المنشور

فلسفة محضة ؟ الفلسفة صراع فكري في حقل السياسة، ومهمتها تغيير العالم لا تفسيره









“جميع
البشر فلاسفة”، هذه هي احدى المقولات الاساسية التي يكررها الكُل بفعل هيمنة
غرامشي الطاغية. لكن هل هذه المقولة صحيحة ؟ أكل البشر فلاسفة ؟









.




نعم ولا








.




كل البشر فلاسفة  “الفلسفة البديهية”، ولكن ليس الكل “فلاسفة”
بالمعنى المحدد للكلمة









.




لنضع هذا الكلام على
جانب للحظة









.




ما الذي اكتشفه ماركس
؟ “ فلسفة” جديدة ؟ أم “ علماً “ جديداً ؟. نحن نسمع في عدة مواضع، ولا سيما في
كتاب ماركس مثلاً ( الايديولوجيا الألمانية – 1845) نقضاً لكل فلسفة بإعتبارها
وهماً او خيالاً، وفي عدة مواضع أخرى حديثاً عن “ فلسفة” ماركسية ( في صراعات
إنجلز او لينين). مريب حقاً، خطاب واحد يحتوي على امرين متناقضين









.




حقاً الامر سيكون
مريباً اذا نظرنا  إلى هذه المسألة بشكل “
واحدي” : إما فلسفة او علم. لكن اذا فهمنا الامر على نحو : إن إكتشاف ماركس كان
بالأساس إكتشافاً علمياً : ايّ حدثاً معرفياً، بإيجاد علم جديد الذي هو علم
التاريخ، سنفهم لِمَ توجد احاديث فلسفية كذلك. نحن نعلم إن احدى الاوهام التي
تنتجها الفلسفة هو ذاك الوهم الشمولي المطلق : “ فلسفة محضة ”، إنها امر خارج مدار
العالم العملي، خارج عن الممارسة، إنها فعل “تأملي” بحت. لكن هذا هو فعل “
إنكاري” لوظيفة الفلسفة نفسها









.




يقول كانط، تبعاً
لنظرة هوبز لطبيعة التجمع الإنساني، إن فضاء الفلسفة هو “ الكل ضد الكل”. فالفضاء
هذا ساحة حرب، كل طرف يحاول ان ينال من الآخر. وبما إن الحرب الفلسفية هذه، في
نهاية الامر، صراع ما بين المادية والمثالية، فإن مستقبل الفلسفة -كما يقول إتيان
باليبار- هو هو ماضيها، في تكرارية زمنية.  
نحن نعلم مسبقاً، إن لا يمكن للفلسفات ان توجد دون العلوم، هذا اذا اقتصرنا
نظرتنا في علاقة “ العلوم” بالفلسفة، دون النظر في زوايا اخرى التي نظر فيها آلان
باديو مثلاً : السياسة، والفن، والحب، الخ، فمن دون العلوم تبقى لدينا نظرات
عالمية فقط. الفلسفة، اذن، تكرارية، إن تاريخها هو التكرار، لذا ليس لها تاريخاً









.




تبقى المسألة: دون
العلوم لا فلسفات، فقط نظرات عالمية. حيث العلوم هي الشرط الأساسي في توليد
الفلسفة، كإعادة تنظيم مقولاتية لمفهومات علمية. وبذلك، بما أن الفلسفة ساحة حرب،
فالفلسفات تمثل “ موقعاً” معيناً، الذي هو، في نهاية المطاف موقعاً طبقياً. وبما
إن كل حرب تضمن “ العنصرين” فلا يوجد ما يسمى بكتلة “ مادية” محضة وكتلة “ مثالية”
محضة. لنفسر الأمر قليلاً










:




إن العلم الماركسي (
الذي هو علم التاريخ) ولّد فلسفةً مع نشأته كحدث نظري، ايّ في لحظة إنقطاعه وتكونه
كمعرفة علمية. صحيح إن في علم التاريخ هذا، الثورة الفلسفية أعلنت قبل تأسسه بشكل
كامل، او قبل، بتعبيرات لينين،  وضع حجر
زاويته ( في كتاب رأس المال – 1867)، في ( أطروحات حول فويرباخ) عندما أعلن ماركس
إن على الفلسفة  ”تغيير العالم”
وليس “تفسيره”. إن هذا الإعلان الفلسفي لم يكن منفصلاً عن” لحظة” او “
الظرف” في الإنصهار السياسي، بل انفجر في تطور المراحل السياسية عند ماركس بالذات،
فإن هذا الإعلان أتى مع تبنيه لموقع الطبقة العاملة في السياسة، إن “ التغيير” هو
واجب على الفلسفة. الثورة الفلسفية هذه مهدت، وفتحت الطريق لتكّون “ علم التاريخ”.
لكن هذه الفلسفة، كذلك، لم تولد بشكل “ فلسفي”. الفلسفات تولد كهي بذاتها، ايّ في
شكلها التأملي، ايّ كفلسفات، بينما الفلسفة الماركسية ولدت بشكل “لا فلسفي”، ايّ
ماركس أوجد ممارسة جديدة للفلسفة، لا فلسفة جديدة، حيث اكتشافه هو -اساساً- علمي









.




هنا تظهر اطروحة
جديدة حول الفلسفة : إنها صراع سياسي في الحقل النظري، وان من واجبها – كما يقول
لينين وآلتوسير- رسم خطوط التفرقة ما بين ما هو ايديولوجي وما هو علمي في الحقل
ذاته، وبذلك، وفقاً لهذا كله، تقول الاطروحة : إن في التاريخ الفلسفي، الصراع فيه
ليس خارجياً وحسب، بل أيضاً داخلي









.




صحيحة الأطروحة
القائلة إن تاريخ الفلسفة هو عبارة عن صراع، في نهاية المطاف طبقي، ما بين التيار
المادي والتيار المثالي، إلا ان هناك شيئاً مفقوداً في هذا، ويمكننا ان نعدل ( وهو
تعديل نجده عند مهدي عامل ، وآلتوسير، وبيير رايموند، وبيير ماشيري)  هذه الاطروحة بقولنا : إن تاريخ الفلسفة هو عبارة
عن صراع ما بين التيار المادي، الذي فيه نفسه، صراعاً هيمنياً ما بين النزعة
المادية والمثالية، وما بين التيار المثالي، الذي فيه صراعاً هيمنياً ما بين الميل
المثالي والمادي. إن في هذا القول جانب ( النطاق النظري)، اما في الطرف الاخر من
القول نفسه، يجد النطاق السياسي ممارسته النظرية في هذا التضاد، ايّ واقع الصراع
السياسي الذي نجده في شكله النظري، فالصراعات الفلسفية هي ليست ميكانيكية، ولكن
عناصر ( سياسياً) او نزعات (فلسفياً) كل طبقة تتداخل مع الأخرى.

 فالفلسفة المادية الماركسية، في نشأتها، وكذلك
تطورها، ليست كتلة “ مادية” متكاملة واحدة، دون ميول “ مثالية”، فمادية المادية هي
النزعة الغالبة او المهيمنة في هذه الحالة، لأن يستحيل “ الإنقطاع” في الفلسفة،
وإلا سيكون تفكيرنا تفكيراً وضعياً. فالفلسفة هي تمثيل سياسي في العلم، وتمثيل
علمي في السياسة. إما إن تشكل عنصراً تقدمياً ( ثورياً) لتقدم العلم نفسه، او
ترجعه إلى مقولات مثالية بورجوازية قديمة مثل : “الإنسان”، “الحرية”،
“المساواة”، “العدالة”.














لهذا السبب، لهذا
السبب وحده .. تحلق بومة (منيرفا) في الليل، بعد النهار، بعد كل شيء









..