المنشور

القرية الكونية: عولمة لم تتعولم


كان مارشال ماك لوهان بين أوائل من تحدثوا عن “القرية العالمية”، وسرعان ما جرى تداول هذا المصطلح على نطاق واسع في أرجاء المعمورة، بل أن “أطراف” النظام الرأسمالي العالمي، تمييزا لها عن مركزه، صارت تروج لهذه المقولة بحماس شديد مصدقة إنها محتواة بالفعل داخل هذه القرية ، وان لها من الحقوق والواجبات ما لدى سكان القرية الآخرين.
 
التكنولوجيا الحديثة، خاصة تكنولوجيا المعلومات ووسائطها: الكمبيوتر وشبكة الانترنت ومحطات التلفزة التي تبث عبر  الأقمار الصناعية قادرة على خلق هذا الوهم وتزييف الوعي، لأنها تحجب تلك الفوارق الجوهرية بين الواقع، من حيث هو واقع بشر من لحم ودم وأفكار ومصالح متضادة، وبين الواقع الافتراضي الذي يوحي بنهاية جغرافية المكان، ونشوء جغرافيا جديدة خالية من الحدود، أو لا تحدها حدود.
 
إزاء هذا الكرنفال الواسع من النشوة بسقوط الواقع نفسه أمام سطوة الواقع الافتراضي، يجري إغفال حقيقة أن المتمكنين من استخدام وسائط هذا الواقع البديل، يظلون أقلية في هذا العالم الواسع من القارات والثقافات والانتماءات العرقية والدينية الذين ما زالوا أبعد من ما يكونوا عن أن يتحولوا إلى سكان قرية صغيرة يعرفون بعضهم بعضا.
 
إن التقانة الحديثة ، كما كان الحال فترة الثورة الصناعية، هي وسائل سيطرة ونفوذ بيد القوى الكبرى، القوى النافذة القادرة على إخضاع العالم ونهب ثرواته وغزو أسواقه ببضائعها. وتجير هذه الانجازات العلمية الكبرى لتحقيق الأهداف الخاصة بها، خاصة وان ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على منجزات الثورة المعلوماتية والوسائط الرقمية يشكل الآن حوالي 80% من الناتج العالمي الخام، حيث يجري دمج البحث العلمي في الاقتصاد، لا بل وإعطائه دورا قياديا فيه ليذهب به نحو اكتشافات ومواقع جديدة . وهو أمر يعني أن البلدان المتخلفة، مهما سعت لمجاراة العالم المتقدم ستظل متخلفة، وتكفي الإشارة إلى أن حصة البحث العلمي في العالم العربي لا تتجاوز 0,1%، فيما تبلغ في الدول المتقدمة نسبة تفوق 3%. وهذه النتائج المتناقضة للتدويل الاقتصادي لا تنسحب على البلدان النامية وحدها، وإنما تترك آثارها السلبية على المجتمعات المتقدمة ذاتها.العولمة لا تجلب الثراء وحده، وهي لما تزل قارات متضادة من المصالح وليست قرية كونية للتكافل .

برأي الكاتب المصري جميل مطر فإن العولمة فشلت في الأمر الأساس، أي في أن تكون عولمة، برأيه أن العولمة لم تتعولم بعد، لأنه إذا استثنينا المستفيدين منها في الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى والشرائح المتعولمة في بعض البلدان النامية، فإن غالبية سكان الكوكب ما زالوا خارج منافع هذه العولمة التي يبشر بها ليلاً ونهاراً. إنهم بالأحرى ضحايا هذه العولمة، وسيظلون كذلك، وتقول مؤلفة كتاب” السيطرة الصامتة: “”لقد انتصرت الرأسمالية، ولكن غنائمها لم تصل إلى الجميع، وتتجاهل الحكومات مواطن الضعف في هذه الرأسمالية، وهذه الحكومات يزداد عجزها عن معالجة نتائج أنظمتها بسبب إجراءات السياسة التي أدخلتها”.
 
في مختلف العواصم الأوروبية، لا بل في الولايات المتحدة نفسها مظاهرات تضم عشرات الألوف، يمثلون المنظمات غير الحكومية التي تناضل من أجل أن تكف عن أن تكون العولمة في مصلحة فئة محدودة تزداد ثراء وبذخا، مقابل الإفقار المتزايد لشعوب بكاملها.المتظاهرون في باريس ولندن وبرلين وفي سياتل بالولايات المتحدة يرفعون يافطات تقول “العالم ليس سلعة”، معبرين عن الاحتجاج على التوجه الرامي لإلغاء ما تبقى من قيود على التجارة الخارجية، بإزالة الحواجز أمام ما تبقى من سلع لتشمل الخدمات الزراعية ومشاريع القطاع العام والاستثناءات الخاصة بالاستثمار والتي تعزز الرأسمال الوطني.إن هذا يعني بالأرقام أكثر من ستين في المائة من الإنتاج العالمي للثروات، وإذا حدث ذلك تكون العولمة الاقتصادية قد أطبقت الخناق على العالم.
 
أول ما يخطر على البال حين رؤية المشاهد المصورة لهذه المظاهرات هم أولئك العرب الذي ينظرون للعولمة كما لو كانت طبخت في بيوتهم، والذين يتحدثون عن هذه العولمة كما لو كانت جنة أخرى على الأرض، دون تبصر في الأوجه المعقدة للعولمة، التي إذ تتيح تدفق الصور والمعلومات وحرية الانتقال وتداخل الثقافات، فإنها تكرس، في المقابل، المزيد من الإفقار للطبقات المحرومة وتدمر البيئة وتستنزف ما تبقى من ثروات الكوكب.
 
إن من يتظاهرون في العواصم والمدن الغربية ضد هذا الوجه من العولمة إنما ينتسبون إلى تلك البلدان التي تشكل روافع هذه العملية المعقدة والمتناقضة، وبعبارة أوضح تلك البلدان التي تربح من وراء هذه العولمة التي ليست في الجوهر سوى رأسمالية عصرية، رأسمالية القرن الحادي والعشرين التي تعني كما عنت سابقاتها المزيد من الفقر والحرمان للشعوب الفقيرة، والتي تعني المزيد من الاستقطاب الحاد والعميق بين شريحة محددة تمثلها الشركات متعدية القوميات وبين غالبية شعوب العالم التي ستعاني كما عانت سابقا من الإفقار واستنزاف الثروات.
 
 وهؤلاء المتظاهرون يمثلون كتلة نوعية لأنهم ينشطون باسم منظمات جماهيرية واسعة، تحتج على تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء، فيما يتفشى الفقر في صفوف أغلبية سكان الأرض.  بل أن وزير الاقتصاد الفرنسي الأسبق دعا إلى اعتماد “ميثاق للعولمة، يخفف من غلواء القسمة غير العادلة، ويؤمن إستراتيجية مشتركة للتنمية المتبادلة”. وثمة من يرى أن العولمة ذات الوجه الإنساني التي دعا إليها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ليست سوى توميه للتستر على الوجه غير الإنساني لهذه العولمة التي ألحقت الضرر بالبيئة والتنمية المتوازنة وقواعد العمل وحقوق الإنسان، فضلاً عن معاداتها للديمقراطية والشفافية السياسية.
 
في الأدبيات الاقتصادية والاجتماعية يدور نقاش طويل حول آليات العلاقة بين مجموعة البلدان التي كانت تدرج في خانة ما يعرف ب “العالم الثالث” وبين العالم المتقدم، او بلغة سمير أمين العلاقة بين المركز والاطراف، او ما تدعوه بعض المدارس الاقتصادية في امريكا اللاتينية خاصة، بنظرية التبعية، ولم تؤد التطورات الدولية بعد تداعي نظام القطبين، وتبوؤ المعسكر الغربي لصدارة العالم منفرداً إلا الى زيادة هذا النقاش حدة وعمقا، ويتمحور احد مفاصل النقاش حول ما اذا كانت هذه الآلية تميل نحو العزل او نحو الدمج، وهما كما نرى آليتان متناقضتان في الشكل، ولكن مساحة التداخل بينهما، رغم ذلك كبيرة.
 
في السابق كانت السيطرة او الهيمنة التقليدية المباشرة اذ تحكم سيطرتها على البلدان الفقيرة او النامية تحرص على عزل هذه البلدان بابقائها في دائرة الجهل والتخلف والعوز واستخدامها كمواطئ نفوذ إما للهيمنة على ما فيها من ثروات ان وجدت او تحويلها الى نقاط على طرق التجارة الدولية او كجسور أمامية في الإستراتيجية العسكرية خاصة في تلك الفترة التي اشتد فيها التنافس بين الضواري الاستعمارية او في فترة الحرب الباردة.
 
لكن الحديث يدور الآن عن الدمج لا عن العزل، بمعنى إشراك هذه البلدان في بنية الاقتصاد العالمي، ويتحدث البعض عن تعميم مستوى الرفاه العالمي، وتوحيد نسق الاستهلاك وإذابة الحواجز بين الشمال والجنوب، فبرأيهم انه في الاقتصاد الحديث القائم على التفريع والتخصيص ليس مطلوبا من جميع بلدان العالم ان تصبح بلدانا صناعية او منتجة، يكفيها مثلا ان تكون بلدان خدمات او سياحة وما الى ذلك.
 
لكن هذا الرأي وان تضمن عناصر صحيحة، فإنها تأتي مخلوطة وعن قصد بعناصر اخرى مغرضة، ذلك ان الدمج الراهن هو في حقيقته نوع جديد من العزل، يعيد تشكيل مفهوم التبعية وصياغته واعادة تقديمه برداء جديد، وهو يرمي الى نفي مسؤولية التقسيم الدولي الراهن للعمل عن تخلف “العالم الثالث”، كما كان يُعرف سابقاً، وفقره، ورد ذلك الى عوامل داخلية خاصة بكل بلد من بلدانه، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير المنظمات الدولية ان الهوة بين الشمال والجنوب هي الى ازدياد لا إلى تضاؤل، ويزداد الأفق انسداداً بوجه الغالبية الساحقة من الدول النامية، رغم كل المساعي التي تبذل  عبر السينما والشبكات الاجتماعية على تقديس ثقافة السوق  وتسويقها في صور ملونة، في الوقت الذي الذي يتم فيه التحطيم الواعي لأي نقد، هدفه تبديد هذه الأوهام، وإزالة الدثار الخادع عنها.
 
ان ثنائية العزل والدمج ليست بعيدة عن ثنائية التوحيد والتشظي التي تفعل هي الأخرى فعلها في عالم اليوم، عالم ما بعد الحرب الباردة تحديداً، فرغم ان العالم يسير قسراً او طوعاً نحو وحدة ظاهرية، الا ان مظاهر التشظي والتفكك وانقسام العالم الى دويلات يسير جنبا الى جنب مع هذا التوحيد، بل كأن آلية التشظي هذه تبدو في بعض الحالات كما لو كانت مجرد مظهر من مظاهر هذا “التوحيد” الظاهري، على النحو الذي شرحه بالتفصيل كل من جان زيغلر وريجيس وبريه في مناظرتهما الشهيرة التي صدرت ترجمة عربية لها، بعنوان:”كي لانستسلم”.
 
* نُشر في ملحق “شرفات” بجريدة عمان بتاريخ 9/4/2013