المنشور

انتصار تونس عودة الإسلام السياسي إلى حجمه الطبيعي



لئن كانت التجربة الحداثية التونسية هي من أكثر التجارب العربية تقدمية وبروزا، فإن خروج تونس من الانتخابات التشريعية الأخيرة منتصرة بالمعنى السياسي للكلمة، من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة من التجربة الديمقراطية الواعدة، حيث تم إجراء هذه الانتخابات بسلاسة وهدوء، ودون ضوضاء أو تدافع سياسي، واختار التونسيون ممثليهم بكل حرية، مما حدا بالمراقبين إلى القول: إن تونس قد أصبحت اليوم «المختبر» الذي ستُصنع فيه تجربة الديمقراطية في العالم العربي، الذي ما يزال يموج بالفوضى والاضطرابات، فبعد نجاح العملية الانتخابية لم يعد مهما – أمام انتصار تونس – من ينجح: اليمين أم اليسار أم الوسط، النهضة أم نداء تونس، ومن سيفوز بتشكيل الحكومة ورسم ملامح المرحلة القادمة؟


بالرغم من ان هذه الانتخابات قد أعادت الإسلام السياسي الى حجمه الطبيعي بعد ان كان في انتخابات 2011م استحوذ على 41% من مقاعد البرلمان، وذلك لأن التجربة التونسية قد أسست بذلك كله -رغم جميع التحديات والصعوبات والمخاطر التي تحيط بها – لنموذج عربي واعد للتداول السلمي على السلطة.
نجاح تونس اللافت – وسط محيط إقليمي مضطرب – يعود إلى عدة عوامل، من أهمها في تقديري:


أولا: نضج الشعب التونسي وتطلعه الدائم إلى تحقيق الحرية والديمقراطية وفق نظره واقعية متوازنة لا تغرق في الإيديولوجي، حيث يتميّز المجتمع التونسي بتركيبة اجتماعية منسجمة تحتل ضمنها شريحة الفئة المتوسطة مكانة أساسية من مجموع السكّان. وتعتبر هذه الشريحة صمّام الأمان والضامن الأساسي لتماسك البناء المجتمعي ولقوّة النسيج الاجتماعي وللاستقرار الاجتماعي بالرغم من الصعوبات الاقتصادية الجمة


ثانيا: قوة المجتمع المدني التونسي الذي أسس لكتلة جبارة قادرة على فرض المعادلات السياسية أو التأثير فيها، حيث انتهت أسطورة النخبة وبرزت في المجتمع ما يمكن ان نسميه قوة الفاعلين الاجتماعيين، من نقابات (خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة) وأحزاب ومؤسسات ثقافية واجتماعية وحقوقية ونسوية، من كافة الفئات، حيث توجد في تونس منظمات شعبية هي أقرب إلى منتديات ثقافية ومهنية، تبرز آراء مختلف الحساسيات الفكرية والفئات الاجتماعية، وتشارك في ممارسة السلطة من خلال الضغط على الهيئات المنتخبة.


حيث كان واضحا أن لقيام مجتمع مدني حر، تعددي، لا بد من وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات، التي تعمل في ميادين مختلفة بصفة مستقلة، مثل الأحزاب السياسية، والجمعيات بمختلف أهدافها، والنقابات التي تدافع عن مصالح أعضائها، والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن الأفراد وعن قضايا معينة، والأندية الرياضية والترفيهية وغيرها. وتوفر كل مكونات المجتمع المدني قناة للمشاركة الاختيارية في المجال العام وفي المجال السياسي، وتعد أداة للمبادرة الفردية المعبرة عن الإرادة الحرة، والمشاركة الإيجابية النابعة من التطوع، قصد المساهمة في التطوير والتحديث.


ثالثا: دور المرأة التونسية كقوة مجتمعية وثقافية نضالية، في مواجهة الاتجاهات المحافظة التي برزت إبان حكم النهضة، وخصوصا عندما شعرت المرأة بأن مكتسباتها مهددة بالتراجع (خاصة في مجال الأحوال الشخصية) فاستنفرت قواها وصنع جهدها فارقا مهماً، فقد كانت المرأة التونسية إبان النضال ضد السياسات والنزعات الرجعية في مقدمة القوى المناضلة والرافضة لأي تراجع على صعيد المكتسبات الحضارية التي تحققت لها، ولذلك كانت من بين أهم القوى التي استنفرت قواها لمواجهة هذا التهديد الذي شكله الإسلام السياسي، ولذلك كان حضورها ونشاطها لافتا في هذه الانتخابات الأخيرة.


رابعا: نضج القوى السياسية الأساسية (الإسلامية أو الليبرالية او اليسارية) والتي برزت كقوى معتدلة، تمتلك القدرة على إدارة الصراع لصالح تونس ولصالح الحرية، فحتى الإسلام السياسي التونسي في صورته التي تمثلها حركة النهضة، (في الحكم أو في المعارضة)، فقد كان واضحا انه ينأى نسبيا عن الخطاب التكفيريّ البدائيّ المتوحش، وكذلك التيار العلمانيّ الأساسي (في المعارضة أو في الحكم)، بدا واضحا انه لا يستمدُّ وجودَه أو قوته من معاداة الخصم الاسلامي، وإنما من مشروع مدني سياسي هو استمرار للتيار العام في الثقافة التونسية والتجربة السياسية النضالية خلال العقود الماضية.


خامسا: عدم تدخل المؤسستين العسكرية والأمنية في الشأن السياسي العام، فالقانون الانتخابي التونسي لا يسمح لأفراد المؤسسة العسكرية والأمنية بالمشاركة في العملية الانتخابية، كما لا يسمح لهما بالتدخل في الشأن السياسي بأي شكل من الأشكال، بما حرر التجربة الديمقراطية من أية ضغوط من خارج آليات عمل المجتمع السياسي..


سادسا: الاجماع الوطني على ادانة العنف ورفضه ومحاربته بكافة الوسائل ورفض أي شكل من اشكال التبرير بما ضمن القدر المطلوب من تحصين الجبهة الداخلية قبل كل شيء، وضمان إجماع وطني حول رفض الفوضى والعنف والخروج عن القانون.


إن هنالك مؤشرات مطمئنة على نجاح التجربة الديمقراطية التونسية، ويبدو ان المجتمع التونسي قد اختار النموذج الديمقراطي الذي يناسبه والذي لا يمكن ان يقتصر على الجوانب الفكرية والسياسية والحقوقية، لان حقوق الإنسان تبدأ بأبسط حقوقه المادية في العيش الكريم إضافة إلى حقه في الصحة والتعليم والعمل وهذا هو التحدي الأكبر الذي سوف يواجه أي حكومة جديدة.

جملة مفيدة


هناك اليوم، من يتحدث عن «انقلاب أبيض» على الثورة في تونس، استنادا إلى ذرائع كثيرة، من بينها عودة بعض رموز النظام القديم عبر أحزاب جديدة، للبرلمان والحكومة والحقيقة، أن مثل هذه المزاعم لا تصمد طويلاً أمام حقيقة أن الشعب التونسي، هو من اختار وقرر بملء حريته، وأن ليس كل من كان في موقع المسؤولية في العهد السابق، يستحق الإعدام السياسي وقانون العزل والحجر والاجتثاث وفقا للوصفة العراقية سيئة الصيت، كما أن ليس كل من جاءت بهم الثورة من (ثوار)، يستحقون التكريم والتبجيل أو حتى الحصول على مقعد في البرلمان..



جريدة الأيام
3 نوفمبر 2014