المنشور

الوجوه المتعددة لعبدالله خليفة


كلمة د. حسن مدن في حفل المنبر التقدمي لتأبين الأديب عبدالله خليفة
9 ديسمبر 2014


الوجوه المتعددة لعبدالله خليفة


 


 
أولا: عبدالله خليفة الصديق


 كنا ثلة من الأصدقاء نجتمع كل أسبوع، أحياناً في الهواء الطلق، في منطقة إسمها الهورة بالقرب من سلماباد يوم كان في البحرين بر. من أفراد هذه الثلة من رحل ومنهم من ندعو له بطول العمر: أول الراحلين وأبرزهم الشاعرالشهيد سعيد العويناتي، والشاعر علام القائد، وأخيراً عبدالله خليفة نفسه. من الباقين علي عبدالله خليفة وابراهيم بوهندي وسلمان الحايكي وعبدالقادر عقيل وأنا. كان العدد يزيد حيناً فينضم إلينا أصدقاء آخرون كايمان أسيري وعبد الصمد الليث وغيرهما، وأحياناً كان يقل، حين كان الشهيد سعيد العويناتي يعود لمواصلة دراسته في الجامعة ببغداد.

 في هذه الجلسة الأسبوعية يقرأ الأصدقاء تجاربهم الابداعية وآخر كتاباتهم: في الشعر، وفي القصة القصيرة، ويعطي كل منا رأيه في تلك التجارب، وتجري متابعة جديد الحركة الأدبية والثقافية الفتية يومها بمضامينها وأشكالها الجديدة.

 كانت البحرين ساعتها غير بحرين اليوم: مليئة بالوعود والأفكار الجديدة وممتلئة بحركتها الوطنية العابرة للمذاهب والطوائف، وبنهوضها العمالي وبتوقها للديمقراطية الذي جرى قمعه، فيما بعد، بقانون أمن الدولة وما نجم عنه من تدابير.

 ذهب عبدالله خليفة إلى السجن شأنه شأن العشرات من مناضلي الحركة الوطنية ليمكث فيه سنوات، وأستشهد سعيد العويناتي تحت التعذيب، ووجدت نفسي وآخرين في منفى ظنناه طارئاً وقصيرا، فاستطال عقوداً، وتفرق الجمع. 


 ثانياً: عبدالله خليفة كاتب القصة القصيرة

 ولج عبدالله خليفة عالم القصة القصيرة بعد سنوات قليلة من نشر قصص محمد عبدالملك ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف وسواهم. في البداية كان ينشر قصصه باسم مستعار، وبحكم إشرافي على الصفحة الثقافية في مجلة صدى الأسبوع، فاني كانت دائم الالتقاء به في مبنى المجلة، حيث يأتي حاملاً قصصه الجديدة بذلك الإسم، كما كان ينشر بعضها باسمه الحقيقي. لا جدال ان عبدالله كان أكثر كتاب القصة القصيرة غزارة في الانتاج، وأطولهم استمراراً في كتابتها، حيث لم يتوقف عن ذلك حتى وفاته.

ثالثاً: عبدالله خليفة الروائي

 أتى عبدالله خليفة الى الرواية من باب القصة القصيرة. شِأنه في ذلك شأن محمد عبدالملك وآخرين من كتاب القصة القصيرة الذين تحولوا الى كتابة الرواية. كما في القصة القصيرة فان عطاء عبدالله الروائي هو الأغزر والأكثر تنوعا بين نظرائه، حكماً من المعطيات التي توفرت بعد رحيله يمكن القول انه ترك لنا نحو ثلاثين رواية، بعضها منشور وبعضها لايزال على شكل مخطوطات. تفاوتت موضوعات روايات عبدالله، ليندرج بعضها في إطار الواقعية النقدية، وربما الواقعية الاشتراكية في أعماله لأولى، وبعضها أتى في اطار الرواية التاريخية كما هو حال رواياته في السنوات الأخيرة عن الخلفاء الراشدين.


 رابعاً: عبدالله خليفة الناقد

 في ساحة أدبية ثقافية وأدبية يشح فيها النقد ويندر، لم يكتف عبدالله خليفة بعطاءه الابداعي في الرواية والقصة القصيرة، وإنما ولج باكراً عالم النقد الأدبي، فكتب مقالات ودراسات نقدية عن تجارب زملائه من الكتاب البحرينيين سواء المخضرمين منهم مثل محمد عبدالملك وأمين صالح أو حتى من الأجيال الجديدة. لم يكتف عبدالله بنقد التجارب الأدبية المحلية، السردية منها بشكل رئيس، وإنما انفتح على ساحة الابداع الخليجي في الكويت والامارات والسعودية وغيرها، وقدم الكثير من الدراسات في الملتقيات الأدبية الخليجية حول هذه التجارب. أكثر من ذلك انفتح عبدالله على الأفق النقدي العربي فكتب دراسات مهمة بينها بحثه المهم عن الرواية عند نجيب محفوظ.

 خامسا: عبدالله خليفة الباحث في الفكر والفلسفة

 بحكم مثابرته في البحث وانكبابه على البحث والمطالعة إستوى عبدالله خليفة على عدة فكرية ومنهجية عميقة مكنته في مرحلة لاحقة للذهاب بعيداً في البحث الفكري والفلسفي، حيث توغل في دراسة التاريخ الفكري الاسلامي والعربي، وهو جهد أثمر بحثه المهم عن النزعات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية، وعلى غرار حسين مروة اعتمد عبدالله خليفة المنهج المادي، الديالكتيكي والتاريخي، في دراسة الظواهر الفكرية والفلسفية وعلاقتها بالصراعات الاجتماعية والسياسية، وتحولات البنى الاجتماعية على مدار التاريخ الاسلامي الذي درسه. هذا الانكباب على دراسة التاريخ الاسلامي أتاح له مادة ثرية فائضة، استفاد منها في كتابة رواياته التاريخية.


 سادساً: عبدالله خليفة كاتب المقال الصحافي

 بعد فصله من التعليم بسبب مواقفه الوطنية، باتت الصحافة بعائدها المتواضع هي مصدر عيش عبدالله خليفة. في الصحافة ظل عبدالله وفياً لمبادئه ومواقفه. اختط لنفسه في مقاله اليومي نهجاً لم يحد عنه، هو نهج الفكر التنويري والنقدي الذي لم يهادن فيه الدولة ولا مايراه أخطاء وقصوراً في أداء المعارضة. يكفي عبدالله فخرا وشرفاً أنه حافظ على ثبات ومبدئية موقفه في أصعب اللحظات في تاريخ الوطن التي إنحدرت فيها الصحافة عندنا الى مستوى التهريج والسباب والشتائم، واستبيحت صفحات الجرائد من الدخلاء على الكتابة والإعلام الذين حولوها لى مصدر للارتزاق.

 سابعا: عبدالله خليفة المناضل

 ربما كان عليّ أن أبدأ بتقديم عبدالله خليفة بهذه الصفة، ولكن لأنه لم يكن مناضلاً عادياً، إرتأيت أن أقدم مآثره الأدبية والفكرية التي لم تنفصل للحظة عن موقفه ودوره كمناضل، التحق منذ سنوات صباه طالباً بالمرسة الثانوية في صفوف جبهة التحرير الوطني، مُنَظِماً ومُثَقِفا للخلايا، ومنخرطاً في العمل الجماهيري، وما زلت أذكره واقفاً عند منعطف أحد شوارع القضيبية يوم الانتخابات النيابية في ديسمبر 1973 موزعاً ملصقات مرشح كتلة الشعب في تلك الدائرة، محسن مرهون، حاضاً الناخبين على التصويت له. دفع عبدالله ضريبة انحيازه الوطني بالسجن لسنوات طويلة وبالفصل من العمل وبالمحاربة في الرزق، وظل حتى آخر لحظة في حياته متعففاً، قانعا بدخله المتواضع ككاتب صحافي، ومنصرفاً بعقله وكامل قواه إلى الكتابة والبحث، مهملاً صحته، كأنه كان على عجلة من أمره، لينجز ما استطاع من مشاريع أدبية وفكرية تشكل جزءاً مضيئاً من الذاكرىة الابداعية والثقافية لهذا الوطن.

 عن ثمانية وستين عاما خطف الموت عبدالله خليفة، وفي أدراجه وعقله الكثير من المشاريع التي لم يمهله الموت لانجازها. ولكن ما بين أيدينا من نتاجه ثروة لاتقدر بثمن لنا وللأجيال القادمة من أبناء وبنات هذا الوطن، الذين سيظل لهم منارة للضوء. للتنوير. للتقدم. للحرية. وللكفاح من أجل وطن حر وشعب سعيد.