المنشور

مجيد مرهون‮: ‬فلذة من تاريخنا

(1)

في‮ ‬مساء الثالث والعشرين من أغسطس ‮٣٠٠٢ ‬نظم المنبر التقدمي‮ ‬ندوة حاشدة قدم فيها المناضل والفنان مجيد مرهون صفحات من سيرته الذاتية التي‮ ‬هي‮ ‬نسيج من النضال والإبداع،‮ ‬وأدار هذه الندوة الفنان الوطني‮ ‬الملتزم سلمان زيمان مؤسس فرقة‮ »‬أجراس‮«.‬ حضر هذه الندوة رفاق مجيد ومحبوه،‮ ‬وحشد من الشبيبة التي‮ ‬تجد في‮ ‬سيرة هذا المناضل المقدام قدوة لها في‮ ‬الممارسة النضالية وفي‮ ‬العطاء الإبداعي‮.‬ روى مجيد في‮ ‬تلك الأمسية حكاية طفولته في‮ ‬حي‮ ‬العدامة بالحورة الذي‮ ‬ولد فيه،‮ ‬حي‮ ‬البسطاء المعدمين والكادحين المهمشين الذين كانوا‮ ‬يعيشون أسوأ أنواع شظف العيش،‮ ‬ويركضون لاهثين وراء لقمة العيش وكسـرة الخبز،‮ ‬وخوفا من الأمراض التي‮ ‬تحصد فيهم حصدا،‮ ‬وكانت فيضانات البحر تجعلهم‮ ‬يعايشون المستنقع الذي‮ ‬تعشش فيه مجاميع البعوض،‮ ‬ظاهرة آثارها على أجسادهم السقيمة،‮ ‬والتي‮ ‬تعاني‮ ‬من الجدري‮ ‬والتيفوئيد والسل،‮ ‬وغيرها من الأمراض‮.‬ في‮ ‬هذا الحي‮ ‬المبني‮ ‬من بيوت السعف والأزقة الضيقة،‮ ‬ولد مجيد مرهون في‮ ‬عز ظهيرة‮ ‬يوم قائض شديد الحرارة،‮ ‬كان ذلك بتاريخ ‮٧١ ‬أغسطس عام ‮٥٤٩١.‬ يقول مجيد إن ذلك حدث بعد أسبوع واحد فقط من قيام القوات الأمريكية بإلقاء القنبلة الذرية الثانية على اليابان‮. ‬وكانت الحرارة في‮ ‬ذلك اليوم على أشد ما‮ ‬يمكن تصوره،‮ ‬بسبب انتشار الغبار الذري‮ ‬في‮ ‬الغلاف الجوي‮ ‬حول العالم‮.‬ عاش مجيد طفولة مريرة ترد تفاصيلها في‮ ‬سيرته التي‮ ‬سننشرها قريبا،‮ ‬ولكنه واجه مرارة الحياة والفقر بالتفوق في‮ ‬دراسته سواء لدى المطوعة التي‮ ‬حفظ على‮ ‬يديها القرآن الكريم،‮ ‬أو بعد إدخاله إلى مدرسة الروضة الحكومية في‮ ‬المنامة والواقعة قبالة مديرية المعارف‮.‬ يقول مجيد‮ : »‬كنت من أفضل التلاميذ في‮ ‬الدراسة بالرغم من شظف العيش،‮ ‬حيث كنا ننام أحيانا ببطون خاوية‮ ‬يعتصرنا الجوع،‮ ‬وما كان لنا سوى الصبر والحرمان،‮ ‬وكانت النتيجة أنني‮ ‬كنت من الأوائل،‮ ‬وتم نقلي‮ ‬إلى مدرسة القضيبية الابتدائية قبل أن‮ ‬يكتمل بناؤها عام ‮٣٥٩١‬،‮ ‬وفي‮ ‬تلك المدرسة لاحظت الفارق الاجتماعي‮ ‬بين الطبقات،‮ ‬فأبناء الأسر الميسرة تعيش النعيم والدلال،‮ ‬بينما أبناء الأسر الفقيرة تعيش الحرمان والعوز،‮ ‬وكنت أنزوي‮ ‬محاولا تفسير السبب،‮ ‬ولكن دون طائل،‮ ‬لأن الموضوع وهمومه أكبر مما‮ ‬يحتمله عقلي‮. ‬وكان حلمي‮ ‬هو‮: ‬متى أكمل دراستي‮ ‬لكي‮ ‬أعمل وأعيش مع أهلي‮ ‬العيش الكريم،‮ ‬وبالرغم من أنني‮ ‬أعرف بأنه حق طبيعي،‮ ‬إلا أنه حلم بعيد المنال‮«.‬ في‮ ‬العام الدراسي‮ ٥٥٩١ – ٦٥٩١ ‬طلب منه مدرس التربية الفنية والرياضية،‮ ‬الأستاذ سلمان ماجد الدلال أن‮ ‬يقوم بتلحين كلمات أغنية مونولوج للأطفال في‮ ‬مسرحية ضمن النشاطات السنوية للمدرسة‮. ‬ كان ذلك أول لحن‮ ‬يقوم بتأليفه في‮ ‬حياته،‮ ‬ويتكون من تسلسل سلم نغمي‮ ‬صاعد ونازل مع بعض التغييرات النغمية والإيقاعية‮. ‬لم‮ ‬يكن عمر مجيد‮ ‬يتجاوز العاشرة حين ألف المنولوج الذي‮ ‬كان بعنوان‮: (‬وياكم‮ ‬يا ناس تحيرنا‮)‬،‮ ‬وتم تسجيله‮ ‬يومها في‮ ‬إذاعة البحرين‮. ‬

(2)

كان مجيد مرهون لما‮ ‬يزل تلميذا في‮ ‬المدرسة الابتدائية،‮ ‬حين كان قبل أن‮ ‬يخلد إلى النوم في‮ ‬كل ليلة‮ ‬يستمع إلى راديو الظهران من مذياع قديم في‮ ‬بيتهم‮ ‬يعمل على البطارية الناشفة،‮ ‬وكانت تلك الإذاعة تقدم الموسيقى طوال الليل والنهار‮.‬ سيصبح الفتى الذي‮ ‬ولد موهوباً،‮ ‬مدمناً‮ ‬على الاستماع إلى الموسيقى السيمفونية،‮ ‬والتي‮ ‬كانت ثرية في‮ ‬هارمونياتها المتنوعة،‮ ‬رغم انه في‮ ‬تلك السن المبكرة لم‮ ‬يكن قادرًا على استيعاب كل شيء فيها‮.‬ أثار ذلك فضوله كثيرًا وشكل له تحدياً‮ ‬حقيقياً‮ ‬للمعرفة،‮ ‬وكان ذلك دافعاً‮ ‬له للمثابرة والاجتهاد في‮ ‬دخول العالم السحري‮ ‬للموسيقى‮.‬ من المدرسة الابتدائية سينتقل مجيد إلى مدرسة بابكو للتدريب،‮ ‬التي‮ ‬كان الانتساب إليها‮ ‬يؤمن مدخولاً،‮ ‬ساعده في‮ ‬البداية على الانتقال مع عائلته من البيت الذي‮ ‬كانوا‮ ‬يسكنونه بالإيجار،‮ ‬حيث انتقلت العائلة إلى منطقة السلمانية لتعيش في‮ ‬بيت أفضل من السابق‮.‬ هذا المدخول ساعده أيضا في‮ ‬تحقيق رغبته القديمة في‮ ‬اقتناء آلة موسيقية،‮ ‬حيث اشترى آلة الهارمونيكا عام ‮٩٥٩١‬،‮ ‬ومعها اشترى كتابا لكي‮ ‬يرشده في‮ ‬تعلم كيفية العزف عليها‮.‬ الاستيعاب النظري‮ ‬للدروس لم‮ ‬يكن صعباً‮ ‬بالنسبة له،‮ ‬لكن كيفية تطبيق تلك الدروس كانت المشكلة،‮ ‬خاصة وأن معرفته باللغة الإنجليزية آنذاك كانت محدودة،‮ ‬مما أوشك أن‮ ‬يصيبه باليأس،‮ ‬لأن محاولاته الأولى في‮ ‬تعلم النوتة كانت فاشلة‮.‬ قرر أن‮ ‬يتغلب على ذلك بتعلم العزف وفقاً‮ ‬لسمعه،‮ ‬فكان‮ ‬يخرج ليلاً‮ ‬إلى ساحل البحر خلف قصر القضيبية،‮ ‬لكي‮ ‬يعزف ما‮ ‬يعتمل في‮ ‬صدره وعقله،‮ ‬وكان منظر القمر وهو‮ ‬يتلألأ في‮ ‬أمواج البحر الراقصة‮ ‬يثير أشجانه‮. ‬ الفتى المنذور للإبداع،‮ ‬سيصبح منذورًا للنضال أيضا،‮ ‬في‮ ‬ذلك الزمن الجميل الذي‮ ‬كان المبدعون لا‮ ‬يجدون أنفسهم إلا في‮ ‬الانحياز لقضية شعبهم،‮ ‬وللنهج الثوري‮ ‬التقدمي‮ ‬المعبر عن التوق للحرية‮.‬ ففي‮ ‬ليلة من تلك الليالي‮ ‬سيلتقي‮ ‬مجيد بواحد من الشباب الذين كانوا‮ ‬يدرسون معه في‮ ‬مركز التدريب المهني‮ ‬في‮ ‬بابكو لكنه‮ ‬يسبقه بفصل واحد،‮ ‬وهو حسن علي‮ ‬محمد المحرقي،‮ ‬وكان آنذاك‮ ‬يسكن في‮ ‬بيت والده في‮ ‬الحورة،‮ ‬فأحس بألفة وقرابة تجاهه،‮ ‬وبسرعة تطورت علاقة الشابين،‮ ‬فأخذ مجيد‮ ‬يزوره في‮ ‬بيت والده بصورة منتظمة،‮ ‬حيث‮ ‬يقضيان الوقت في‮ ‬نقاشات ودراسات عديدة،‮ ‬كانت فائدته منها،‮ ‬كما‮ ‬يروي،‮ ‬كبيرة جدا‮. ‬ سيقوده ذلك إلى قراءة روايات ومؤلفات جورج حنا وسلامة موسى ومحمد مندور ومكسيم جوركي،‮ ‬وكان لروايات وقصص هذا الأخير أثرها العميق جدا في‮ ‬نفسه،‮ ‬لأنه وجد في‮ ‬شخوص هذه القصص تجسيدات حية في‮ ‬مجتمعنا الحقيقي‮.‬ وبعد حين لم‮ ‬يطل بات مجيد على‮ ‬يقين من أن الميول والتوجهات الاشتراكية أقرب إلى قلبه وعقله‮.‬ حينها سئل إن كان‮ ‬يرغب في‮ ‬الانضمام لجبهة التحرير الوطني‮ ‬المناضلة من أجل حقوق الطبقة العاملة والطبقات الفقيرة ولأجل الديموقراطية‮.‬ يقول مجيد‮: »‬بدون تردد أعلنت رغبتي‮ ‬ولهفتي‮ ‬للانخراط فيها‮«.

(3)

في‮ ‬العام ‮١٦٩١‬،‮ ‬إذا،‮ ‬انضم مجيد إلى جبهة التحرير،‮ ‬وفي‮ ‬نفس هذا العام طلب منه المرحوم باقر كلبهرام،‮ ‬أن‮ ‬يؤسس فرقة موسيقية للعزف في‮ ‬موكب عزاء مأتم كلبهرام،‮ ‬لأنه كان من أشهر الموسيقيين بين فقراء تلك المنطقة‮.‬ وبما عهد عنه من حماس شديد وافق مجيد على انجاز هذه المهمة لأنه كان قد بدأ نشاطه الثوري‮ ‬بين الشباب الفقراء من هم في‮ ‬مثل سنه،‮ ‬أو أكبر أو أصغر قليلا،‮ ‬وكلهم من أبناء الطبقة العاملة والعاطلين عن العمل،‮ ‬ومن الرعاع أيضا‮.‬ في‮ ‬هذه المرحلة بدا‮ ‬يتبلور عنده الإحساس والوعي‮ ‬بالتقاء الفن الموسيقي‮ ‬مع الثورة،‮ ‬وهذا ما عزز موقفه من الموسيقى في‮ ‬منظورها التقدمي‮ ‬وكوسيلة في‮ ‬الارتقاء بذائقة الإنسان وتهذيب روحه‮.‬ كانت مهاراته الموسيقية قد أخذت في‮ ‬التطور،‮ ‬وبدأت آلات موسيقية أخرى تشده إلى عالمها،‮ ‬فاشترى آلة السكسفون بعد تعرفه على بعض آلات النفخ مثل الترومبت والكلارنيت عام ‮١٦٩١.‬ وحسب المرحوم الفنان أحمد جمال الذي‮ ‬كان‮ ‬يملك متجرا لبيع الآلات الموسيقية والكتب الموسيقية،‮ ‬فان مجيدا كان أول بحريني‮ ‬يشتري‮ ‬هذه الآلة من المحل،‮ ‬كما اشترى أول كتاب لتعلم العزف على السكسفون،‮ ‬وفعل ذلك بدون معلم أو مدرب‮.‬ وفي‮ ‬العام نفسه قام بتأليف لحن لوحة المأتم،‮ ‬وبشكل عام فقد سجلت هذه الفترة انطلاقة له في‮ ‬التأليف الموسيقي،‮ ‬وكذلك في‮ ‬العزف على السكسفون بموسيقى الجاز والأغاني‮ ‬من مختلف الأنواع‮.‬ إضافة إلى ذلك انضم إلى أسرة هواة الفن في‮ ‬أواخر عام ‮٣٦٩١ ‬ولمدة ستة أشهر،‮ ‬وشارك معها في‮ ‬عدة حفلات أقامتها في‮ ‬عدد من النوادي‮ ‬والمناسبات،‮ ‬ولكن عضويته فيها لم تطل بسبب بعض الخلافات،‮ ‬ليصبح بعد ذلك واحدا من مؤسسي‮ ‬فرقة الأنوار،‮ ‬والتي‮ ‬كان لها في‮ ‬ذلك الحين نشاطات بارزة‮.‬ تشكلت الفرقة عمليا من فرقتين واحدة للموسيقى الشرقية بقيادة أحمد فردان وتدريب عيسى جاسم،‮ ‬والثانية للموسيقى الغربية،‮ ‬وهي‮ ‬أول فرقة موسيقية في‮ ‬البحرين وربما في‮ ‬الخليج بأسره أعضاؤها بحرينيون،‮ ‬وكانت الفرقتان تعملان بصورة مستقلة في‮ ‬الاحتفالات العادية،‮ ‬ولكنهما تعملان معا في‮ ‬المهرجانات‮.‬ سيحل العام ‮٥٦٩١‬،‮ ‬عام الانتفاضة العمالية ضد الاستعمار وتعسف شركة النفط‮. ‬ويرى مجيد أن هذه الانتفاضة شكلت وحدة بين النضال العمالي‮ ‬والحركة الطلابية في‮ ‬المدارس،‮ ‬خاصة في‮ ‬الثانويات‮.‬ كان مجيد العامل‮ ‬يومذاك بين من ساهموا في‮ ‬هذه الانتفاضة العمالية،‮ ‬في‮ ‬المظاهرات وكذلك في‮ ‬إلقاء الحجارة،‮ ‬ووضع الكمائن ضد الشرطة،‮ ‬وفي‮ ‬احد الأيام التي‮ ‬كان فيها مجيد عائدا من مظاهرة عمالية وطلابية مشتركة،‮ ‬اختلى به احد رفاقه ليبلغه توجيها بعدم الخروج بعد اليوم في‮ ‬المظاهرات‮.‬ وعندما سأله مجيد عن السبب،‮ ‬قال له بالحرف الواحد‮: ‬لا نريدك أن تنكشف الآن‮.. ‬تنتظرك مهام خاصة‮. ‬

(4)

المناضل الذي‮ ‬طلبوا منه أن‮ ‬يستعد لمهام خاصة،‮ ‬سيغدو بطلا من أبطال النضال ضد الاستعمار وفي‮ ‬سبيل الاستقلال والحرية‮. ‬
في‮ ‬العام ‮٦٦٩١‬،‮ ‬وفي‮ ‬الذكرى الأولى لانتفاضة مارس ‮٥٦٩١ ‬سيشترك في‮ ‬عملية جريئة بموجبها سيشل جهاز القمع الاستعماري‮ ‬بقيادة بوب ومساعده أحمد محسن،‮ ‬حينما انفجرت بهما سيارتاهما‮.‬


بعد انتفاضة ‮٥٦٩١ ‬وبعد سقوط الطاقم الأمني‮ ‬الاستعماري‮ ‬السابق وهروب بنيامين بنز بمرتبات الشرطة إلى خارج البحرين،‮ ‬سيجلب الانجليز طاقما جديدا بقيادة إيان هندرسون ونائبه شور وغيرهما من صغار الضباط المتبقين من الطاقم القديم‮.‬


بشكل عام كانت المهام والأعباء التنظيمية قد ازدادت على عاتق مجيد في‮ ‬تلك الفترة،‮ ‬وبرغم الظروف القاسية والمسؤوليات الحزبية الكبيرة فإن هذا لم‮ ‬يوقف نشاطاته الموسيقية،‮ ‬بل جعله أكثر حماسا لها‮.‬


أخذت ثقافته الموسيقية والفنية في‮ ‬التطور والتوسع،‮ ‬وتحسنت مهاراته في‮ ‬العزف على السكسفون،‮ ‬حيث راح‮ ‬يعزف الألحان الفرنسية العديدة والتي‮ ‬وسعت ذخيرته الفنية،‮ ‬وكذلك الألحان الأفريقية،‮ ‬واللاتينية الأمريكية،‮ ‬والإنجليزية،‮ ‬وعلى وجه الخصوص ألحان أغاني‮ ‬الخنافس‮ – ‬البيتلز والرولينجستونز،‮ ‬والأسبانية،‮ ‬والروسية بالرغم من أنه لم‮ ‬يتمكن من مواصلة دراسة نظريات الموسيقى حينها بصورة منهجية،‮ ‬كما استمر كذلك تأليفه للألحان التي‮ ‬يعزفها في‮ ‬موكب عاشوراء‮.‬


وفي‮ ‬عام ‮٧٦٩١ ‬جرى تداول،‮ ‬وللمرة الأولى،‮ ‬كلمات نشيد‮: ‬طريقنا أنت تدري،‮ ‬شوك ووعر عسير‮. ‬


ورغم أن مجيدا لم‮ ‬يحصل على النص الكامل للنشيد،‮ ‬لكن مطلعه وأبياته الأولى لفتت نظره فقام بتلحينها وتحفيظ أعضاء خليته الحزبية لحن تلك الكلمات دون أمل في‮ ‬تحقيق تلحين نشيد كامل‮.‬


هذا النشيد سيجري‮ ‬إثراء كلماته،‮ ‬بعد ذلك بعدة سنوات بإضافات ثرية جدا من قبل المناضل والشاعر أحمد الشملان،‮ ‬كما أن الفنان سلمان زيمان أضاف إليه،‮ ‬في‮ ‬مرحلة لاحقة،‮ ‬أبياتاً‮ ‬أخرى‮.‬


والنشيد متوفر الآن في‮ ‬توزيع موسيقي‮ ‬جميل وضعه المايسترو خليفة زيمان،‮ ‬وأدته مجموعة من الأصوات الجميلة الرجالية والنسائية من عناصر فرقة‮ »‬أجراس‮«‬،‮ ‬مطعمة بأصوات شابة جديدة،‮ ‬وقدم لأول مرة بتوزيعه الجديد،‮ ‬في‮ ‬الحفل المهيب الذي‮ ‬أقامه المنبر التقدمي‮ ‬في‮ ‬عام ‮٥٠٠٢ ‬في‮ ‬فندق هوليداي‮ ‬إن،‮ »‬كراون بلازا‮« ‬حاليا،‮ ‬في‮ ‬الذكرى الخمسين لتأسيس جبهة التحرير‮. ‬


في‮ ‬عام ‮٧٦٩١ ‬أيضا وضع مجيد لحن‮ »‬الذكريات‮« ‬الذي‮ ‬حقق نجاحا كبيرا عند الناس آنذاك،‮ ‬مما شد من همته وشد عزيمته،‮ ‬ومن جهة أخرى،‮ ‬أخذت شهرة فرقة‮ »‬فرسان العرب‮« ‬التي‮ ‬كان مجيد‮ ‬يعزف ضمنها‮ ‬يومذاك تزداد بين الناس،‮ ‬وبدأت بعض الفرق الشبابية التي‮ ‬صارت تقلدها تظهر إلى الوجود،‮ ‬ولم تبخل الفرقة بتقديم‮ ‬يد العون والمساعدة لها‮.‬

(5)

في‮ ‬العام ‮٨٦٩١ ‬شن جهاز الأمن البريطاني‮ ‬بقيادة‮ ‬يان هندرسن حملة اعتقالات انتقامية في‮ ‬صفوف مناضلي‮ ‬جبهة التحرير،‮ ‬كان هدفها الإجهاز عليها نهائياً،‮ ‬وشملت الحملة العشرات من المناضلين،‮ ‬واستمرت حتى عام ‮٩٦٩١‬،‮ ‬وفي‮ ٨ ‬فبراير حضر إلى بوابة مصنع التكرير حيث كان‮ ‬يعمل مجيد مرهون ضابط المخابرات البريطاني‮ ‬شور بمعية المحقق‮ ‬يوسف إسحاق،‮ ‬وتسلماه من أيدي‮ ‬رجال الأمن الإنجليز في‮ ‬بابكو،‮ ‬حيث نقل إلى قسم التحقيقات في‮ ‬القلعة‮.‬ ظل أمر التخطيط والتنفيذ للعمليتين التي‮ ‬اشترك فيهما مجيد سراً‮ ‬منذ عام ‮٦٦٩١‬،‮ ‬عام تننفيذها حتى العام ‮٩٦٩١‬،‮ ‬حيث استطاع جهاز الأمن الإمساك ببعض الخيوط التي‮ ‬قادت إلى التعرف على دور مجيد في‮ ‬تنفيذ إحداهما‮. ‬ وفي‮ ٣٢ ‬مارس ‮٩٦٩١ ‬اقتيد إلى محاكمة صورية لم تدم أكثر من نصف ساعة،‮ ‬حيث صدر الحكم الذي‮ ‬أعده هندرسون سلفاً،‮ ‬والذي‮ ‬تضمن عقوبتين إحداهما السجن المؤبد والثانية السجن لمدة ‮٠١ ‬سنوات‮.‬ بعدها بيومين ربطوا جسم مجيد ويديه بسلاسل كبيرة وثقيلة من الحديد بالإضافة إلى رباط الكفين،‮ ‬وربطوا السلاسل بالشاحنة التي‮ ‬أركبوه فيها وكانت مكشوفة،‮ ‬حيث تحركت من القلعة إلى ميناء البديع،‮ ‬ومن الشاحنة تم نقله إلى زورق خفر السواحل الخاص بجزيرة جدا في‮ ‬يوم عاصف صادف،‮ ‬كما‮ ‬يتذكر مجيد،‮ ‬السابع من محرم‮.‬ لأول وهلة بدت له جزيرة جدا مخيفة لأنها تختلف تماماً‮ ‬عن جزر البحرين،‮ ‬ففيها الهضاب الجبلية والكهوف ما‮ ‬يثير الرعب في‮ ‬قلب الوافد الجديد،‮ ‬وفور وصوله الجزيرة تم إدخاله على مدير السجن،‮ ‬فرنك سميث،‮ ‬في‮ ‬مكتبه،‮ ‬الذي‮ ‬حدثه بخشونة وعنف،‮ ‬ثم أمر بتركيب القيود الحديدية‮ (‬الصنقل‮) ‬على قدميه ويتكون من حلقتين بوزن ثقيل مع سلسلة‮ ‬يحملها بيديه أو‮ ‬يربطها بخاصرته‮.‬ وبعد ذلك تم إدخاله في‮ ‬الزنزانة الانفرادية رقم ‮٦٢ ‬وتم إقفال بابها عليه،‮ ‬وهناك اكتشف أن رفيقه المناضل حسن علي‮ ‬المحرقي‮ ‬كان في‮ ‬الزنزانة المجاورة حيث كان‮ ‬يقضي‮ ‬عقوبة السجن لمدة ‮٦ ‬سنوات لأن المطبعة السرية لجبهة التحرير صودرت من منزله‮.‬ قضى الرفيقان ما‮ ‬يقارب ‮٤ ‬سنوات في‮ ‬السجن الانفرادي‮ ‬وفي‮ ‬عزلة عن العالم،‮ ‬حيث لم‮ ‬يكن‮ ‬يسمح لهما بالاختلاط بأي‮ ‬من المساجين‮.‬ يقول مجيد إنه من تلك الزنزانة صمَّم على ألا‮ ‬يدع مجالاً‮ ‬لليأس أو الخوف من الموت في‮ ‬السجن أن‮ ‬يتسلل إلى نفسه‮.‬ ويتذكر أن تلك الفترة كانت رحلة من المعاناة حيث ان رجال الأمن كانوا‮ ‬يتعمدون استفزازه‮ ‬يومياً‮ ‬ليل نهار،‮ ‬لكنه صمد بوجه ذلك بمساعدة حسن المحرقي‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يعضده ويرفع معنوياته،‮ ‬خاصة وأن الأخبار كانت تتوارد إلى السجن من أن الحملة على جبهة التحرير أخفقت في‮ ‬القضاء عليها كما كان هندرسن‮ ‬يقول،‮ ‬وان الخلايا تعيد تنظيم صفوفها،‮ ‬وأن نشرة‮ »‬الجماهير‮« ‬السرية قد عاودت الصدور رغم مصادرة المطبعة‮. ‬مما قوى من عزيمة مناضلي‮ ‬الجبهة السجناء في‮ ‬جدا‮. ‬

(6)

في‮ ‬السجن سيخوض مجيد معارك فك العزلة المفروض عليه،‮ ‬وسيسعى جاهدا للحصول على الكتب التي‮ ‬كانت ممنوعة عنه‮.‬ ‮ ‬بعد حين تعرفت إدارة السجن على مهارات مجيد العملية،‮ ‬كونه خريج معهد التدريب في‮ »‬بابكو‮«‬،‮ ‬وستدفع به إلى العمل منذ عام ‮٢٧٩١ ‬بمعية سجين أجنبي،‮ ‬وهو سيلاني‮ ‬يحمل الجنسية البريطانية،‮ ‬اسمه جوني‮ ‬بيد تشمان،‮ ‬كان‮ ‬يعمل في‮ ‬السجن كهربائيا ومصلح مواسير المياه ومشغل مكائن الكهرباء‮.‬ ‮ ‬كان هدف مدير السجن تسليم هذه المهام لمجيد بعد انقضاء فترة سجن السجين السيلاني،‮ ‬ويروي‮ ‬مجيد انه تعلم تلك المهن بشكل جيد،‮ ‬حيث كان‮ ‬يقضي‮ ‬النهار في‮ ‬ممارستها بعيدا عن بقية السجناء،‮ ‬وفي‮ ‬المساء تتم إعادته إلى الزنزانة الانفرادية‮.‬ ترافق ذلك مع نجاحه في‮ ‬الحصول على نسخة من القرآن الكريم مع تفسير الجلالة والكتاب المقدس وكتاب آخر باسم‮ »‬ثورة الحسين‮«‬،‮ ‬الذي‮ ‬اعتبره مجيد‮ ‬يومها كتابا أثيرا لأنه‮ ‬يفسر قضية الإمام الحسين تفسيرا سياسيا،‮ ‬وأدت دراسة الكتاب إلى رفع معنوياته لما تضمنه من دروس عظيمة في‮ ‬النخوة والشجاعة واستخدام العقل‮.‬ وفي‮ ‬عام ‮٣٧٩١ ‬نجحت محاولات مجيد في‮ ‬إقناع مدير السجون بالسماح له في‮ ‬الحصول على الكتب الموسيقية لدراسة الموسيقى في‮ ‬وقت الفراغ،‮ ‬الذي‮ ‬وافق بعد تردد،‮ ‬وما إن أصبحت هذه الكتب في‮ ‬حوزته حتى بدأ الدراسة الجادة والمكثفة في‮ ‬تعلم الموسيقى مستفيدا من مناخ العزلة الذي‮ ‬كان فيه،‮ ‬مستوحيا من خبراته الموسيقية منذ طفولته ومستعيدا كل تجاربه السابقة ومدققا فيها بعناية‮.‬ حيث قام بإعادة تأليف وصياغة‮ »‬الذكريات‮« ‬بالنوتة الموسيقية،‮ ‬وهي‮ ‬على الرغم من كونها ليست تجربته الأولى في‮ ‬التأليف إلا انها كانت نقطة للانطلاق في‮ ‬المعركة الموسيقية،‮ ‬كما قام بتأليف مقطوعة‮ »‬الحنين‮« ‬وبعد قراءته المتأنية لرواية أحدب نوتردام جاءت مقطوعة‮ »‬أزميرالدا‮« ‬معبرة عن تأثره العميق بأعمال فيكتور هيوجو،‮ ‬خاصة وأن توجهاته الموسيقية الرومانتيكية كانت تسير في‮ ‬اتجاه نفس توجهاته في‮ ‬القصة‮.‬ ‮ ‬كما كان لقراءته لأعمال مكسيم‮ ‬غوركي‮ ‬عميق الأثر في‮ ‬توجهاته السياسة والفنية بصورة كبيرة كما تأثر بموسيقى كل من هايدن وموتسارت وبيتهوفن على وجه الخصوص،‮ ‬والذي‮ ‬وجد فيه ضالته كمؤلف موسيقي،‮ ‬فهو كما‮ ‬يقول مجيد كان مثله موسيقيا أصما علم نفسه بنفسه،‮ ‬وصادفت هوى في‮ ‬نفس مجيد التوجهات الثورية لبيتهوفن الذي‮ ‬كان‮ ‬يرفض سلطة الأباطرة الأرستقراطية المتمرغة في‮ ‬النعيم على حساب بقية البشر،‮ ‬ويمقت الزينة والحذلقة والتزلف،‮ ‬وهذه صفات وجد انعكاساتها في‮ ‬ذاته وصداها في‮ ‬حياته‮.‬ من أعمال بيتهوفن درس مجيد جيدا سيمفونياته،‮ ‬لكن عدم معرفته الكافية بأصول الهارمونية،‮ ‬جعله‮ ‬يواجه صعوبات جمة في‮ ‬فهمه من زوايا عديدة‮.‬ كما تعرف على المدرسة الرحبانية جيدا،‮ ‬وأدى العديد من ألحانهم،‮ ‬واستفاد منهم في‮ ‬العديد من أعماله الموسيقية التالية ومن ضمنها عمله الكبير الأول‮: »‬جزيرة الأحلام‮« ‬التي‮ ‬تمثل تصويرا لأحلام العديد من السجناء وطموحاتهم وآمالهم وآلامهم،‮ ‬وكذلك تصوراتهم ومن ضمنهم هو شخصيا‮.

(7)

في‮ ‬العام ‮٤٧٩١ ‬سيلتقي‮ ‬مجيد مرهون بالدكتور عبد الهادي‮ ‬خلف الذي‮ ‬كان قد اعتقل في‮ ‬يونيو من ذلك العام‮ ‬،‮ ‬مع مناضلين آخرين‮ ‬،‮ ‬وأحضر إلى جدا‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬اقترح عليه أن ترسل‮ ‬بعض النماذج من أعماله الموسيقية إلى السويد لتقييمها من الناحية الفنية‮ . ‬ ‮ ‬وبالفعل أعد مجيد بعض أعماله من مختلف المستويات،‮ ‬حيث تم تهريبها من السجن،‮ ‬ومن ثم أرسلت إلى السويد‮. ‬وجاء التقييم مدهشا ليس بالنسبة إلى مجيد وحده‮ ‬،‮ ‬وإنما بالنسبة إلى سجانيه والى هندرسون شخصيا‮ . ‬ ‮ ‬الأكاديمية الملكية السويدية التي‮ ‬اطلع مختصوها الموسيقيون على الأعمال‮ ‬أشادت بتمرس مجيد في‮ ‬الكونتريوينت التي‮ ‬تجعله في‮ ‬مستوى المحترفين‮. ‬كانت دراسته المتعمقة لعدد من أعمال‮ ‬يوهان سباستيان باخ‮ ‬في‮ ‬مجال الالبوليفونية قد جعلته متمرسا‮ ‬،‮ ‬حيث قام بتأليف عدة أعمال من نوع الكانون والفيوجات وهما من أعقد أنواع التأليف الموسيقي‮ ‬اليوليفوني‮ ‬في‮ ‬العالم‮ .‬ ‮ ‬سيتوالى اعتراف العالم بمجيد مرهون‮ ‬،‮ ‬مناضلا وفنانا‮ . ‬في‮ ‬الثمانينات وفي‮ ‬نطاق واحد من اكبر الحملات التي‮ ‬نظمتها جبهة التحرير واتحاد الشباب الديمقراطي‮ ‬للمطالبة بإطلاق سراحه‮ ‬،‮ ‬ستعزف فرقة الإذاعة السيمفونية في‮ ‬جمهورية ألمانيا الديمقراطية مقطوعتين موسيقيتين له هما‮ :»‬ذكريات‮ «‬و‮ »‬نوستالجيا‮« ‬،‮ ‬وستطوف المقطوعتان العالم التقدمي‮ ‬كله‮ ‬،‮ ‬وتلفت الانظار إلى موهبته ومعاناته‮ .‬ ‮ ‬وفي‮ ‬مهرجان الشبيبة العالمي‮ ‬في‮ ‬موسكو عام ‮٥٨٩١ ‬ستوقع آلاف البطاقات الاحتجاجية التي‮ ‬تطالب بإطلاق سراحه من قبل ممثلي‮ ‬حركة الشباب الديمقراطية المعادية للاستعمار في‮ ‬العالم كله‮.‬ ‮ ‬سيكتب مجيد عن تلك اللحظة‮ : »‬لأول مرة في‮ ‬حياتي‮ ‬عرفت حلاوة النصر الكبير حيث كنت اعتبرت نفسي‮ ‬ممثلا لجبهة التحرير الوطني‮ ‬بكل ما في‮ ‬الكلمة من معنى‮« .‬ ‮ ‬كانت ردة الفعل لدى هندرسن تجاه ذلك عنيفة‮ ‬،‮ ‬وأحضره إلى القلعة مهددا إياه بمحاكمة عسكرية‮ ‬،‮ ‬لكن معنويات مجيد كانت قد بلغت الذرى في‮ ‬تلك المرحلة‮ ‬،‮ ‬بعد أن تيقن أن العالم التقدمي‮ ‬كله‮ ‬،‮ ‬بفضل جهود رفاقه‮ ‬،‮ ‬يقف معه‮ ‬،‮ ‬لذلك قابل تلك التهديدات بتحد‮ ‬،‮ ‬لا بل وبسخرية‮ .‬ ‮ ‬في‮٣١ ‬يونيو ‮١٨٩١ ‬توفيت والدته التي‮ ‬كانت سنده القوي‮ ‬في‮ ‬محنته‮ ‬،‮ ‬وقدر رجال الأمن أن حالته النفسية بعد وفاتها مناسبة لابتزازه وترهيبه‮ ‬،‮ ‬فأحضر إلى مكتب التحقيقات‮ ‬،‮ ‬ومن جديد بدأوا‮ ‬يطلبون مني‮ ‬التوقيع على ورقة مضمونها أنه لا‮ ‬يحتاج إلى مساعدة الأحزاب اليسارية والتقدمية في‮ ‬العالم‮ ‬،‮ ‬التي‮ ‬كانت ترسل رسائل الاحتجاجات والمطالبة بالإفراج عنه‮ ‬،‮ ‬وهددوه انه سيعاقب في‮ ‬حال وردت أية احتجاجات أخرى في‮ ‬المستقبل‮ ‬،‮ ‬وكان جوابه‮ ‬أن احتجاجات الأحزاب والمنظمات في‮ ‬العالم هي‮ ‬مشكلة السجانين وليست مشكلته‮ ‬،‮ ‬وعليهم أن‮ ‬يتحملوها بأنفسهم‮ ‬،‮ ‬فهو معزول في‮ ‬سجنه عن العالم ولا‮ ‬يد له في‮ ‬ما‮ ‬يدور خارج السجن‮.

(8)

سيكون لرحيل والدة مجيد أثره الكبير في‮ ‬نفسه،‮ ‬فقد تدفقت مشاعره بالحزن على شكل أعمال موسيقية لافتة،‮ ‬ومن بينها‮: »‬أغنية الراحلين‮«‬،‮ ‬التي‮ ‬ألفها،‮ ‬بعد عشرة أيام فقط من رحيل أمه،‮ ‬كعمل موسيقي‮ ‬مميز من نوع الكنتاتا شبه الدينية لصوت الصولو سوبرانو،‮ ‬على أن‮ ‬يكون الكورس مشتركا من الرجال والنساء وكذلك الأطفال من الجنسين،‮ ‬ومع أوركسترا السيمفونية‮.‬ كما وضع عملا موسيقيا آخر مستوحى من هذا الفقد‮: »‬حرقة القلب‮« ‬بعد وفاة أمه بخمسة أو أربعة أيام،‮ ‬حيث كتبه كاملا في‮ ‬جلسة واحدة للفيولين المنفردة،‮ ‬وهو اللحن الذي‮ ‬عزفته لاحقاً‮ ‬الدكتورة ويري‮ ‬دين بروفيسورة النشاطات الموسيقية في‮ ‬جامعة أوتاه الأمريكية،‮ ‬وعلم مجيد من الملحق الثقافي‮ ‬الأسبق للسفارة الأمريكية أن هذه المقطوعة الموسيقية حققت نجاحا كبيرا عندما قدمت في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية‮. ‬ يقول مجيد إن حصيلته من الأعمال الموسيقية حتى عام ‮٥٨٩١‬،‮ ‬كانت‮ ‬قائمة على أساس وجهة نظر نقدية قوية وصارمة في‮ ‬نقد ذاته ومحاسبتها حسابا عسيرا،‮ ‬حيث أكمل السيمفونية الثانية‮: »‬دعوة إلى الفرح‮« ‬في‮ ‬يوم عيد ميلاده الأربعين بتاريخ ‮٧١‬أغسطس‮٥٨٩١. ‬كما قام بتأليف الكثير من المقطوعات المنوعة والتي‮ ‬استخدم فيها المقامات الشرقية‮. ‬ كان قراره قد أصبح حازما بأن مستقبله في‮ ‬الموسيقى وحدها،‮ ‬وليس في‮ ‬أي‮ ‬مجال آخر،‮ ‬لذلك عكف على المزيد من دراسة الهارمونية والتوزيع الموسيقي،‮ ‬بالإضافة إلى مادة التأليف الموسيقي‮ ‬على أسس علمية صارمة‮.‬ وتمكن في‮ ‬تلك الفترة من الحصول على مسجل صغير وأشرطة كاسيت مسجل عليها بعضا من أعمال تشايكوفسكي‮ ‬وبيتهوفن وغيرهما،‮ ‬مما أروى شيئا من شغفه الموسيقي‮ ‬وساعده على المضي‮ ‬في‮ ‬مشروعه‮.‬ حيث قام بتأليف أعمال موسيقية قيّمة،‮ ‬منها صوناتة البيانو،‮ ‬والرباعية الوترية الأولى،‮ ‬وعمل على انجاز سيمفونيته الثانية التي‮ ‬تفادى فيها عيوب سيمفونيته الأولى‮.‬ وفي‮ ‬نفس تلك المرحلة قام بتأليف الرباعية الوترية الثانية والتي‮ ‬عزفت لاحقاً‮ ‬على‮ ‬يد فرقة رباعية أدنبرة الوترية في‮ ‬يوم الموسيقى العالمية عام ‮٩٩٩١ ‬محققةً‮ ‬نجاحا كبيرا‮.‬ ستتحول جزيرة جدا الى مصهر للتجارب الابداعية والفنية،‮ ‬وسيقوم مجيد ومنذ السبعينات بتدريس الموسيقى لبعض المساجين،‮ ‬حيث قام بتكوين فرقة موسيقية متواضعة بعد توفر بعض الآلات الموسيقية مثل الهارمونيكا والميلوديكا والكلارنيت،‮ ‬وقامت مجموعة الدارسين بصنع جيتارات من‮ »‬التنك‮« ‬تولى مجيد نفسه شدها باللحام موظفا مهاراته اليدوية التي‮ ‬اكتسبها من عمله في‮ »‬بابكو‮«.‬ ‮ ‬كما قامت المجموعة بإصلاح عود مكسور تم انتشاله من بين أنقاض السجن في‮ ‬المنامة،‮ ‬حيث تولى هذه المهمة خليفة الوردي،‮ ‬ومن ثم تعلم على هذا العود العزف وقراءة النوتة،‮ ‬ومثله فعل إبراهيم سند سلطان وغيرهما من‮ ‬طلبة الموسيقى بإشراف أستاذهم مجيد‮. ‬ وبعد حين ستقوم الفرقة بإحياء عدة حفلات ناجحة في‮ ‬السجن،‮ ‬حضر مدير السجون إحداها بعد أن وجد نفسه أمام الأمر الواقع‮.

(9)

ضم سجن جدا في‮ ‬تلك الفترة مجموعة كبيرة من الكتاب والشعراء والفنانين،‮ ‬ومن أبرزهم قاسم حداد وعلي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬وعبدالله علي‮ ‬خليفة وخليفة اللحدان وعلي‮ ‬الستراوي‮ ‬وإبراهيم بشمي،‮ ‬ومن الموسيقيين‮: ‬إبراهيم سند وخليفة الوردي،‮ ‬ومن الرسامين‮: ‬عبدالله‮ ‬يوسف وخليفة اللحدان،‮ ‬ومن الخطاطين‮: ‬أحمد سرحان،‮ ‬ومن الفنانين الذين‮ ‬يعملون في‮ ‬النجارة الناعمة والتحف‮: ‬عباس الإسكاني‮ ‬ومهدي‮ ‬فتيل وحسن بوعلاي‮ ‬وعبدالله حسين‮ – ‬وغيرهم،‮ ‬وبعضهم حقق شهرة واسعة‮.‬ المصهر الفني‮ ‬والإبداعي‮ ‬الذي‮ ‬تشكل في‮ ‬جدا تعزز أكثر بتوطد العلاقة بين مجيد مرهون وبين كل من أحمد عبدالله سرحان وخليفة محمد اللحدان بعد عام ‮٨٧٩١‬،‮ ‬حيث صهرت الثلاثة صداقة عميقة‮.‬ ‮ ‬كان خليفة شاعرا ورساما،‮ ‬أما أحمد فقد بدأ‮ ‬يتعلم الخط العربي،‮ ‬وأخذ مجيد في‮ ‬تشجيعهما من خلال المناقشات والحوار في‮ ‬القضايا الفنية‮.‬ حفزهم ذلك المناخ على تكوين مدرسة،‮ ‬أطلقوا عليها اسم‮: ‬مدرسة جدا الفنية،‮ ‬وقام خليفة اللحدان،‮ ‬متأثرا بالعمل الموسيقي‮ ‬لمجيد‮: »‬جزيرة الأحلام‮« ‬بوضع سلسلة قيمة من الرسومات عن جزيرة جدا تحت عنوان‮: »‬جولة في‮ ‬جزيرة الأحلام‮«‬،‮ ‬وهي‮ ‬لوحات تسجيلية لمناظر من جزيرة جدا‮. ‬وقام أحمد سرحان بخط عناوين بعض أعمال مجيد الموسيقية ومن ضمنها‮ »‬جزيرة جدا‮« ‬وكذلك‮ »‬دعوة إلى الفرح‮« ‬عنوان السيمفونية الثانية‮.‬ السنوات الطوال لمدير سجن جدا سميث‮ ‬غيرت فيه بعض الأمور‮. ‬وبدأ‮ ‬يتلمس أكثر فأكثر معاناة مسجونيه،‮ ‬لا بل وسيظهر شيئا من التعاطف معهم،‮ ‬وستخف قسوته في‮ ‬التعامل معهم،‮ ‬وقام بإرسال ثلاث رسائل على الأقل لمسؤوليه‮ ‬يطالبهم فيها بإطلاق سراح مجيد مرهون وغيره من سجناء المدد الطويلة،‮ ‬لكنها قوبلت بالتجاهل التام‮.‬ وسرعان ما ضاقت الإدارة العليا منه لما رأته تراخيا في‮ ‬التعامل مع السجناء،‮ ‬خاصة بعد أن شاركهم أحد الإضرابات عن الطعام احتجاجا على سوء معاملتهم،‮ ‬فقاموا بإنهاء خدماته عام ‮٣٨٩١. ‬ وفي‮ ‬الثامن من‮ ‬يناير ‮٦٨٩١ ‬تم نقل مجيد من سجن جزيرة جدا إلى سجن جو عن طريق مكتب إدارة السجون الذي‮ ‬كان‮ ‬يأمل بخروجه من السجن في‮ ‬ديسمبر عام ‮٥٨٩١‬،‮ ‬ولكن أمل المسؤولين في‮ ‬إدارة السجن خاب بسبب رفض هندرسون القاطع للإفراج عن مجيد‮. ‬ رغم الحقد الشخصي‮ ‬الذي‮ ‬كان هندرسون‮ ‬يكنه له،‮ ‬فان مجيد‮ ‬يرى أن نقله إلى سجن جو حمل له بعض الفوائد،‮ ‬بطريقة مكنته من مواصلة العمل على مشروعه الموسيقي،‮ ‬حيث تم وضعه في‮ ‬زنزانة خاصة‮ ‬يستخدمها كمدرسة للموسيقى،‮ ‬وكمكتبة موسيقية مع طاولة خاصة مما سهل عليه الجلوس لتأليف الموسيقى وقتما‮ ‬يشاء،‮ ‬خاصة أن باب زنزانته كان مفتوحاً‮ ‬ليل ونهار‮. ‬ ‮ ‬باتفاق مع إدارة السجن قام مجيد بتكوين فرقة موسيقية صغيرة،‮ ‬فاختار مجموعة من السجناء الذين‮ ‬يصفهم بالذكاء عكف على تدريسهم الموسيقى بكل جدية وصرامة،‮ ‬خاصة وان مدير السجون سمح بإدخال بعض الآلات الموسيقية للسجن‮.

(10)

من خلال المدرسة الموسيقية التي‮ ‬أنشأها في‮ ‬سجن جو،‮ ‬تمكن مجيد مرهون في‮ ‬ما تبقى لديه من سنوات سجنه الطويل من إعداد قائد فرقة بحريني،‮ ‬وعازف فلوت ماهر،‮ ‬وعازف أورجان،‮ ‬بالإضافة لإعداد مدرس موسيقى سعودي‮.‬ طلبة مجيد هؤلاء تحولوا من مروجي‮ ‬أو متعاطي‮ ‬مخدرات إلى‮ ‬فنانين مهرة،‮ ‬وأصبح لدى السجن فرقة موسيقية ذات كفاءة عالية بشهادة ضباط شعبة الموسيقى وكذلك بشهادة من مدير المعهد الكلاسيكي،‮ ‬ووضع مجيد بعض المؤلفات الموسيقية لهذه الفرقة كما قام بتوزيع العديد من الأعمال الموسيقية لها‮.‬ وصارت الفرقة تقدم حفلا سنويا في‮ ‬السجن،‮ ‬بمناسبة الإفراج عن السجناء الذين‮ ‬يصدر عنهم عفو في‮ ‬العيد الوطني‮ ‬في‮ ‬ديسمبر من كل عام‮. ‬ في‮ ‬الآن ذاته استمر مجيد في‮ ‬تأليف الموسيقى،‮ ‬حتى تاريخ خروجه من السجن في‮ ٦٢ ‬أبريل ‮٠٩٩١‬،‮ ‬ومن ضمن ما ألف مقطوعات للفلوت مع الجيتار،‮ ‬ومقطوعات أخرى للفلوت المنفرد وهي‮ ‬التي‮ ‬قام الفنان‮ ‬أحمد الغانم بأدائها فيما بعد‮.‬ ومنذ اليوم الأول لخروجه من السجن أصبح عضوا في‮ ‬فرقة أجراس الموسيقية،‮ ‬وساهم فيها عزفا وتأليفا،‮ ‬ومن ضمن أعماله معها كانت أغنية‮ (‬حبيبتي‮) ‬التي‮ ‬قدمت في‮ ‬المهرجان الثالث للفرقة،‮ ‬ومقطوعة‮ (‬دعوة حنان‮). ‬ وواصل مجيد العمل على انجاز القاموس الموسيقي‮ ‬الحديث الذي‮ ‬كان قد بدأ في‮ ‬جمع مادته منذ عام ‮٥٧٩١‬،‮ ‬وواصل العمل فيه في‮ ‬السجن،‮ ‬حيث أعاد النظر في‮ ‬المجلد الأول والذي‮ ‬يحتوي‮ ‬على إضافات في‮ ‬المداخل والشروح،‮ ‬وعلى وجه الخصوص في‮ ‬علاقة الكمبيوتر بالموسيقى،‮ ‬وأنجزه بعد خروجه،‮ ‬حيث انهمك عليه في‮ ‬الفترة بين‮٠٩٩١ – ٢٠٠٢‬،‮ ‬وسيصدر القاموس قريبا في‮ ‬تسعة مجلدات ضخمة عن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة‮.‬ وتوالت مشاركات مجيد في‮ ‬الحفلات الموسيقية داخل وخارج البحرين،‮ ‬وقدمت العديد من مؤلفاته الموسيقية من قبل فرق موسيقية أجنبية مثل الحركة الأخيرة من الرباعيات الوترية الأولى،‮ ‬والتي‮ ‬أدتها فرقة بيلكن التركية،‮ ‬وهي‮ ‬فرقة رباعية نسائية،‮ ‬وكذلك الرباعية الوترية الثانية والتي‮ ‬أدتها فرقة رباعية أدنبرة البريطانية،‮ ‬وكلتا الرباعيتين حققتا نجاحا،‮ ‬حيث امتدحتهما الصحف في‮ ‬البحرين وفي‮ ‬بريطانيا وتركيا ومجلة الجمعية الدولية للموسيقى المعاصرة عام ‮٩٩٩١.‬ وفي‮ ‬يوم الاحتجاج على شن القوات الأمريكية الحرب على العراق،‮ ‬شارك مجيد في‮ ‬الاعتصام الذي‮ ‬نظمه المثقفون والفنانون والأدباء البحرينيون أمام مبنى الأمم المتحدة في‮ ‬البحرين بتقديم بعض معزوفاته‮. ‬ منذ نحو أسبوعين عندما كان مجيد مرهون في‮ ‬وحدة العناية بالقلب بمستشفى السلمانية،‮ ‬نائما لأيام متواصلة تحت التخدير للتغلب على آثار احتباس السوائل في‮ ‬الرئة،‮ ‬كنا نطل عليه في‮ ‬نومه المؤقت،‮ ‬لكن الطويل،‮ ‬ونسترجع مسيرته الفذة التي‮ ‬كتبت منها بعض الشذرات في‮ ‬هذه المقالات‮. ‬ حين رآني‮ ‬بعد أن رفعوا عنه التخدير هتف بصوته الجهوري‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يسمعه كل من في‮ ‬الممر‮: »‬نحن سقينا الفولاذ‮«!‬ ذلك هو عنوان رواية شهيرة من الأدب الثوري‮ ‬العالمي،‮ ‬ما زال صداها‮ ‬يتردد في‮ ‬ذاكرته،‮ ‬هو الذي‮ ‬سقى الفولاذ حقيقة لا مجازا‮.‬ تنتهي‮ ‬هذه الحلقات،‮ ‬لكن الحديث عن مجيد لم ولن‮ ‬ينتهي‮.‬