المنشور

تركيا وأوروبا ..عشم إبليس في الجنة



فتحت تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية «ذراعيها»؛ منذ اندلاع
الأزمة السورية ربيع عام 2011، لاستقبال الفارين من الحرب الأهلية الدائرة على
امتداد الأراضي السورية كافة، بين قوات النظام والموالين له من جهة، وبين الجماعات
التي انتظمت وحملت السلاح لإسقاط النظام. 
  
وتحولت الحدود التركية المحاذية للشمال السوري، إلى ما يشبه مراكز
الاستقبال والتجمع الأولى بمدينة بيشاور الباكستانية الواقعة إلى الشمال على
الحدود مع أفغانستان ومدينة كويتا الباكستانية غير البعيدة عن قندهار الأفغانية،
في مرحلة تالية مما سُوِّق باسم «الجهاد الأفغاني».. حتى وصل عدد اللاجئين السوريين
إلى تركيا إلى نحو 1.8 مليون لاجئ. 
ولم
تخفِ أنقرة نواياها بشأن «استثمارها» المادي والسياسي «الوفير» في الأزمة السورية،
من حيث دأبها منذ البدء على إقامة ما أسمته منطقة عازلة داخل الحدود السورية
المتاخمة لحدود مدنها الجنوبية عنتاب وأضنة، تشمل مدن منبج وإعزاز وصولاً إلى حلب
وإدلب وجسر الشغور، ربما مكنتها ظروف تغيير النظام في دمشق إلى ضمها لاحقاً إليها
على غرار لواء الإسكندرون ومن ضمنه مدينة أنطاكية، الذي منحته سلطات الانتداب
الفرنسي على سوريا (1920- 1946) لتركيا سنة 1939، وذلك بما يخالف بنود اتفاقية الانتداب
بالحفاظ على وحدة أراضي الدولة المنتدب عليها. والهدف الثاني المضمر يتعلق بطموح
تركيا الاستراتيجي في تعزيز موقعها وريادتها كنقطة ترانزيت عالمية لشبكة أنابيب
نقل الغاز من مناطق الجوار الآسيوي إلى أوروبا. 
لكن
وبعد أن طال أمد الأزمة السورية، وبدأت تركيا تشعر بوطأة كلفتها المادية والبشرية
والأمنية، على غرار ما راحت تشكله مدن «التجميع والتجهيز» الباكستانية من تهديد
للأمن القومي الباكستاني، وبعد أن بدأت تشح مساعدات أصدقاء سوريا، فقد اهتدت
القيادة التركية لخيار نقل العبء البشري للأزمة السورية إلى الشركاء الأوروبيين.
وبعد «فتح ذراعيها» في أول الأمر لاستدراج أكبر كتلة بشرية سورية إلى أراضيها
للمثول كأحد الأوجه الصارخة لأزمة النظام السوري، فقد قررت هذه المرة «فتح صنبور»
اللاجئين السوريين الذين يقيمون لديها للهجرة إلى أوروبا عبر اليونان من أجل
إغراقها وإجبارها على التفاوض معها بشروط، من بينها نيل عضوية الاتحاد الأوروبي. 
وسافر
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي، بتاريخ 5
أكتوبر/تشرين الأول 2015، في زيارة دولة اجتمع خلالها مع قادة الاتحاد الأوروبي،
وطلب منهم ثمناً مالياً لوقف الصنبور، عربونه السماح للأتراك للدخول من دون تأشيرة
إلى الاتحاد الأوروبي، كمقدمة لقبول عضويتها في الاتحاد. إلّا أن أردوغان لم يحصل
من الأوروبيين سوى على تعهد بتقديم مساعدة مالية إضافية قدرها 3.1 مليار يورو
لإنفاقها على اللاجئين السوريين، بينما رفُض بصورة غير مباشرة طلبه إعفاء الأتراك
من تأشيرة دخول الاتحاد الأوروبي.  
كان
أردوغان بحاجة ماسة لكي يقدم الاتحاد الأوروبي لحزبه الحاكم «العدالة والتنمية»،
ما يمكنه من تسويقه للعامة في الانتخابات البرلمانية المصيرية التي جرت في الأول
من نوفمبر/تشرين ثاني الجاري. وبالفعل فقد خصته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
بزيارة دعماً له ولحزبه الحاكم، قبل بضعة أيام من الانتخابات التي كان يفترض أن
يكرر فيها الحزب ما حصل له في انتخابات شهر يونيو/حزيران الماضي، حين خسر أغلبيته
البرلمانية التي يملكها منذ 13 عاماً، واضطر للذهاب لانتخابات مبكرة في الأول من
نوفمبر/تشرين ثاني. وقد استرد فيها الحزب بالفعل أغلبيته بفضل مثل هذا الدعم
وبفضل، وهو الأهم، الابتزاز الذي مارسه على الناخبين بشعار مغلف مفاده «إمّا أنا
أو الفوضى»، التي مهد لها بإعلان الحرب على الأكراد واستدراج المشاعر القومية
للكتلة الشعبية التي تصوت عادةً لحزب الحركة القومية التركي. ونحسب أن الناخبين
الأتراك صائبون في تصويتهم لحزب الإخوان المسلمين التركي، وذلك لتجنب انتقامه،
فيما لو فشل، من اقتصاد البلاد الذي يهيمنون عليه وشعبها، على غرار ما فعله إخوان
مصر. 
ولكن
ما إن انفض المولد وتحقق ما أراده أردوغان وحزبه، وكذلك الدول القائدة في الاتحاد
الأوروبي، حتى عاجل الأوروبيون «شركاءهم» الأتراك بالرسالة الجديدة الأوضح المؤكدة
على استمرار رفضهم قبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، حين أصدرت مفوضية
الاتحاد الأوروبي الثلاثاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني، تقريراً انتقدت فيه بشدة تراجع
تركيا في تطبيق حقوق أساسية ديمقراطية مثل حرية الرأي والتجمهر، وتقهقر جهود
مكافحة الفساد، وعدم إحراز أي تقدم منذ عام 2014 في بناء نظام قضائي مستقل، بل إن
استقلال القضاء ومراعاة مبدأ فصل السلطات تم تقويضهما، بحسب التقرير، الذي انتقد
أيضاً تدهور علاقات تركيا بالأكراد. ويُستدل من التقرير أن عيون الاتحاد الأوروبي،
ممثل في مفوضيته، تراقب وتتابع كل شاردة وواردة في تركيا للتقرير بشأن عدم أهليتها
لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي. فالذي أشرف على التقرير وأذاعه على وسائل الإعلام هو
المفوض الأوروبي المختص بسياسة الجوار، ومفاوضات توسعة عضوية الاتحاد «يوهانس هان».
صحيح
أن توقيت إعلان التقرير بعد ظهور نتائج الانتخابات التركية والاطمئنان إلى فوز حزب
العدالة والتنمية فيها، كان مقصوداً، لأنه لو كان أُعلن قبلها، لكان أثّر حتماً
على مزاج الناخبين في غير صالح الحزب الحاكم، ولكان الحزب خسر أيضاً أصوات
القوميين الأتراك التي حولوها جزئياً من حزب الحركة القومية إلى حزب العدالة
والتنمية فزعةً للحزب الذي قدم نفسه على أنه حامي حمى تركيا من الأكراد، بعد أن
أعلن الحرب عليهم لكسب تعاطف الناخبين.  
ولكن
الصحيح أيضاً أن إعلان المفوضية الأوروبية لتقريرها فور انتهاء الانتخابات
التركية، هو بمثابة رسالة مضمونها أن حلم تركيا بقبولها عضواً فاعلاً في الاتحاد
الأوروبي، مثل عشم إبليس في الجنة. فأوروبا لا تريد تحمل أعباء وفائض مشاكل تركيا
بمختلف ألوانها الديمغرافية والاقتصادية والثقافية غير القابلة، من وجهة نظر
الأوروبيين، للتكيف والانسجام مع نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
الأوروبية. 
  
  
05/12/2015