المنشور

تكليف شعبي منقوص

في فرنسا أُجريت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في السادس من مايو الماضي بين الرئيس المنتهية ولايته نيكولاس سركوزي ومرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند، ولم تكد تمضي 24 ساعة حتى أُعلنت النتيجة بفوز هولاند.

أما في مصر فقد أُجريت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي تنافس فيها مرشح الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي والمرشح المحسوب على النظام السابق الفريق أحمد شفيق على مدى يومين (16 – 17 يونيه 2012). ورغم تقارب الكتلتين الانتخابيتين في البلدين (مع الفارق في إمكانيات البلدين طبعاً)، إلا أن في مصر حبس الناس أنفاسهم لمدة ستة أيام قبل أن تُعلن اللجنة العليا للانتخابات بصورة رسمية النتيجة بفوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة.

منذ 25 يناير 2011 ومصر تتقلب فيها الأحوال بين مد وجزر لقوى الثورة التي اندلعت في هذا التاريخ في أعقاب ثورة الياسمين في تونس، ومد وجزر لقوى الثورة المضادة التي نجحت على مدى الثمانية عشر شهراً الماضية في إرجاع قوى الثورة إلى المربع الأول أكثر من مرة، إلى أن جاءت “الثواني الأخيرة من عمر المباراة” لتحمل لكل القوى التي حلمت بيوم آخر مشرقاً بعد نجاحها في إزاحة رأس النظام، الخبر الذي ربما أعاد إحياء ذلك الأمل المكبوت منذ نيف وثلاثة عقود.

لقد أعلن المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز المرشح محمد مرسي بمنصب الرئاسة المصرية. وجاء هذا الإعلان بمثابة “دش” بارد على ميدان التحرير وعلى ساحات أخرى في مصر المحروسة كانت متحفزة لردود أفعال لم يكن يعلم بمآلها إلا الله لو قُدِّر وجاءت نتيجة الانتخابات على غير ما تشتهيه أنفسهم وما ذهبت إليه توقعاتهم.

ولكن وكما يقول المثل “بعد السكرة ها قد جاءت الفكرة”. فاز الدكتور مرسي والفرحة لا تكاد تسع الإخوان (المسلمين) في مصر. ولكن مهلاً، وقبل أن يركب الغرور بعض قيادات الحركة و”تشطح” بعيداً على نحو ما فعل أحدهم في احتفال المحلة الكبرى بفوزهم “التاريخي”، حين زعق في الحشد بأن فوز الدكتور محمد مرسي هو بداية انطلاقة مشروع الخلافة الإسلامية، أي أنهم سوف يصدِّرون نموذجهم – الذي لم يبدأ ولم تتشكل ملامحه بعد – إلى بقية أصقاع الجوار العربي وبقاع العالم الإسلامي النائية – نقول لهم تمهلوا قليلاً وعاينوا ودققوا في أرقام النتائج النهائية لفوز مرشح حزبكم (حزب العدالة والتنمية) في الانتخابات الرئاسية.

الأرقام تطالعنا بالآتي: بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 51.8% حسب إعلان اللجنة العليا للانتخابات.

حصل الدكتور محمد مرسي على عدد 13 مليون و270 ألف صوتاً بنسبة 48.27%.

والآن لنحاول قراءة هذه الأرقام سياسياً:

-    سوف يجد الدكتور محمد مرسي نفسه وجهاً لوجه مع واقع صعب للغاية لا يستطيع القفز عليه أو نكرانه، وهو ذلك المتمثل في حكمه لشعب منقسم إلى ثلاث فئات كبرى رئيسية، الفئة الأولى وهي المتمثلة في نسبة الـ 51.73% التي أعطته أصواتها، والفئة الثانية وتمثلها نسبة الـ 48.27%، وهي الفئة التي أعطت أصواتها للفريق أحمد شفيق، وهناك فئة ثالثة تصل نسبتها إلى 48.2%، وهي الفئة التي حجبت أصواتها عن المرشحين الاثنين، ذلك أن مجموع الذين أدلوا بأصواتهم بلغ 26 مليون ناخب من أصل أكثر من 50 مليون مسجل في القوائم الانتخابية.

   ولو ترجمنا النسب عاليه إلى أرقام مطلقة فسنجد أن الكتلة الأولى المناصرة للدكتور محمد مرسي يبلغ قوامها بالتمام والكمال 13,230,131 (أي حوالي ثلاثة عشر مليون وأقل قليلاً من ربع مليون)، فيما يبلغ قوام الكتلة الثانية المناصرة لشفيق 12,347,380 (أي حوالي اثني عشر مليوناً و350 ألفاً). وتحوز الكتلة الثالثة الحاجبة لأصواتها – أو الكتلة الصامتة – تقريباً نفس العدد. وما تقدم يؤكد ما ذهبنا إليه من أن رئيس مصر الجديد سيقود بلداً منقسماً إلى ثلاث كتل كبرى رئيسية متساوية تقريباً.

-    أيضاً سوف يرث الرئيس الجديد خزينة دولة متآكلة بعد أن انهارت احتياطيات البنك المركزي المصري من 36 مليار دولار قبل اندلاع ثورة 25 يناير إلى 15.21 مليار دولار في شهر أبريل الماضي، وفقدان الجنية المصري لحوالي 5% من قيمته أمام الدولار منذ يناير 2011.

-    تزايد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع نسبتهم إلى 12.4% (إحصاءات ديسمبر 2011) من 9.9% قبل الأحداث. وهناك تراجع واضح وخطير في الطاقات الإنتاجية والأداء الاقتصادي لقطاعات مختلفة في الاقتصاد المصري.

-    يضاف إلى ذلك التوجسات والمخاوف الداخلية والخارجية التي شكلها ويشكلها وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، والتي وجدت صداها في الفتور الذي قوبل به إعلان فوز الدكتور مرسي بالرئاسة من جانب عديد الأطراف الإقليمية والدولية التي لا تنظر بعين الارتياح إلى الثقافة السياسية للإخوان عطفاً على تاريخهم الذي ينوء بأحمال ثقيلة على كاهلهم قبل غيرهم وعلى أجندتهم غير المعلنة التي لطالما شكلت مادة دسمة للمبارزات والمنابذات السياسية بين الإخوان ومناوئيهم. ترتيباً على ذلك فإن من غير المستبعد أن تجد مصر نفسها في ظل حكم الإخوان في موضع العراق اليوم الذي لازال يعاني من فتور علاقاته الإقليمية.

ثم أن على الإخوان المنتشين بالفوز بكرسي الرئاسة أن يتذكروا دائماً وأن يضعوا في اعتبارهم أنهم حين تنافسوا مع التنويعات الاجتماعية والثقافية للطيف السياسي المصري في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، لم يحصلوا سوى على 5 مليون وحوالي 765 ألف صوت (للدقة 5,764,952 صوت) بواقع 24% من المشاركين في التصويت.

    فهم بهذا المعنى لا يستطيعون الادعاء بأنهم يمثلون غالبية قطاعات الشعب المصري. وانهم لولا فزعة اللحظة الأخيرة لكل أولئك الناقمين في النظام “السابق” واعتبارهم التصويت ضد المرشح الفريق أحمد شفيق جزءً من تصفية الحسابات معه باعتباره أحد رموز نظام مبارك (أكثر منه تصويتاً للمرشح الدكتور محمد مرسي)، لما كانوا استفادوا من هذا الاصطفاف السياسي الطارئ وخرجوا فائزين في “الدقائق الأخيرة من عمر المباراة”، كما أسلفنا (الصراع بين النظام “السابق” وقوى الثورة)!

    وعلى ذلك فإن الأنظار ستتوجه وستتركز منذ الآن فصاعداً على الحزب الحاكم الجديد في مصر، وهو حزب العدالة والتنمية، وعلى ممثله في قمة هرم السلطة وهما الحزب والدكتور محمد مرسي، اللذان ما برحا يطلقان الوعود تلو الوعود ويوزعانها يمنة ويسرى: فريق رئاسي يضم قبطياً، وحكومة ائتلاف وطني برئاسة شخصية وطنية بارزة، والحفاظ على هوية الدولة المدنية .. ووعود وتطمينات أخرى أُطلقت كرسائل معنونة للداخل والخارج، قبل وبعد إعلان فوز الدكتور محمد مرسي. وليس قيام نشطاء على شبكة الانترنت الدولية بإطلاق حركة شعبية لمراقبة أداء الرئيس المصري الجديد ومدى التزامه بما قطعه على نفسه في برنامجه الانتخابي وخلال وبعد حملته الانتخابية خلال المئة يوم الأولى من فترة رئاسته ابتدأ عدها التنازلي على موقع الحركة الذي أطلقت عليه اسم “مرسي متر” اعتباراً من 30 يونيه/حزيران الماضي – ليس سوى عينة من تلك الأعين التي ستبقى مفتوحة تراقب وتتابع أداء جماعة الإخوان المسلمين المصرية وهي تدير دفة الحكم في مصر بفضل جسارة وجرأة شباب وشابات مصر الذين صنعوا الحدث الأول وثبتوه في ميدان التحرير.

    فهل ستكون تداعيات الثورة المصرية ومعطيات صناديق الاقتراع التي عرضناها آنفاً حاضرة في توجهات الحكم الجديد والتي توضح أن التكليف الشعبي الذي حصل عليه المرشح الرئاسي الفائز، منقوص بشكل فادح، أم أن الحسابات الخاصة ستجعل منها هباءً منثوراً؟!