع الطريق أمام أي محاولة جديدة “لاعادة تأميم” السلطة واحتكارها، وبما يضمن انهاء ظاهرة الاستبداد المستدام مرة والى الأبد في الحياة العربية.