المنشور

“كورونا” والأزمة الأخلاقية للرأسمالية

رغم مضي نحو نصف العام على بدايات تفشي وباء كورونا “كوفيد – 19” عالمياً؛ فإنه مازال يفجر أزمات دولية متعاقبة على المستويين الداخلي والداخلي لمعظم دول العالم، ولا سيما الرأسمالية منها والتابعة لها على السواء. و إذ يبدو محور هذه الأزمات المجال الطبي في مواجهة الوباء، إلا أن هذا المجال وثيق الترابط والتشابك مع مجالات متعددة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وثقافية تعكس جميعها الايديولوجية الطبقية السائدة للأنظمة الرأسمالية. ولا شك بأن هذه الأزمات فضحت الطابع الأخلاقي اللاإنساني الذي اتسمت به مسلكيات تلك الأنظمة في مواحهة الوباء؛ وعلى الأخص كما تجسده مواقف وسياسات النظام الرأسمالي الأميركي ممثلة في الإدارة الحالية للرئيس دونالد ترامب.

والحال منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) يمكننا القول بكل اطمئنان لم تتعرَ أخلاق الرأسمالية العالمية – وبخاصة الأميركية – بلا ورقة التوت؛ كما تعرت خلال هذه المحنة الوبائية المريرة التي ما فتئ يمر بها المجتمع الدولي، حيث تجردت من الضمير الإنساني عن القيام بأدنى مسؤولياتها وواجباتها الأخلاقية الدولية كدولة العظمى تتحكم في الكثير من مصائر قضايا ونزاعات العالم ، ناهيك عن مسؤولياتها وواجباتها تجاه شعبها لحمايته من شر الوباء.

ولما كان تغييب المساواة الاجتماعية بين طبقات المجتمع، ولو بشروطها الدنيا، هو طابع أصيل من أبرز سمات الرأسمالية، فإن ذلك ترك ويترك أثره حتماً في تفشي الوباء وتفاقم أعداد قتلاه في صفوف الطبقات الفقيرة والوسطى والتي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع؛ حيث نجد الاثرياء والميسورين هم وحدهم القادرون على التمتع بالضمان الصحي والطبي الذي يقيهم من الوباء أوالعلاج منه.

أكثر من ذلك فإن الرأسمالية الأميركية لا تتورع عن استغلال أجواء الأزمة الصحية العالمية للمتاجرة في البلاء العالمي التي تمر به البشرية جمعاء، ومن ثم اغتنام أي فرص بزنسية توفرها تداعيات الأزمة؛ حتى أنها افتضحت في ركضها المحموم للحصول على قصب السبق في حق ملكية اختراع ولو اقتضى الأمر شرائه من الخارج إذا ما انعدمت فرص التوصل إليه في الداخل؛ ناهيك عن محاولة الترويج والمتاجرة في لقاحات ناجعة ضد فيروسات سابقة لم يثبت علمياً جدواها في صدّ فيروس “كوفيد – 19″، دع عنك المتاجرة في الأدوية السابقة على ظهور كورونا وأدوات الوقاية الاخرى التي تمت مضاعفة أسعارها في الأسواق العالمية مرات ومرات؛ ولا سيما الكمامات وعبوات التعقيم المطهرة وخلافها.

والحال لم يكن هذا الامتحان هو الأول من نوعه الذي تُمتحن فيه فيه أخلاق الرأسمالية على المحك ؛ إذ برز الامتحان منذ بروزها طابعها الاستغلالي بجلاء على أرض الواقع غداة الثورة الصناعية أواخر القرن الثامن عشر، وعلى الأخص إثر تحولها بعدئذ إلى مرحلة الامبريالية مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى طورها الحالي المتوحش تعرضت لإمتحانات عديدة.

تاريخياً فقد برزت أولى مظاهر استغلال الطبقة العاملة البشع من خلال منحها أجور متدنية بلا إجازات إسبوعية؛ نظير ساعات عمل مرهقة طويلة كانت تصل إلى أكثر من ضعف ساعات العمل الحالية المتعارف عليها في تشريعات العمل الدولى المعاصرة، إلى درجة افتقارها إلى الحد الأدني من ساعات النوم الكافية للإنسان ( 8 ساعات )، بل وعدم التردد عن رميها على رصيف الفاقة تسريحاً، تبعاً لأدنى هزة تمس مصالح وأرباح كبار الرأسماليين؛ ولا يتورع هؤلاء أيضاً عن اللجوء إلى ما يمكننا أن نسميه تعريض الشغيلة إلى عملية القتل غير المباشر جراء اللامبالاة والاستخفاف بأهمية توفير بيئة العمل الصحية وذات السلامة المهنية لهم.

فكم ذهب من أفراد هذه الطبقة المستغَلة قتلى ومرضى ومعوقين بتشوهات خلقية لإنعدام مثل تلك البيئة الصحية في منشآت وشركات أرباب العمل. أما أخطر أشكال الاستغلال فهو الذي تذهب ضحيته لا الطبقة العاملة وحدها فقط ، بل شعبها وشعوب بأكملها ؛والمتمثل في الحروب التي تندلع فيما بين الدول الرأسمالية نفسها على ترسيم مناطق النفوذ أو الاستئثار بها بغية نهب ثروات شعوب البلدان التي تستعمرها بالقوة اغتصاباً، بدءاً من الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 )؛ ومروراً بالحرب العالمية الثانية، وليس انتهاءً بعدئذ بحروب التدخل الامبريالية التي ما برحت تشنها ضد الدول التي تستهدفها والتي لا تسير مطواعة في ركابها حتى وقتنا الراهن.

على أن الحديث عن استغلال الطبقة الرأسمالية للطبقة العاملة – منذ صعود الطبقة الأولى – استغلالاً لا إنسانياً دون منحها الحد الأدنى من حقوقها في الأجور المعقولة معيشياً وبيئة العمل الصحية، ناهيك عن مراكمتها الأرباح من خلال عملية “فائض القيمة” الأخطر استغلالاً؛ وغير المعترف بصحتها حتى الآن كنظرية في علم الإقتصاد الرأسمالي وتشريعات العمل الدولية؛ نقول إن هذا الحديث يجرنا بدوره إلى مسألة اخرى، أحسبها في غاية الأهمية، ألا هي توظيف التطور العلمي ليس لصالح سعادة وتنمية شعبها كما يشيع الإعلام الرأسمالي؛ ولا لأي شعب من شعوب العالم برمتها، بل من أجل فقط مصالح أنانية ضيقة لفئة محدودة من المجتمع تنحصر في كبار المليارديرية الأثرياء الذين يشكلون الأقلية بين الغالبية العظمى من أفراد شعبها، وهذا بالضبط ما تمظهر لنا جلياً في مسلكيات هذه الفئة الرأسمالية الأنانية التي تمتلك أقل أكثر من 95 % من ثروات شعوبها خلال الحروب والجوائح العالمية التي مرّ بها العالم وكان أخطرها خلال جائحة “كورونا” الحالية.

ولعل أخطر الحروب تدميراً التي تتحمل الإمبريالية وزرها، الحربان العالميتان الأولى والثانية، والتي كان لنسختها الفاشية في الأخيرة دور محوري في إشعالها؛ وحيث ألقت خلالها الولايات المتحدة أول قنبلة مئوية في التاريخ على مدينتي هيروشيما وتجازاكي اليابانيتين أزهقت أرواح ما يقرب من مئتي وعشرين ألف قتيل؛ ناهيك عن القتلى قتلاً بطيئاً جراء الصدمات والحروق الاشعاعية والتسمم الإشعاعي وسرطان الدم الذي ذهب ضحيتىه أغلب القتلى. وما كانت للدول الرأسمالية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – أن تتوصل إلى أسلحة الدار الشامل لولا توظيفها العلم وشراء العلماء بشتى الأغراءات للوصول إلى أسلحة فتاكة بالغة التطور لاستخدامها في حروبها العدوانية التي تخدم مصالحها الاقتصادية من خلال الهيمنة والتوسع في العالم.

بيد أن السلاح النووي ليس سوى رأس “جبل اللهيب البركاني”، إن جاز لنا التعبير، من سلسلة المساعي المحمومة في توظيف العلم لخدمة الشر والدمار البشري والعمراني؛ فقد سبقته منذ مطالع القرن الماضي عدد من أسلحة الدمار الأخرى، كان أبرزها الأسلحة الكيميائية التي استخدمت على نطاق واسع في الحرب العالمية الأولى، والأسلحة البيولوجية. ومن المفارقات الغريبة الصارخة أنه في الوقت الذي ندم فيه عدد من مخترعي أشهر الأسلحة في العالم على قيامهم باختراعها ، كما فعل مخترع المسدس صمويل كولت الأميركي الذي نُقل عنه قوله: “الآن يتساوى القوي والجبان”، ومخترع الديناميت ألفرد نوبل الذي شاء أن يكفّر عن خطيئته بتخصيص معظم ثروته لأشهر جائزة دولية عُرفت بإسمه “جائزة نوبل” تُمنح في الأساس سنوياً لواحد من الذين يبذلون جهوداً مضنية خلاقة من أجل السلام واطفاء نيران الحروب المشتعلة والنزاعات المحلية والأقليمية، كما تُمنح لعدد من الرواد العالميين في مجالات العلوم والمعرفة الاخرى. كما أبدى حزنه وألمه الشديدين مخائيل كلاشنكوف مخترع الرشاش المعروف بإسمه إبان الحرب العالمية الثانية التي طاولت بلاده إثر هجوم الجيش النازي المباغت عليها؛ وقال ما معناه في سني حياته الأخيرة: بقدر اعتزازي وبكل فخر لاختراع هذا السلاح دفاعاً عن وطني بقدر ألمي بوقوعه في أيدي المجرمين ومشعلي الحروب غير العادلة في العالم.
وأخيراً فقد أبدى ندمه أيضاً العالم الألماني اينشتاين على الرسالة التي أرسلها إلى روزفلت رئيس الولايات المتحدة عن وشوك توصل بلده إلى اختراع السلاح الذري بعدما طورته وصنعته الأخيرة واستخدمته في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.