المنشور

لفهم زمننا

ما الذي يجمع بين رجل فرنسي وآخر ألماني. لقد تقاتل بلداهما وسفك أحدهما دم الآخر حتى القطرة الأخيرة تقريباً، وحتى اليوم ما زال بالإمكان رؤية جراح حربيهما العالميتين والحروب التي ترجع إلى القرن السادس عشر. إن الشرخ بينهما ليس نتاج اللغة وحدها، بل إنه نتاج عوامل أخرى عديدة تمتد عميقاً في التاريخ. هذا سؤال أول. لكن ثمة سؤالا ثانٍ لا يقل أهمية: ما الذي يجمع بين أديب، روائي وبين عالم اجتماع. في الغالب يجلس الفلاسفة في زاوية وعلماء الاجتماع في زاوية أخرى، بينما يتشاجر الكتاب في الغرفة الداخلية، ولا يحدث، أو من النادر أن يحدث، حوار عميق وحقيقي بين عالم اجتماع وبين أديب. هذا على الأقل ما يعتقده جونتر جراس الأديب الألماني مؤلف “الطبل الصفيح” التي نال عنها جائزة نوبل. وهذا الكلام قاله جراس الألماني وهو يحاور الفرنسي عالم الاجتماع الراحل بيير بورديو. إنهما معاً يدركان مقدار الحواجز الموضوعية التي تجعل من حوارهما متعذراً أو صعباً، كونهما أولاً ينتميان إلى بلدين لم يكونا عادة على وئام، وكونهما يشتغلان في حقلين يبدوان في الظاهر متناقضين أو مختلفين على الأقل. ولكن محرراً ذكياً اسمه أليكس كولينيكوس، جمع الرجلين في حوار نشرت “الثقافة العالمية” الكويتية ترجمة له وضعها محمد الأسعد. مجرى الحوار كشف زيف الانطباع السائد عن أن الأدب وعلم الاجتماع يتحركان في مدارين مختلفين، بل بدا واضحاً أن الرجلين يعرف أحدهما الآخر جيداً لا بالمعنى الشخصي وإنما بالمعنى الفكري والثقافي وحتى الإبداعي. جراس خاطب بورديو قائلاً أن حكايات هذا الأخير تغريه بوصفه كاتباً، لينطلق منها كمادة خام في عمله الإبداعي، ويعطي على ذلك مثالاً: قصة الشابة التي تغادر الريف إلى باريس، وتعمل في فرز الرسائل ليلاً، حيث حصلت كل النساء الشابات على وظائف يحدوهن الأمل أنهن بعد بضع سنوات سيحققن حلمهن ويرجعن إلى قراهن لتسليم الرسائل البريدية، لكن هذا لا يتحقق أبداً، فهن سيبقين فارزات للرسائل في العاصمة. لكن ليس هذا وحده ما يجمع بين الرجلين، بين الروائي وبين عالم الاجتماع، إنهما معاً مأخوذان بالفكرة التي يدعيانها: “الإحياء التقدمي”. فهما يريان كيف أن أوروبا التي ينتسبان إليها تذهب سريعاً إلى ما يوصف بـ “الليبرالية الجديدة” مأخوذة بالمناخ المحافظ القادم من وراء المحيط. إنهما يظهران قلقهما من فقدان تقاليد عصر التنوير، أمام هذا الاندفاع الطائش لليبرالية الجديدة التي تقدم نفسها بوصفها ثورة، فيما هي في الحقيقة ردة كبيرة للوراء. إنها بتعبير بورديو: “ثورة محافظة”، فهي ارتداد يحول نفسه إلى شكل من أشكال التقدم، وهي تجيد هذا فعلاً لأنها تجعل كل من يعارضها مرتداً. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي شعرت الرأسمالية، في صورتها الجديدة، أنها يمكن أن تطلق العنان لنزواتها كما لو كانت خارج السيطرة، ولم يعد هناك ثقل مضاد يوازنها. إن الرجلين يطلقان في هذا الحوار تأملات عميقة جديرة بالقراءة والمعاينة القريبة لأنها تعيننا على فهم زمننا بعون من اسمين ينظر إليهما بتقدير كبير في أوروبا وفي العالم.
 
صحيفة الايام
31 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

كيف أصبحت سويسرا في مواجهة الإسلام؟ (1 ــ 3)

على امتداد نحو قرن ونيف منذ الهجرات الأولية للعرب والمسلمين إلى أوروبا وأمريكا لم يشكل وجودهم في البلدان الغربية أزمة في التعايش والاندماج في مجتمعاتها وكفالة حرية ممارسة معتقداتهم الدينية كما شكله تدريجيا خلال الثلاثة العقود الماضية، ويمكن القول ان العرب والمسلمين المهاجرين المقيمين في الغرب حتى بالرغم من تدني نسبتهم السكانية مقارنة بالنسبة التي أضحوا عليها اليوم كانوا يعيشون في وئام تام مع المجتمعات الأوروبية والغربية التي كانت تستضيفهم حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
ومنذاك الوقت وعلى امتداد الـ30 عاما اللاحقة أخذت العلاقات بين الطرفين تختلف تدريجيا شيئا فشيئا حتى بلغت أوج تأزمها خلال سنوات العقد الحالي من الألفية الجديدة، وتحديدا منذ ما بات يُعرف بـ “أحداث سبتمبر 2001” التي شهدت ضرب برجي التجارة في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطون، والتي انطلقت على اثرها الحملة الأمريكية المسعورة الحاقدة التي شنها صقور اليمين الجمهوري الحاكم المتطرف على الإسلام والمسلمين تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وأصبح كل مسلم بوجه عام وعربي بوجه خاص مدانا بالجينات لوصمه بالإرهاب حتى يثبت براءته في عُرف الأوساط والقوى اليمينية الأمريكية المتطرفة وفي عرف سائر الأوساط والقوى الغربية والأوروبية اليمينية العنصرية بوجه عام، ووظفت تلك القوى والدوائر كل ما تملكه من ترسانة وسائل إعلام مختلفة لنفث سمومها الحاقدة ضد العرب والإسلام والمسلمين بغية تشويه صورة هؤلاء في عيون الشعوب الأوروبية والغربية عامة.
وكان لممارسات ومسلكيات الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب والمسلمين التي تتسم بمظاهر الغلو والتشدد الدينيين في المجتمعات الأوروبية الغربية التي تستضيفهم وعدم تقيدهم واحترامهم لقوانينها دور كبير في مساعدة تلك الحملات اليمينية العنصرية لتبرير هجماتها المسعورة على الإسلام والعرب والمسلمين، وكان أخطرها ما ارتكبته الجماعات الإسلامية المتطرفة من عمليات إرهابية طاولت آلافا من الأبرياء الأوروبيين والأمريكيين، لا أعتقد أننا بحاجة في هذه العجالة إلى التذكير بها وبتواريخها.
ومما لا يخلو من مغزى ودلالة أن الأجيال العربية والإسلامية الجديدة المهاجرة إلى أوروبا التي يتسم سلوك معظم أبنائها بالتزمت والغلو الدينيين بدأت تتوافد الى أوروبا بالضبط بالتزامن مع بدايات صعود المد الإسلامي أوائل الثمانينيات في المجتمعات العربية الإسلامية وانحسار المشاريع الوطنية والقومية، وعلى العكس من ذلك لم تشهد علاقات أجيال المهاجرين العرب والمسلمين المتعاقبة مع المجتمعات الأوروبية والغربية التي احتضنتهم طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن منذ أواسط القرن الـ19م حتى الربع الأخير من القرن العشرين.. نقول لم تشهد هذا التأزم والريبة المتبادلة كالتي تشهدها علاقات الأجيال الجديدة من المهاجرين العرب والمسلمين منذ أوائل ثمانينيات القرن الفائت حتى يومنا هذا، والتي بات يدفع ثمنها ليسوا هم وحدهم بل حتى الأجيال المقيمة المهاجرة الأقدم منهم التي عرفت بوسطيتها وتمسكها المستنير المعتدل بثقافتها وتقاليدها الإسلامية وعاداتها الشرقية مما أسهم في نظرة الكثير من الأوروبيين والغربيين الى العرب والمسلمين نظرة ملؤها الإعجاب والمحبة بحضارة العرب والمسلمين وتراثهم وبدينهم الإسلامي الحنيف، هذا الى جانب خلق جو صحي من التسامح والتواد ساعد على استقطاب العديد من فئاتهم في الوقوف مع قضايا العرب والمسلمين المصيرية الراهنة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
صحيح أنه مازالت ثمة أوساط وقوى وفئات غربية تنظر الى الإسلام والمسلمين والعرب نظرة تقدير واحترام، وصحيح أيضاً ان هنالك شرائح تعلن اعتناقها الإسلام حتى على الرغم من الجو الموبوء الذي يخيم على العلاقة ما بين الطرفين لكن لنتخيل وضع العرب والمسلمين ومدى قوة علاقتهم مع المجتمعات الغربية التي تحتضنهم وتستضيفهم لو لم يتشكل ذلك المناخ الموبوء، الذي بينا قبل قليل أسباب تشكله، ولم تكن الدوائر الصهيونية الدولية بطبيعة الحال بعيدة عن ممارسة أدوارها الخلفية في استغلال كل ما من شأنه تأزيم وتسميم العلاقة بين الطرفين.
لقد باتت هذه العلاقة على درجة من التأزم بحيث لا يكاد يمر عام من دون ان تتفجر أزمة يكون سببها إساءة متعمدة أو جاهلة للإسلام والمسلمين، تارة على سبيل المثال بإنتاج فيلم هولندي يتضمن هذه الإساءة، وتارة من خلال الإمعان في تشكيل رسوم مسيئة إلى نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتارة بالهجوم على مقابر المسلمين ومساجدهم، وأطواراً عديدة بابتداع أشكال عديدة ومتنوعة لاستفزاز وجرح المشاعر الدينية للعرب والمسلمين المقيمين في أوروبا وفي سائر أنحاء العالم.
وكما قلنا فإن الكثير من مظاهر الغلو والتطرف الدينيين التي يصر العديد من المهاجرين العرب والمسلمين الجدد وأبنائهم على ممارستها وخرق قوانين الدول والمجتمعات الأوروبية التي تستضيفهم وتفتح أبوابها لهم والتي لا شأن لها بحرية العقيدة تلعب دورا سلبيا هي الأخرى في تغذية مشاعر الكراهية العنصرية الأوروبية تجاه الجاليات العربية والمسلمة، وهي المشاعر التي تؤججها، كما نعلم، القوى اليمينية العنصرية بالتحالف مع اللوبيات والدوائر العنصرية الصهيونية في تلك البلدان.
لقد غدت العلاقة بين الطرفين من التسمم بما يصح بالفعل ان يطلق على حال فزع الغرب والأوروبيين المرَضي من الإسلام والمسلمين بـ “الإسلام فوبيا”، ولعل آخر حدث بالغ الأهمية ومفيد للعرب والمسلمين لاستخلاص دروسه وعبره الثمينة اذا ما قرِئ جيدا يتمثل في التداعيات وردود الفعل العالمية على نتيجة الاستفتاء الشعبي السويسري بمنع المآذن.

صحيفة اخبار الخليج
30 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

أوهام في ورق السيلفون!

ذات مرة، وفي أحد البلدان العربية ألقت الشرطة القبض على رجلٍ كان يبيع تأشيرات مزورة للراغبين في الذهاب للعمل في البلدان النفطية لقاء مبالغ كبيرة. الصحافة وصفت الرجل بأنه “بائع الوهم”. إنه حقاً كذلك لأن ما يقوم به هو بيع الوهم لأناس تتضاد رغباتهم مع واقعهم ويتطلعون لتحسين هذا الواقع عبر تحقيق هذه الرغبات أو بعضها، وهي بالمناسبة رغبات مشروعة ومبررة، لكن المسافة بين الرغبة والواقع ليست سهلة الاجتياز، وأحياناً تكون عصية. وهنا تنشأ الأوهام، التي وإن كان لها وجهً يتصل بالحلم، فإن وجهها الآخر ضلالة، جانب الحلم في الوهم يتجلى في تصورك لواقع متخيل تصنعه الرغبات المخفية أو المكبوتة وأحياناً المعلنة، أما جانب الضلالة فيتجلى في تصديق المرء بأن حلمه قد تحقق أو هو على وشك التحقق. وأخطر ما في الوهم هو اليقين الذي يستحوذ على الشخص الواهم بأن وهمه ممكناً دون أن يخضعه لما يمكن أن نسميه الاختبار الموضوعي للأشياء والظواهر والحالات. وحيث يعم الجهل تتسع مساحة الأوهام، لأن حصانة الإنسان البسيط العادي غير العلمي بوجه الأوهام ضعيفة وقابليته لتصديقها كبيرة، فيعوض الوهم ما هو غير متحقق من سعادة مرغوبة. الشخص الذي يبيع التأشيرات المزورة ليس سوى مثل متواضع لباعة الأوهام المنتشرين في الحياة. وصناعة الوهم هي حرفة تقوم بها مؤسسات كبيرة عابرة للقارات في عصرنا الراهن، تلف هذه الأوهام بورق السيلفون وتعلبها في علب أنيقة وتصدرها لبقاع الأرض المختلفة، متوسلة لمختلف أساليب الإبهار والخداع والكذب التي تقوم بها شركات متخصصة تعتمد منجزات علم النفس في قوة الإيحاء والتأثير لتستحوذ على عقول ملايين البشر الذين يقبلون على شراء البضائع، أو المخاطرة بمدخراتهم في مشاريع سرعان ما يتكشف زيفها. الوهم حالة تنفذ إلى خلايانا وتتسرب إلى تفاصيل حياتنا الدقيقة، تحيلنا من الواقع إلى معادلة الرمزي، تسربلنا بأكذوبة كبرى نكتشفها عادة بعد فوات الأوان، أما باعة الوهم أفراداً ومؤسسات فلهم من قوة الحضور والنفوذ بحيث تجدهم عبر شاشة التلفزيون وفي شركات مالية ومصرفية، وفي أناس يصنعون الرأي العام ويقولبونه وفق ما تقتضي المصلحة حتى تغرق الناس في ضلالة الوهم وتفقد إرادة الفعل.
 
صحيفة الايام
30 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

دعوة الأنصاري

طالعتُ، مرةً، كتاباً ينصحنا مؤلفه بالاستخدام الأقصى لطاقات الدماغ العقلية، وفي الكتاب فصل عن القراءة الفعالة أو المجدية. ويقدم المؤلف لقراءه نصيحة بأن تشتمل القراءة على المراحل الأربع التالية: 1ـ المسح، 2ـ التصفح، 3ـ التمحيص، 4ـ المراجعة. في المرحلة الأولى علينا تكوين فكرة عامة حول الموضوع المراد قراءته، بحيث نطالع الفهرس أو المحتويات والصور إن وجدت، وكذلك الرسوم والهوامش والعناوين الفرعية. في مرحلة التصفح علينا الاهتمام بنص الكتاب كالمطالعة السريعة لمقدمات ونهايات الفصول والفقرات، فذلك يمنحنا فرصة لمعرفة ما في الكتاب سلفاً. مرحلة التمحيص تشبه تركيب قطع اللعبة، حيث نبحث خلالها وبعمق عن الأجوبة على التساؤلات التي تشغل أذهاننا، ومن المفيد في هذه المرحلة وضع إشارات أو علامات خفيفة على هوامش المناطق التي نرغب في العودة إليها. أما المرحلة الرابعة والأخيرة فيتعين علينا خلالها التأكد من أن أهدافنا من قراءة الكتاب قد تحققت. على صلةٍ بهذا الموضوع يدعو الدكتور محمد جابر الأنصاري، وهو يحث على «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها» في الكتاب الذي يحمل هذا العنوان، إلى ثقافة قائمة على الأصول لا على الجزئيات والهوامش، مسجلاً مآخذه على مثقفي وأدباء الموجات الجديدة الذين ينقلون عن المنقول الذي هو بدوره منقول عن منقول، دون أن يعودوا للأصول. ويرى الأنصاري أنه لابد من التعرف على شعراء المعلقات ومعايشة المتنبي والغوص في بحور الجاحظ وهضم امرئ القيس والبحتري وأبي تمام وأحمد شوقي وجبران، وما يقال عن الأدب العربي يمكن أن يقال أيضاً عن الثقافة والفكر الإنسانيين، حين يتعين على القارئ الجاد الذهاب إلى مكتبة الحضارة الإنسانية ليقرأ قبل كل شيء «جمهورية أفلاطون» و»منقد» الغزالي و»مقدمة ابن خلدون» و»منهج» ديكارت وديالكتيك هيغل و»دراسة» توينبي في التاريخ؟ الأصول هي سقراط وأفلاطون وأرسطو بالنسبة للفلسفة الإغريقية، والأصول هي الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون بالنسبة للفلسفة الإسلامية، والأصول هي ديكارت وكانط وهيغل وماركس ونيتشه بالنسبة للفلسفة الحديثة، والأصول هي المتنبي والمعري وشكسبير وطاغور بالنسبة للأدب العالمي. ورغم تناسل وتناسخ الدوريات العربية، فان قلة منها تسعى لأن تكون مختلفة وذات رؤية، فرغم أن طبيعة هذه المجلات بسبب تتابعها تجعلها أكثر مقدرة على التأثير في وعي الجمهور، إلا أن الكثير منها باتت أشباه بالوعاء أو الكشكول الذي يجمع ما هب ودب من المعالجات السطحية التي تفتقد المنهج والرؤية، والتي تجعل من الدورية فاقدة للناظم المعرفي الذي يضبط وجهتها. يذكرنا الأنصاري بأنه عندما ترجم العرب أفلاطون وأرسطو خرج من بينهم الفارابي وابن سينا وابن خلدون، وعندما ترجم الأوروبيون، في مطلع نهضتهم الحديثة، ابن سينا ومعه أرسطو خرج من بينهم ديكارت وكانط وأمثالهما من القمم الفكرية، وعندما ترجم العرب، في مطلع عصرهم الحديث، ديكارت وشيئاً من كانط وهيغل وعادوا إلى ابن سينا وابن خلدون خرج من بينهم محمد عبده وشبلي شميل ولطفي السيد وطه حسين وميخائيل نعيمة، من رواد التفكير الذي مجد العقل ونبذ الخزعبلات والأوهام. الفكرة كلها تكمن في هضم الأصول وإعادة استيعابها، لا في الجري وراء المنقول والعابر والطارئ.
 
صحيفة الايام
29 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

الأمن والاقتصاد في قمة الكويت

انتهت بتاريخ 14 ديسمبر قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، بعد أن سبقتها اجتماعات تمهيدية أو تحضيرية عقدها وزراء الخارجية والمالية، كان من أجندتها قضايا اقتصادية عملاقة في مسيرة المجلس، من أهمها موضوع الاتحاد النقدي الخليجي ومشروع سكك حديد مشتركة وإطلاق المرحلة الأولى من مشروع الربط الكهربائي، مثل هذه الأجندة مهمة بكل ما تتضمنه من وحدة اقتصادية فاعلة وفعلية في مجالاتها الداخلية، بحيث تنعكس بصورة ملموسة هذه الانجازات الضخمة على الواقع السياسي والاقتصادي والحياتي لمواطني دول المجلس، بل ولكل الأنشطة الاقتصادية الإقليمية والدولية في المنطقة. يأتي اجتماع القمة السنوي في ظروف مختلفة تماما عن مرحلة الولادة ومرحلة المسارات ومرحلة المتغيرات والانعطافات، حيث يمسك زعماء وقادة المجلس بجوهر الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، بعيدا عن رؤية الأمور بنظرة عاطفية ومستعجلة، فليس كل مسار مجلس التعاون كان ورديا وسهلا، فمشروع طموح بحجم مجلس التعاون، بحاجة إلى معرفة دقيقة لكل المستجدات ودراية كافية لما يمكن وقوعه والاستعداد له على كافة الصعد. جاء اجتماع الكويت، وكما قال في تصريحه وزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح في كلمة أمام نظرائه الخليجيين : « إن مجلس التعاون محاط بمستجدات أمنية خطيرة وتداعيات اقتصادية كبيرة تمسه مسا مباشرا، وأضاف لقد شهدنا ما حصل في دبي وهنا يطرح علينا كيف نبني اقتصادا خليجيا يستطيع أن يتحمل هذه الصدمات ويمنعها بأقل كلفة ممكنة «بهذه الروح الجماعية انطلق الاجتماع ليناقش ملفات خطيرة بالفعل فهناك في الجزء الجنوبي من دول مجلس التعاون صراعا شديدا بين النظام اليمني والجماعات الحوثية، والتي تصل حتى حدود احد أعضاء دول المجلس كالمملكة العربية السعودية، دون أن نغفل أيضا إن هناك خطوط تماس حدودية مع سلطنة عمان، مما يعني إن لهيب الوضع الأمني قابل للاتساع، ويصب في جزء من جوانبه مع العمليات الإرهابية المتنوعة، والتي تبقى في دول مجلس التعاون قائمة ولم يتم القضاء عليها نهائيا . غير أن الجانب الأمني من عراق غير مستقر ترتبط حدوده الجغرافية مع دول مجلس التعاون ومياهه الساخنة يبقى قائما، حيث تتطلع دول مجموعة التعاون إلى خطر محدق في هذه اللحظة، قابل للانفجار والمرتبط بالوضع الأمني في الجمهورية الإسلامية، حيث تحاول دول العالم تقليم أظافر الأخطار النووية ومشاريعها المتواصلة في إيران، ولجمها عن ذلك المشروع النووي بأبعاده العسكرية والأمنية، تلك الضغوطات الحالية ربما تدفع المنطقة إلى حافة الهاوية، وتبدأ عملية صدامات جزئية لا تحمد عقباها وتلتهب منطقة الخليج إلى حد الاشتعال السياسي والأمني والعسكري، خاصة وان الوضع الداخلي في إيران يتفاقم نحو التصعيد ما بين المعارضة والنظام، مما يجعل من صقور طهران في لحظة مواجهات داخلية التفكير بتحويل الصراع من الداخل إلى الخارج لتوجيه أنظار الداخل نحو عدو مصطنع أو وهمي، إذ لن تحتمل الجمهورية الإسلامية في ساعات المواجهة الداخلية والضغوطات الخارجية أي قدرة وحنكة على اتخاذ مواقف حكيمة وهادئة للحفاظ على الثورة ونظامها العجوز المفعم بالأزمات والمشاكل المزمنة. يقفز لذهن جيلنا الحرب العراقية – الإيرانية وتداعيات تلك الحرب على المنطقة، حيث دفعت الأنظمة والشعوب تكلفة باهظة ذهبت مبالغها الطائلة في مشاريع إنفاق الحرب المدمرة، تبعتها بعد سنوات عجاف تنمية مضطربة ومتراجعة وحذرة ، عملية غزو صدام للكويت احد أعضاء مجلس التعاون، فوقع العالم في ارتباك دولي لكون المنطقة نقطة ارتكاز اقتصادي نفطي هام لاقتصاد العالم الحر بل وتعتبره دولة كالولايات المتحدة الأمريكية منطقة تخصها ويؤثر على أمنها القومي، دون أن تكشف عن تلك الحقيقة دول الاتحاد الأوروبي واليابان، مع إن الحقيقة تؤكد إن كل المؤسسات النفطية العالمية باتت متواجدة في هذه البقعة النفطية الخليجية الساخنة . لم تنته رحلة سفينة مجلس التعاون بخير بعد هزيمة صدام في الكويت وإنما استمر الوضع متوترا لمدة عقد كامل حتى سقوط الدكتاتور، ودخول العراق في دائرة العنف والأعمال الإرهابية والانقسامات الطائفية والعرقية مما جعل دول مجلس التعاون وقادتها التفكير بكل جدية لوحدة العراق وتجنيبه مخاطر التقسيم ووقوع المنطقة برمتها في مشاريع مماثلة يلعب الكبار بخيوطها في الخفاء. يأتي مؤتمر القمة الثلاثين لدول المجلس التعاون ، منذ قمة ابوظبي الأولى في 25مايو1981 إلى قمة الكويت 14 ديسمبر الحالية وأمامه تحديات مالية واقتصادية كبيرة، إذ تواجه الجميع مسألة ضرورة مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية والتقليل من أثارها على اقتصاد دول مجلس التعاون واحتمال دخول إيران في دائرة الاحتقان والمواجهات الداخلية والضغوطات الدولية، والتي لها انعكاساتها على أوضاع واستقرار دول مجلس التعاون. تبقى مسألة مهمة في هذا المؤتمر هو الدرس التضامني التاريخي بين دول المجلس، لهذا تصبح الأزمة المالية في دبي جزء لا يتجزأ من أزمة عامة للمنطقة، وكل نجاح وتقدم لدبي هو بالضرورة نجاح للمجموعة كلها في الإقليم ، بل ونجاح للتجربة العربية في مجال التنمية المستدامة.
 
صحيفة الايام
29 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

فلسـطين في أغانـيـنا


 
يسرني أن أتقدم بالشكر والإمتنان لدعوتكم لي للمساهمة ضمن فعاليات أسرة الأدباء والكتاب في البحرين للإحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية 2009  ، ويسعدني بهذه المناسبة العزيزة أن اتقدم لكم بهذا البحث المتواضع أملاً في تسليط الأضواء على البعد الإنساني والفني والإجتماعي والسياسي  للأغنية التي كان موضعها فلسطين كأرض وشعب كونها أصبحت وسيلة من وسائل المقاومة والصمود ولما تمثله من أهمية لحفظ التراث والهوية .


فلسطين في أغانينا


ندوة – الفنان سلمان زيمان  في أسرة الأدباء والكتاب – البحرين  19 اكتوبر 2009
بمناسبة احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية 2009


السادة الكرام أسرة الأدباء والكتاب ، أعزائي الحضور الكرام

يسرني أن أتقدم بالشكر والإمتنان لدعوتكم لي للمساهمة ضمن فعاليات أسرة الأدباء والكتاب في البحرين للإحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية 2009  ، ويسعدني بهذه المناسبة العزيزة أن اتقدم لكم بهذا البحث المتواضع أملاً في تسليط الأضواء على البعد الإنساني والفني والإجتماعي والسياسي  للأغنية التي كان موضعها فلسطين كأرض وشعب كونها أصبحت وسيلة من وسائل المقاومة والصمود ولما تمثله من أهمية لحفظ التراث والهوية .

وسأستهل هذه الورقة بتقديم  لمحة عن الأغنية الفلسطينية :

كان التطور المدني والحضاري للمجتمع الفلسطيني رائداً قبل تقسيم فلسطين عام 1948 . وكان الفن الغنائي والموسيقى بالمجتمع الفلسطيني في مستوى متقدم ومتفاعل مع ما يبدعه الفنانون في المجتمعات الأخرى من حوله في فنون الغناء والموسيقى في مصر ولبنان وسورية وغيرها 1* .وكان من أهم رواد الغناء الفلسطينيين في تلك المرحلة عبد السلام الأقرع،و حسين النشاشيبي،و إلياس شهلا، وجوليا السلطي، ورياض البندك، وروحي خماش وأمينة المعماري، ، ومتري الزائر، وحنا فاشة وآخرون. وفنانون آخرون أبدعوا في غناء التراث الشعبي أمثال : أبو جاسر أمريني، وأبو حسين العبليني، وأبو الحكم البرقيني، وأبو سعود الأسدي2 * وغيرهم كثيرون. ومن أهم مراكز الغناء والموسيقى التي كانت نشطة حينها ،مدرسة تراسنطة،و جمعية الشبان المسيحية (القدس)3*و الإذاعة الفلسطينية (القدس)، وإذاعة الشرق الأدنى (جنين).

كما يقدم الباحث وليد الخالدي في كتابه (قبل الشتات) وهو كتاب يعرض التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876- 1948 ، يقدم في كتابه صورة ذات أهمية قصوى من هذه الناحية وهي عبارة عن صورة للفرقة الموسيقية في المدرسة الأورثوذكسية في يافا( سنة 1938)4* ،تشتمل على ثمانية عشر من العازفين لآلات النحاس والنفخ الخشبي والإيقاع مع إثنان من مدرسيهم . وهي دليل على مستوى التطور الموسيقى في ذلك الوقت الذي سبق التقسيم .فقيام اسرائيل في المنطقة العربية تسبب في الكثير من المآسي والآلام لللشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامة ،وتسبب في تراجع وخسارة الكثير من المكاسب الحضارية لشعوب المنطقة وأعاق الكثير من التطورات التى حبلت بها المنطقة قبل نشوء هذا الكيان النكرة.
 
ومن خلال بحثي عبر ما توفر لي من مصادر مقروءة ومرئية ومسموعة ،تبين لي بأن الأغنية الفلسطينية مرت بعدة مراحل مهمة ومؤثرة ،وكانت منعطفاتها متلازمة وانعكاس للمنعطفات السياسية التي تعرضت لها فلسطين كأرض وشعب خلال القرن الماضي. حيث كان التطور الأول قد فرضته الظروف التي برزت بعد صدور “وعد بلفور” المشؤوم في عام 1917 ثم تبعتها محطة ثانية  عام 1936 مع ثورة الشعب الفلسطيني الأولى ضد الإستعمار البريطاني وضد العصابات الصهيونية التي بدأت تسيطر على الأراضي وتتمدد وتبني المستوطنات وتقيم لها مليشيات تحميها 5*.وحينها برز العديد من الفنانين المقاومين ——- الذين حمّلوا الموال وتيمات الأغاني الشعبية المتداولة في المناسبات المختلفة كالأعياد الدينية والميلاد وأفراح الزواج  والختان وأثناء العمل والحصاد وحتى في المآتم والتعازي وغيرها من المناسبات، حمّلوها ما أمكن من عبارات التحدي والنضال ضد المستعمر ومغتصبي الأرض الصهاينة ،مستخدمين كل القوالب الغنائية في تراثهم الشعبي مثل (الدلعونا، والجفرا، وزريف الطول، والميجانا والعتابا، والمثمن، والطلعة، والحدادي، والكـرادي، والمحوربة، والقصيد، والسامر، والهجيني، والشروقي).


وهنا مثال للتوضيح عن ذلك :
 وَعْد بِلفور هالمشْؤوم جائِـــرْ
على الإسْلام والرْهبان جائِــرْ
تناسى العَدل واضحى الظُلُم جائِرْ
مْلوك الغَرب ما فيها رَجَـــا

هذا الموال أو الأغنية إن صح التعبير تُظهر نبوغ الحدس الشعبي لما يجري، وتختزل وتوثق الوقائع والأحداث وكل ما تتعرض له أرض فلسطين أنذاك من موآمرة دولية ،بل وما هو متوقع وقادم كنتيجة ،كما ويثبّت الموقف الشعبي ضد ما يحاك ،ويصف وعد بلفور بالوعد الظالم غير العادل ،وبالمشؤوم على هذا الوطن وشعبه .هذأ الوصف كان دقيق ،والتنبىء حينها  بالتبِعات والتداعيات  تبدو جلية بائنة الآن وفاقعة للعيان . كما يُظهر هذا النص الترابط العضوي بين فئات الشعب الفلسطيني مسلمين ومسيحيين حين ساوى بينهم كضحايا وككيان واحد مهدد المصير.ويفضح هذا النص نظم الغرب ويتهمها بالغدر والجور ويوجه أصابع الإتهام لها بحياكة وتنفيذ هذه الموآمرة. أربعة أبيات من الغناء الشعبي ولكنها أبلغ من مآت البيانات والمقالات ،تؤرخ وتوثق وتورّث للأجيال ماجرى وصار. أربعة أبيات من الغناء الشعبي تتناقلها الألسن جيل بعد جيل تمر من تحت وفوق كل رقابة وجدار وحاجز وهنا تكمن أهمية الفنون الشفهية للشعوب.    
أما المثال الثاني فهو يترجم التفاعل في الأغنية والموال الفلسطينيين مع كل ما يطرأ من أحداث هناك، لنجد صداه في النصوص التى بيدعها المغني أو الشاعر والعوام من الناس،،،، كل من أفتقد الأمان والحرية والأرض وتعصره طواحين المستعمر المغتصب قد تجد صدى لمعاناته في بيت قصيدة أو موال .

في 17 يونيو حزيران 1930 تم إعدام ثلاثة مناضلين قاوموا الإستعمار الأنجلوصهيوني ، والأبطال هم فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير . وعلى تيمة الدلعونا صيغت هذه الأبيات تمجيداً وتخليداً لذكراهم.
وهي تقول :


مْحَمد جَمْجُوم وْمَعْ عَطا الزّيرِ  فُؤادِ حْجازِي عِزّ الذّخِيـــرِهْ
أنُظُر المْقَدّر وِالّتقادِيــــرِ        بَأحكام المَوْلى تايِعِدْمُونـــاَ
 

هي رغم بساطتها إنما تثبت موقف وتؤرخ لحدث فاجع إعتصر أفئدة الشعب ،لكنها مهمة في سجل النضال الفلسطيني وتفصح عن مقاومة بطولية يخوضها الشعب ضد المحتل .

أنطلق العنان لهذا النوع من المقاومة بعد (ثورة 1936 ) 6* وصار أحد أسلحتها .ومضت الأغنية تؤرخ وتتفاعل مع الأحداث المتتالية ، تدعو الى المقاومة والصمود وتعكس كل ما يخالج الناس من آلام وذهول لما يحدث على الأرض من تنفيد محكم وسريع لمخططات الإستيلاء على الأرض وفرض الأمر الواقع ، ومثال على ذلك هذا النص المعبر:

 وسجّل يا قرنِ العشريـــنْ    عاللي جَرى بْفلسطيــــنْ
ثَلْثِ سْنين بِالليالــــــي          ما نِمْنا بِالعَلالِـــــــي
وإحنا بْروس الجبـــــالِ        للحربْ مِستعديـــــــنْ

نعم سجل يا قرن العشرين ع اللي جرى بفلسطين . نحن في القرن الواحد والعشرين ولا زلنا نسجل المعاناة والعذاب والألم الفلسطيني ،ونسجل كذلك المبالغة القاتلة بالتفاؤل عند الفلسطينيين ،التفاؤل الذي أخذ منهم الكثير وكبدهم خسائر فادحة . قد أكون مخطىء ولكنني أرى ذلك من خلال الشطر الثالث من الموال أو الأغنية وأجده متفائل في قدوم العرب وإبداء الاستعداد  للمشاركة معهم في حرب التحرير ، الحرب المرجوة التي لم تأتي إلا بمزيد من الهزائم .

يستمر دور الأغنية والموال بالمشاركة في خوض المعركة المصيرية لهذا الشعب الذي أظهر قدرة فائقة على النهوض دائماً من جديد بعد كل كبوة وإخفاق بل وبعد كل هزيمة ونكبة. فعام 1948 هو عام التقسيم وغضم أرض فلسطين بقرار جائر من منظمة الأمم المتحدة .
عام 1948 ،(عام قيام الكيان الصهيوني) 7*  وماتبعه من هزائم لجيوش العرب بالإضافة الى الدعم السخي للدول الإمبريالية والإستعمارية المقدم للكيان الصهيوني المنَصَب على حساب حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية . تستمر الأغنية الى جانب طرق وأساليب المقاومة الأخرى ، تستمر في لعب دورها المضمد للجراح حيناَ والمحرض نحو الصمود والمقاومة والثورة في كل الأحيان .وهذا مثال للأغنية التي كان يزف بها العريس آن ذاك وكيف حملت بالهم العام وشحنت بتعابير العزة الوطنية وبتوثيق أحداث تجري على الأرض ، بهذه الأبيات  يزف العرسان الفلسطينين ، رماح ،وهجمات ،وضرب سلاح .
تقول الزفة:



 هزّ الرُّمح بْعود الزّيــــنْ         وِإنْتُوا يا نَشامىْ منيـــــنْ
وإحناً شَباب فَلَسطيـــــنْ              والنّعمْ والنّعمتيـــــــنْ
في بَلْعا وْوَادي التّفـــــاحْ       صَارَتْ هَجْمهْ وظَربِ سْـلاحْ
يوم وَقْعةً بيتً أمْريـــــنْ           تِسْمع شَلْع المَرَاتِيــــــنْ

 
و مثال آخر لنص نسمعه يتردد في بعض الأغاني ويقول:


والله لأزرعك بالدار           ياعود اللوز الأخضر
وأنا قلبي محرقني             ع اللي قيد بالعسكر
والله لأزرعك بالدار                يا عود البندورة
وأنا قلبي محرقني              ع اللي قيد بالدولة
 

أعتقد بأن المقصود بالعسكر هو جيش الإحتلال ، والمقصود بالدولة هو الجهاز الرسمي للكيان الصهيوني .

بعد هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل لكل الأراضي الفلسطينية بالإضافة الى أجزاء مهمة من الأراضي المصرية والسورية والأردنية ، تتلاحق الأحداث في المنطقة العربية وتظهر أغاني من خارج فلسطين تدعم الصمود وتشد الأزر وتدعو الى المقاومة ضد الإحتلال والى تحرير الأرض لتصل الأغنية الى مرحلة أخرى متطورة . ويدخل حلبة الصراع الثقافي – الفني  الكثير من الفنانين بمن فيهم النجوم أمثال أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وفيروز وفهد بلان وغيرهم ،الى جانب صف طويل من صناع الأغنية العرب والفلسطينيين مع قدر كبير من الأغاني والأناشيد ذات الأداء الجماعي.من هنا تبدأ الأغنية التي تتناول القضية الفلسطينية في التطور الجذري من جميع النواحي الإبداعية ويدخل ساحتها صناع الأغنية والموسيقى المحترفون وعلى كل المستويات بالإضافة الى الهواة والمجتهدون في خدمة هذه القضية كما وتصبح ساحة للمنافسة الحامية بين الفصائل والتنظيمات والأحزاب السياسية الفلسطينية بشكل خاص والعربية بشكل عام.

نستنتج هنا بأنه وكلما كبرة المأساة والفجيعة كبر بالنتيجة دور الأغنية التي توثق الحالة برمتها من انعكاسات حسية انسانية كالشعور بالإحباط والألم نتيجة للتعرض للظلم والهزيمة ،والدعوة  لترميم الكرامة وما تهدم في النفس من مشاعر العزة والإباء. ولشد الهمم وتحفيز القدرة الكامنة في الإنسان للتحمل وعبور المصائب ،ثم للوقوف مجدداً وشحذ الهمم وتجميع الصفوف لمقاومة أسباب الهزيمة وإعادة الأمور الى نصابها واسترجاع ما اغتصب من أرض وحقوق.

إن الأغنية هنا وفي هذه الحالة هي بيان وموقف إنساني وسياسي يعلنه الأفراد والأحزاب تحمل كل منها فلسفة ومواقف منتجها ووجهة نظره ،بل وأساليب الحلول التي يراها ويتبناها لمقاومة العدو ولتحقيق الإنتصار.ولذلك نلاحظ تنوع نصوص هذا النوع من الأغاني بقدر تنوع الفصائل الفلسطينية وتنوع مواقفها السياسية وفلسفة وايديلوجية كل منها.فكل منها يمتلك صناع ومحترفين يبدعون له خصيصا أغاني تطير بفلسفته عبر الأثير الى شتى الآذان ، أغاني خاصة تردد في المناسبات والمهرجانات التي يقيمها كل فصيل ، وتمثلة في المناسبات العامة والمشتركة.فالأغنية الفلسطينية الحديثة مؤرشفة حسب التنظيمات الفلسطينية أي حسب منتجها وبالنتيجة توجهها السياسي والأيدلوجي . بمعني باب لأغاني (حركة فتح) وباب آخرلأغاني (حركة حماس) ، وباب لأغاني (الجبهة الشعبية) ، وباب لأغاني (سرايا القدس) وباب لأغاني (لجان المقاومة الشعبية) وباب للأغاني (الرسمية لدولة فلسطين) .كما أن هناك أبواب أخرى لأغاني عامة تتغنى بأسماء المدن والقرى وجمال الطبيعة ، بالإضافة إلى أغاني التراث والدبكة واخرى كثيرة ومتنوعة.(قوائم الأغاني المؤرشفة على موقع القضية الفلسطينية) 8* .

لنا أن نقول بأن الشعوب لاتموت ، والشعب الفلسطيني هو شعب خلاق ومبدع ولم تستطع كل القوى التى تجمعت وتآمرت عليه ، لم تستطع تطويعه أو ثنيه عن العمل والنضال لإعادة حقوقه المسلوبة ، وهكذا نجده يقدم التضحيات والقرابين كل يوم وكل ساعة ودقيقة .شعب مثابر على العمل الصبور وهو مؤمن بأن كل الساحات هي ساحة معركة ونضال عليه خوضها واجتيازها بنجاح  .وهنا نحن بصدد ساحة تعتبرمن أهم ساحات المعركة المصيرية لهذا الشعب، ألا وهي ساحة الموروث الثقافي – الفني والفلكلور الشعبي . لذلك برزت في هذه الساحة مجموعة فرق حملت راية النضال الفني ومقاومةً ما يهدد بإندثار المأثورات الشعبية المتنوعة لهذا الشعب. ومن أمثلتها  “فرقة العاشقين” التي زودها الموسيقار الفلسطيني حسين نازك بأروع الألحان وأشرف على الكثير من عروضها الفنية ، وهي من أهم الفرق التي حملت على عاتقها المحافظة على التراث الشعبي الفلسطيني في الذاكرة الشعبية، إيماناً منها ما لذلك من أهمية في خضم المعركة المصيرية القائمة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية . وهي مهتمة بالمحافظة على ما يمتلكه الشعب الفلسطيني كالزي الوطني وتطاريز المرأة الفلسطينية في كل المدن والقرى بالإضافة الى كل الفنون الشعبية كالدبكة والرقص والموسيقى والغناء . وتميزت هذه الفرقة بتقديمها الأغاني الثورية المقاومة بإسلوب موسيقي متميز يعتمد على التراث والقوالب الغنائية المتوارثة للشعب الفلسطيني .وكذلك فرقة “الحنونة للثقافة الشعبية” وهي كذلك إحدى الفرق التي اهتمت بكل الحقول آنفة الذكر وقدمت عروض جماعية متميزة استقت الحانها من الموروث الشعبي الفلسطيني.وكذلك “فرقة الإعتصام للنشيد الإسلامي” والتي تؤدي أناشيد بمصاحبة الإيقاعات مما أكسبها تميز في العزف على أنواع مختلفة من الإيقاعات وتوضيفها في ملء فراغ انسحاب الآلات الموسيقية الأخرى . و شهد الوضع بروز العديد من الفرق الحديثة التي اهتمت بالتراث الشعبي في شتى المدن والقرى في فلسطين ، وفي كثير من بقاع الشتات حول العالم.


(تسميع أغنية لفرقة العاشقين)

وفي هذا السياق وخلال البحث والفرز حيرني اختيار فرق فلسطينية عديدة متباعدة جغرافياً وأيديولوجياً لإسم  ”البيادر” كتسمية لها يتبعه تعريف لحقل احترافها . مثل “فرقة البيادر” دون إضافات ، و فرقة “البيادر الفنية” ،وفرقة “البيادر للفن الإسلامي” ، وفرقة “البيادر للزجل الفلسطيني”(وليس اللبناني كما هو معروف) 1975 بلبنان وفرقة “البيادر لإحياء التراث الفلسطيني” – بالإمارات ،وفرقة “البيادر الشعبية” من دير حنا، وفرقة “البيادر الفلسطينية” ، وفرقة “البيادر للفن الشعبي”،فرقة الطاحونة (التي كان اسمها “البيادر” سابقا)، و”فرقة البيادر للرقص الشعبي” وفرقة “البيادر المسرحية” وفرقة البيادر في الدانمارك والسويد . لكنني وجدت الإجابة في حوار مع الفنان أحمد شكيب حليمة  أحد أعضاء فرقة “البيادر لإحياء التراث الفلسطيني” – الإمارات إذ أجاب  (بأن الفلاحون الفلسطينيون دأبوا على جمع السنابل في مواسم الحصاد  ووضعها على البيادر حتى جاء الغزو الهمجي على بلادنا).وأدركت حينها العبرة ، فمن هنا جاءت التسمية كما أظن تيمناً برمزية البيادر ومواسم الحصاد للشعب الفلسطيني الذي فقد وطنه. شعب يتمسك بكل تفاصيل (المكان)، البيت ،الحارة ،التلة ،النبع،الحقل، وكل البيئة المحملة بعطر المكان – الوطن ،البحر ، والسهل ، والجبل  . المطر ، والنسيم ،وعبق الزهور، كل ما وجد في فلسطين فهو مقدس…..إنه الوطن أحبتي ، ويفهم ذلك من كابد البعاد.

(تسميع أغنية الله يا كرما توسط)



الله يا كرماً توسط خلف كرم
في قمة عليا تلوح بطول كرم
في قمة عليا ، أرسلت كفيا
كي تقطف شيا،  منها تصد المجد
          ———–
السهل حتى البحر في مد النظر
صورٌ من الفردوس تتلوها صور
ماجت بعيني، واستوطنت في
ولم تزل تحيا، في القلب حتى اليوم
       ————
في كل درب بين هاتيك الشعاب
تاريخُ ثوراتٍ تسطر في كتاب
ياشعبنا هيا ، نضاعف السعيا
وموعد اللقيا ، الشمس بعد الغيب 

 أغنية جميلة صيغت كلماتها بشكل رائع ،تناولت جمال الوطن وشبهته بالفردوس. الأرض والسهل والبحر و الدروب والشعاب كلها صور راسخة في الذاكرة والقلب ، تختزن تاريخ عظيم من المقاومة والثورات ضد المحتل على مر العصور . كما وتدعو الكلمات إلى مضاعفة الهمة والمسعى لتعجيل كنس المستوطن الغاصب وتظهر التفاؤل بحتمية بزوغ الشمس والحرية بعد طول غياب. وأعتبر هذا نموذج ممتاز للصياغة الغالبة على مضمون النص في الأغنية الفلسطينية الحديثة.

 أدرك الفلسطينيون مبكراً خطورة طمس هويتهم الوطنية فهي أصبحت تواجه هجمة عدو مغتصب جاء من كل أصقاع العالم  لتحقيق مشروعه على أرض الواقع و الذي لن يكتمل إلا عبر إقتلاعهم وسحقهم مادياً وثقافياً من هذه الأرض،تتيحها ظروف دولية وتاريخية مواتية هيئت له ممارسة أبشع أشكال وأنواع المذابح دون خوف من مسائلة أوعقاب. وأدرك الشعب الفلسطيني أن هويته كشعب مهددة بكل أبعادها الوجودية. كما أدرك الفلسطينيون طبيعة هذا النوع من الصراع فهو صراع وجود بكل ما تعنيه الكلمة ، أن تكون أو لاتكون وليس بينهما أية مساحة رمادية. ،فعليهم إما الكفاح من أجل إثبات هويتهم رغم إختلال توازن القوى في غير صالحهم أو السماح للمعتدي بإغتصاب أرضهم وما يتبع ويترتب على ذلك من تداعيات مأساوية عليهم لا نهاية لها .فالعدو القادم جاء عابراً القارات وحاملاً معه ثقافة العصابات المرتزقة وقطاع الطرق ،ولا أفعل لديه من تنفيذ سياسة الأرض المحروقة لإخلاء الأرض من أصحابها بإستخدام كل أسلحة العنف والبطش والترهيب والقتل دون رحمة.
يردد الفلسطينيون في أغانيهم عبارات ومفردات، من يجهل أسرارها قد يعتبرذلك من باب المبالغة الشعرية ليس إلا.وفي الحقيقة،هي قد تضيق على من وهب كل ما ملك.

من خلال استماعي الجيد للأغاني الفلسطينية في خضم إعدادي لهذا البحث المتواضع،فقد تبين لي بأن هناك العديد من الكلمات التي  تكررت في معظم نصوصها . بعض الأوصاف والمفردات التي من شأنها وصف الأحداث أو الحالة العامة للوضع الفلسطيني سواءً الأهداف أوما يتعلق بتجبير الجراح وبحفز الهمة والدعوة للمقاومة و وإطالة النفس والصبر والإيمان بحتمية الإنتصار وغيرها من الرسائل المحملة عبر نصوص الأغاني. فقد وجدت العبارات والمفردات التالية هي محور النصوص المغناة ، تكاد لا يخلو منها نص لأغنية فلسطينية .
فلسطين،الحقوق،التحمل ،الصمود، الشوق ،التضحية ، الشجعان ،البطل والبطوله،الجراح، ، الدم ،الألم،الحرية الأرض،الحجارة، الموت،الشهيد ،العودة،الشعب،أمي ،أم الشهيد التراب،المقاومة ،الفداء ،النهار،الشمس،السهر،الثورة، النار،الليل،والإبن،الضنى،الزغاريد،الزيتون،النبع،المياء،النصر،الوطن،الدار الغربة،العيون،الرصاص،السلاح،الأسوار،الطير،الجناح،،العرس والعريس،الحرية والأحرار، أسماء المدن والقرى،الرجال،العرب.

وهذا نموذج لنص أغنية آخر يشد عزم الشعب في بعض المدن والقرى:


شدي الحيل يا “غزة هاشم” ، حياك وحيا الشجعان
على أرضك نكبر ونقاوم ، لانمحي جيش الطغيان
يلا يا فرسان الشمال ، قولوا لا لا للعدوان
لا والله يا بيت حانونِ ، عمر ترابك ما بيهونِ
يابيت لاهيه إنتي بدمي ، لا ما انساك وهمك همي
يا جباليا لا تحزني ، شدي الحيل لا تنحني
اترابك مجبول بدمي ، حياك الله يا أرض بلادي
شد الحيل شد ، شد الحيل شد
أسمع “كلل” و”اسطا” و”شالت”، لبريج ونصيرتنا هانت
غير البلح والمغازي ، تتصدى للعدو النازي
ورجالك حماة بلادي ، حياك الله يا أرض أجدادي
شد الحيل شد ، شد الحيل شد
يلا يايا خان يونس ، خذي العزم من ولادك
على أرضك صمدوا ضحوا ، حلفوا ليصدوا العدوان
شد الحيل شد ، شد الحيل شد
يالا يا فرسان الجنوب، رفح الثورة قلعة صمود
يا أم الشهداء لا تهتمي ، وترابك مجبول بدمي
شد الحيل شد ، شد الحيل شد 
  

 تسميع :أغنية لها الدار ارجعوا هالدار بتنادي (أنغام شاتيلا)

لا أستغرب أن تزغرد النساء عند إعلان إستشهاد أحد المقاتلين أو المناضلين ضد الإحتلال  الصهيوني الغاصب، ولا حتى عند إستشهاد أحد الفتيان أو الفتيات في الطريق الى المدرسة أوعند العودة، أو حتى عند إستشهاد رضيع وهو يرقد بين أحضان أمه!.

فكم يا ترى تحتاج وأنت بمشاعرك الإنسانية الطبيعية، كم تحتاج من أقرباء قتلى وشهداء حتى يتحول النحيب لديك إلى زغاريد؟ ومراسم الجنازة إلى زفة عرس؟ هذه معادلة إنسانية غريبة .وهي ا لوحدها تفسر وتوثق لحجم الضحايا والقتلى والشهداء الذين يعبرون حتى أصبح التعامل النفسي لعامة المجتمع الفلسطيني مع فاجعة الموت على غير ما نألف في الطبيعة الإنسانية.



فلسطين في أغانينا العربية

كما ذكرت سابقا فالقضية الفلسطينة بكل ابعاده فرضت حضورها على الأغنية العربية كذلك وفي شتى أنحاء الوطن العربي وبالأخص بعد عدوان 1967 .وقد تفاعل معها الكثير من الفنانين وصناع الأغنية نستعرض بعض الأسماء التي استمعنا لبعض نتاجاتها . ففي مصر قدم الموسيقار محمد عبد الوهاب رائعته “أخي جاوز الضالمون المدى” وهي قصيدة إسمها “فلسطين” كتبها – علي محمود طه -  يحكي فيها مأساة 1948. وقدمت أم كلثوم من أشعار نزار قباني والحان محمد عبد الوهاب “أصبح عندي الآن بندقية”.كما قدمت من تأليف صلاح جاهين والحان رياض السنباطي”راجعين بقوة السلاح” و”إنا فدائيون” من تأليف عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدي.ومن الحان كمال الطويل و تأليف صلاح جاهين غنت “والله زمان يا سلاحي “.وكارم محمود غنى من قصائد توفيق زياد”هنا باقون”، والشيخ إمام غنى العديد من الأغاني لفلسطين أربعة منها أو أكثر هي قصائد معروفة لتوفيق زياد ، “قبل أن يجيئوا”، “مليون شمس في دمي “، و”الذي أملك “و قصيدة “أناديكم” قبل أن يعيد غناء الأخيرة  الفنان أحمد قعبور بلحن آخر.كما غني سيد مكاوي “الأرض بتتكلم عربي”.

أما لبنان وفنانو لبنان فقد أعطوا الكثير لفلسطين في هذه الناحية . سطرت  فيروز والراحابنة سلسلة من روائعهم الإبداعية التي نُقشت في وجدان وحس الشعوب العربية جمة .”زهرة المدائن”،و”القدس العتيقة”،”ردني الى بلادي”،”سنرجع يوماً”،”بيسان”،”غاب نهارٌ آخر”.ملاحم فنية يعز إصدار لمثيل لها كما يشعر أهل جيلنا.  وسلفادور عرنيطة الذي لحن وقدم “سجل أناعربي”لمحمود درويش في ثوب أوبرالي مع الأوركسترا .كما لحن الفنان بول مطر بعض قصائد محمود درويش كذلك وغناها في مهرجان الشباب في كندا عام  1974 .ثم وبحماس ثوري شديد قدم الفنان أحمد قعبور مجموعة من الأغاني زاوجت بين الهم اللبناني والفلسطيني حيث لا فرق “أوناديكم ” و”إسمع”و”منفياً” و”إرحل”،و”عودة”و”البيارق”ومنسيين”و”نحن الناس”ونبض الضفة”و”الغربة”و”عشاق الأرض”و”يارايح صوب بلادي”،  وكذلك “أحن الى خبز أمي” وهي نفس القصيدة التي غناها مارسيل خليفة بألحانه لاحقاً ، أعمال فنية تنبض بجراح الناس وتنزف دماً يحترق. صفٌ طويل من الفنانين اللبنانيين يقف في خندق واحد مع الفلسطينيين يؤلف ويلحن ويغني ويروج الإبداع ويضع فلسطين في قلب أغانيه ، بل ويحمل السلاح فعلاً ويقاتل لأجل القضية  .

أي نو ع من الفنانين أنتم ؟ .تتقدم المغنية جوليا بطرس بمجموعة الأغاني ،ويصر الفنان وليد توفيق على تواجده في الساحة النضالية للفن بشكل متكرر.مشاركات وإبداعات لماجدة الرومي ،وكارول سماحة ،وملحم بركات ، وغيرهم الكثير، الكثير،مشاركات تعلن عن مواقفها الرافضة للظلم والعدوان و تتصدى للتحدي .

ولمارسيل خليفة من وجهة نظري تميز فني ملحوظ في التجربة الفنية اللبنانية هذه . فهو تقدم  للجمهور بمدرسة غنائية متميزة ، وذلك لإمتلاكه الكثير من المقومات الفنية والموسيقية وكونه أبن التخصص. فما لبث أن  دخل الساحة حتى فاض وقدم  لفلسطين العديد من الأعمال الغنائية المعبرة و التي استقبلتها الجماهير واحتضنتها بحميمية نادرة ، بدأً من البوم “وعود من العاصفة” حتى “ركوة عرب”.

أما الفنان العراقي جعفر حسن فله إبداعات مبكرة ومتميزة بدأها في أوائل السبعينيات ولا زال يضمن حفلاته المختلفة أغاني الحب والتضامن مع فلسطين ،وحسب ما أملك من ذاكرة فإن أغنية “فلسطينية شبابتي” هي بداية لباكورة أعماله في هذا الحقل ثم تلتها عدة أغاني منها “عازف الغيثار” و قصيدة “تحد”(شدو وثاقي) لمحمود درويش،و”مادامت لي من أرضي أشعار”،و”فوق متاريس الشهداء”،و”يا فلسطيني هات البشاير”،و”دمٌ في الشوارع في فلسطين”،و”الصمت عار والخوف عار”للشاعر اليمني عبد العزيز المقالح.

ومن المغرب قدم الفنان سعيد المغربي ولا زال إبداعات موسيقية وغنائية ،وغنى  قصائد لمحمود درويش ومعين بسيسو وصخر الفلسطيني وكذلك فرقة جيل جلالة التى تضامنت مع الفلسطينيين يتقديم عدة أغاني منها”مزين امديحك” و”يا صاح” و”غيرحدوني”      

وليعذرني الأحبة الفنانون العرب في كل بقاع الأرض العربية وفي الشتات على هذه العجالة ،  إن كان سعيي لتتبع هذا النوع من الغناء والنشاط قد شابه القصور .

لن أطيل عليكم بالسرد، ولكن علي أن أشير قبل الباب الأخير بأن هناك من الفنانين وصناع الأغنية، وعلى امتداد الوطن العربي من هم مهمومون وبفلسطين يحلمون . يُتابعون ويُنتجون ويُروجون . يُوّصل البعض منهم ما يُفصح به من مواقف فنية ، وجلهم يُخفقون في إبراز ما يستطيعون ويؤمنون. هم جنود مجهولون يقدمون الكثير من الإبداع والجهد ولكن الكثير من الصعاب هم يواجهون . فلهم التحية لكل ما يقدمون.

من رام الله للبحرين شعب واحد لا شعبين.

تفاعلت الفنون  في البحرين مع القضية الفلسطينية منذ النكبة. والأحداث المتتالية والمتعاقبة هناك ، دائماً ما وجدت لها صداً بين فناني البحرين ومثقفيها .وعبرما أملكه ، وما أملكه فقط من معلومات فإن الفن الغنائي بدأ في التفاعل مع القضية الفلسطينية مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات .وأعني بالتفاعل هو بدأ إشتغال آلة الإبداع لدى فنانو البحرين لتجسيد ذلك عبر إنتاج مجموعة من الأغاني تتضمنها البوماتهم الموجهه لعامة الجمهور أو خلال الحفلات والمهرجانات التضامنية . في سنة 1981 أنتجت أجراس البومها الأول بعنوان”أمنيات أطفال” تضمن بعض الأغاني الطفلية وهي “السلحفاة”و”السمكة “والنحلة ” من نصوص الشاعر خيري عبد ربه وقام بتلحينها الفنان إبراهيم علي ،الى جانب أغاني “أعشق السلام”وبالحب السامي”و”أنا طفل فلسطيني”و”قبلتني أمي”.التي كتبتُ نصوصها الأربعة وتوزع تلحينها بين خليفة زيمان الأولى والثانية . وعلي الديري الأغنية الثالثة .والأخيرة من ألحان إبراهيم علي .(صورة أجراس في مستشفى الأعصاب) 9*

بعدها قدمت أجراس في البوماتها اللاحقة مجموعة من القصائد الجميلة وتعاون أعضاءها في تقديم ألحان مبتكرة كانت فلسطين محورها الأساس.وإن لم تستطع أجراس إنتاج بعض من تلك الأغاني وتوفيرها لتكون في متناول الجمهور ، إلا أنها قُدمت في المهرجانات الخاصة بأجراس أو في الإحتفالات  التي أقامتها دعماً للقضية الفلسطينية منذو بدأ تأسيسها الرسمي في عام 1982 وقبل ذلك.
وهذا جدول للأغاني المعنية :

الحان عبد الوهاب تقي : قصيدة الأرض – محمود درويش – غناء هدى عبد الله وأجراس
الحان إبراهيم علي: إرادة الحياة – أبو القاسم الشابي – غناء هدى عبد الله
الحان علي الديري: أنا طفل فلسطيني – سلمان زيمان – غناء سلمان زيمان
                      حدثوني – محمود درويش – غناء مريم زيمان وأجراس
                      بابل – سميح القاسم – غناء أجراس
الحان محمد باقر: ليلى العدنية – سميح القاسم – غناء سلمان زيمان
الحان خليفة زيمان : الجسر – سميح القاسم – غناء سلمان زيمان
                      إعتذار – محمود درويش – غناء سلوى زيمان
                      غريبان – محمود درويش – غناء هدى عبد الله
                      صوت الجنة – سميح القاسم – غناء سلمان زيمان
                      تقدموا- سميح القاسم – غناء أجراس
                      المغني – توفيق زياد – غناء فوزي الشاعر
                     درة للقدس – سلمان زيمان – غناء خليفة زيمان
                     قتلوك في الوادي – محمود درويش – غناء سلوى زيمان
الحان جابر علي: لا تنامي – محمود درويش – غناء هدى عبد الله
الحان سلمان زيمان : القدس في عينين – راشد حسين – غناء سلمان زيمان
                        درب الحلوة – سميح القاسم – غناء سلمان زيمان
                       أم الجدائل – توفيق زياد – غناء سلمان زيمان
                       شجرة الزيتون – سهام عيطور شاهين – غناء سلمان زيمان
                       موسيقى عربية – محمود درويش – غناء سلمان زيمان
                       ذكريات – توفيق زياد – غناء سلمان زيمان
                       قبل أن جاؤا – توفيق زياد – أجراس
                       جسر العودة – توفيق زياد – سلوى زيمان
أي ما مجموعه 23 عمل غنائي.

كما يغني الفنان خالد الشيخ من الحانه مجموعة من 6 قصائد لفلسطين ، خمس منها لمحمود درويش هي ، “غريب في مدينة بعيدة” (عندما كنت صغيراً) ، و”أغنية حب على الصليب” (مدينة كل الجروح الصغيرة)،و”أبيات غزل” ، و”رحلة الغجر”، و”موال” هذه  بالإشتراك مع هدى عبد الله في الغناء. وقصيدة “زنابق لمزهرية فيروز” كذلك بالإشتراك مع الفنانة المغربية رجاء بالمليح في الغناء.مجموعة الحان جميلة أبدع فيها الفنان خالد الشيخ وقدم من خلالها تجربة لحنية موسيقية متميزة.

ويقدم الفنان محمد حداد مساهمات مهمة في التلحين والتوزيع لبعض القصائد والأغاني. “من سماء الى أختها”هي قصيدة لمحمود درويش قام حداد بتلحينها وتوزيعها لكورال مركز سلمان الثقافي للأطفال ،كما لحن أغنية “أرض الأنبياء” لكاتبها محمد العرادي التي قدمت في أكثر من إحتفال ومهرجان داخل وخارج البحرين، بالإضافة الى قيامه بتوزيع وتنفيذ أعمال في صالح التضامن مع فلسطين كأغنية “قمر نابلس” للمنشد علي التاجر ،وفي مصاحبته على آلة العود بإرتجالات لحنية مع الشاعر قاسم حداد في القاءه لقصيدة “الشهيد” بنادي العروبة.

يبدع البحرينيون ويسخرون فنهم الغنائي في صالح الوقوف مع الحق الفلسطيني ولإضهار تضامنهم مع الفلسطينين وحقهم المقدس في العودة الى أرضهم . ويوجد لدينا في البحرين قائمة طويلة من الفنانين المؤمنين بدور الفن المسخر لخدمة القضية ،وفاعليته في المساهمة في هذه المعركة لصالح الحق الفلسطيني العربي. فالسيد / عمران جمال أنتج عملين غنائيين لصالح فلسطين عبر مؤسسته صوت وصدى .الأول من الحان وليد جلال تحت أسم “صوت السلام”شارك في أداءه علي بحر،ووليد جلال،ويوسف محمد،ويوسف الشتي،وسلمان زيمان،وفاطمة وأشواق.أما العمل الثاني فكان تحت إسم “لدينا رسالة” من ألحان طارق الجار وغناء 15 فنان بحريني وفنان واحد من قطر. كما لحن الفنان حسن حداد قصيدة “إنهم أشباح” للشاعر أحمد العجمي وقدمها ضمن البوم آلهة الحرب وقام بتلحين عدة قصائد لمحمود درويش إلا أنها لم تنفذ حتى الآن.كما ساهم الفنان علي بحر وفرقة الأخوة بتقديم أكثر من عمل غنائي يتضامن مع القضية الفلسطينية نذكر منها أغنية بعنوان “فلسطين” ضمن البومهم  ”كلاسيك 1998 “.كذلك الفنان محمد جواد الذي لحن وقدم أغنية “الجدار” وأغنية “البرتقال الحزين” محاولاً الدخول بهما الى قطاع غزة المحاصر قبل أشهر لتجسيد التضامن البحريني على الأرض. وقد سبق للفنان يوسف الغانم أن لحن قصيدة سميح القاسم “زنابق لمزهرية فيروز” عام 1987 وغنتها الفنانة المعروفة نجمة في البومها الأول . كما لحن الفنان علي الرويعي أغنية “يرجع حقنا” من كلمات فواز الشفيري وتوزيع يوسف زمان وأداء ياسر ومحمد جناحي . هذا بالإضافة الى عدد كبير من الأناشيد التي تقدمها بعض فرق الإنشاد المهتمة بقضية التضامن مع فلسطين .
ألا ترون معي بأن حجم المشاركات والمساهمات الإبداعية للفن الغنائي البحريني لنصرة فلسطين هو ملفت بالمقارنة مع بلدان عربية أكبر بكثير مساحة وسكانا من البحرين؟.

أترك الإجابة للمتخصصين .


سلمان زيمان
المراجع:
·       موت مدير مسرح – ذاكرة الأغنية السياسية للكاتبب عبيدو باشا
·       موقع القضية الفلسطينية –www.palintefada.com
·       “قبل الشتات” التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948 للباحث وليد الخالدي
·       مراحل تطور الأغنية الفلسطينية – اطروحة للباحث الدكتور معتصم خضر عديلة

 

اقرأ المزيد

من قضايا ما بعد قمة التعاون

تفاوتت آراء مختلف المتابعين لنتائج القمة الثلاثين لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت في الكويت يومي 14 و15 ديسمبر 2009 بين من بالغ في تقييمها إيجابا ومن وصفها بالخيبة والإخفاقات، وبين هذا وذاك من سعى لإعطاء تقييم موضوعي.
بسبب تغير الظروف الموضوعية التي حددت الدوافع الحقيقية لقيام مجلس التعاون قبل ثلاثة عقود فقد تطورت الأهداف التي وضعتها القمم المتتالية أمامها لصالح تلبية حاجات التطور الاقتصادي الاجتماعي لشعوب وبلدان المنطقة. ومع ذلك فلا حاجة للتدليل على أن التحرك نحو تحقيق هذه الأهداف كان بطيئا للغاية. وهذا ما انطبق أيضا على نتائج القمة الثلاثين. وأبطأ من ذلك كان السعي من أجل تطوير عملية الديمقراطية السياسية التي ظلت جامدة أو شبه جامدة في غالبية دول المجلس. ولأن العمليتين مترابطتين جدليا فلا إنجازات اقتصادية اجتماعية وطيدة بدون مشاركة شعبية سياسية لتحقيق هذه الإنجازات. ولعل في التناقض الحاصل بين العمليتين ما يفسر أنصاف الحلول التي تخرج بها قرارات القمة. وفي هذه المرة، حيث كانت الآمال الأكبر معقودة على قرارات الاتحاد النقدي والوحدة النقدية، ناهيك عن ماهية هذه العملة ومكونات احتياطيها فقد جاءت القرارات لتعبر عن إرادة سياسية مشتركة بين قادة للمجلس للسير على هذا الطريق فحسب، تاركين للزمن غير محدد الآجال إتمام إنجاز هذه المهمة الكبيرة. وبقيت شعوب المنطقة تردد بيت شعر التمني الشهير:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
حسنا، لنترك للزمن يقول كلمته. ولنصغ برهة لنداء الطفل حمد بوناشي لقادة القمة بتحقيق ولو مشروع خليجي مشترك واحد في كل عام. ولنتوقف عند هدف من الأهداف التي طرحها إعلان الكويت: ضمان الأمن الغذائي والمائي، بل عند الشطر الأول من هذا الهدف – الأمن الغذائي في ضوء التحديات التي تشهرها الأزمة العالمية في وجوهنا.
خبراء منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ‘’الفاو’’ يحذرون من أن مؤشر أسعار الغذاء المحسوب على أساس أسعار أهم السلع الغذائية مستمر في التصاعد خلال العام .2009 وفي نوفمبر الماضي ارتفع بمقدار 11 نقطة مسجلا الحد الأقصى السنوي 168 نقطة. ويخشون من أن هذا الاتجاه سيظل مستمرا خلال العام .2010 ومنذ منتصف العام الحالي تصاعدت أكثر من غيرها أسعار منتجات الألبان التي ارتفعت لأكثر من 70%. فالطلب على الحليب في تزايد، بينما تراجع إنتاجه في كثير من بلدان العالم وخصوصا في أميركا، مستورده الأكبر. ولهذا فإن أسعار هذا المشروب المفيد ستظل ترتفع أيضا لأنها لا تزال بعيدة عن المستوى الأقصى الذي بلغته في العام الماضي .2008 وقد ارتفعت أسعار منتجات الألبان في الوقت الحالي بنسبة 80% مقارنة بأدنى سعر كان عليه في فبراير من هذا العام. ولسوف تعتمد الأسعار لاحقا على ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيطرح احتياطاته من الزبدة والحليب في الأسواق العالمية. وفي حين تظل حصة الأسواق النامية من نمو الاستهلاك العالمي لمنتجات الألبان تشكل حوالي 96% فقد بينت معطيات شركة تتراباك العالمية المتخصصة في تعبئة المواد الغذائية أن معدل استهلاك الفرد في دول مجلس التعاون واليمن من هذه المنتجات بلغ 25 لترا سنويا مقابل 10 لترات فقط في عموم منطقة الشرق الأوسط العام .2008
ويقول تقرير الفاو إن من بين الحبوب ارتفعت بشكل خاص خلال الأشهر القليلة الماضية أسعار الأرز لتحقق زيادة بنسبة 20%، وهي سلعة غذائية ضرورية لشعوب مجلس التعاون. في الوقت نفسه نجد أن السعودية مثلا قد أبلغت في نوفمبر الماضي الموردين بوقف الدعم الحكومي للأرز، في حين حذر أحد الموردين ‘’أن الأسعار ستتأثر مستقبلا.. في حالة ارتفاع سعر الأرز عالميا من جراء ارتفاع الطلب العالمي..’’.
أما الرقم القياسي المطلق في تقرير الفاو فقد ضربه السكر الذي ارتفع سعره إلى الضعف بين بداية ونهاية العام الحالي. وفي الوقت نفسه تشير معطيات الأسواق الخليجية إلى أن أسعار الأرز في بعضها ارتفع منذ منتصف رمضان الماضي فقط إلى أكثر من 40%، ناهيك عن ارتفاعه عما قبل رمضان كالعادة.
وقد يرى بعض الخبراء المتفائلين في ارتفاع أسعار المواد الغذائية مؤشرا على بعض التعافي في الاقتصاد العالمي، لكن الأمر الأكيد هو أن هذا الارتفاع سوف ينعكس سلبا على جيوب غالبية سكان الأرض، بما في ذلك سكان دول مجلس التعاون. وها نحن أمام أحد التحديات الخطيرة التي تطرحها الأزمة العالمية. ومشروع الأمن الغذائي يمكن أن يشكل جوابا على هذا التحدي. فما الجواب العملي المحدد الذي سيقدمه قادة التعاون لممثل جيل المستقبل حمد بوناشي بهذا الخصوص في العام الجديد 2010؟ وبالمناسبة كل عام وأنتم بخير.
 
صحيفة الوقت
28 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

مقالات ممنوعة

لسلامة موسى كتاب طريف اسمه “مقالات ممنوعة”، وأول ما يتبادر للذهن حين نقرأ عنوان الكتاب هو كيف تكون هذه المقالات ممنوعة طالما قد نشرت في كتاب؟! في المقدمة يجلي الكاتب الغموض أو اللبس، فالأصل أن هذه المقالات قدمها صاحبها للنشر في الصحف المصرية قبل ثورة 23 يوليو، ولكن الرقابة أو أصحاب الصحف تحفظوا على نشرها في حينه لأنها تمس موضوعات تعد في نطاق المحظورات أو على الأقل في نطاق مالا يُرغب في التعرض له عبر وسائل الإعلام، وعبر الصحافة خاصة. وكان الكاتب يحتفظ بنسخٍ من تلك المقالات التي لم تنشر، أو لعله يستعيد النسخ التي قدمها للنشر بعد أن يعرف قرار أصحاب تلك الصحف بعدم نشرها، فما أن تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال بعد عام 1952 حتى قام سلامة موسى بجمع هذه المقالات وأصدرها في كتاب تحت العنوان المشار إليه. وأذكر إني حين قرأت هذا الكتاب منذ سنوات طوال لا أذكر عددها، أحسست بأن الحديث فيها يدور عن قضايا لم تحل تماماً بعد الثورة، إذا ما تجاوزنا سطح التفاصيل ودخلنا إلى عمق الأشياء، ولعل المقالات نفسها لو كتبت بعد الثورة مبنية على تفاصيل جديدة فلربما كانت واجهت هي الأخرى مشكلة في النشر، رغم أن سلامة موسى كان من أكثر الكتاب المصريين حماساً لثورة يوليو، بل أنه في المقدمة كتب ما مفاده أن هذه المقالات ما كانت سترى النور لولا التغيرات التي شهدتها مصر بعد الثورة. غاية القول أن ثمة قضايا تظل عويصة على المعالجة أو المقاربة بصرف النظر عن طبيعة النظام الاجتماعي – السياسي في أي بلد، لأنه مهما كان الحديث عن سقف الحرية، يظل هذا “السقف” محكوماً باعتبارات وقواعد، تتبدل في الشكل أو المظهر، لكن لا تتغير في الجوهر. ومرة طالعت مقالة طريفة لكاتب عربي تحت عنوان “مطالع مقالات لم تكتب”، هي عبارة عن مجموعة مداخل أو استهلالات لمقالات شرع الكاتب في كتابتها، ثم أنه صرف النظر عنها، أو لم يكلمها، فاكتفى ببضع سطور أولى ثم توقف، وحين قرأت تلك المقاطع وجدته خليطاً من أفكار وقضايا وتعليقات لا يبدو منها إن ثمة أمراً خطيراً في ثناياها، ولكن الكاتب توقف عن القول حتى لا يقع في قول المحظور، أي أنه يتحاشى هذا المحظور وينأى بنفسه عنه. ويبدو لي أن هذا الكاتب يعبر عن معاناة عامة لكل الكتاب، خاصة أولئك المعنيين بالكتابة الدورية المنتظمة، حيث يتعين عليهم ملاحقة الفكرة والبحث عنها، لأنها وحدها لا تأتي، وما أكثر ما يتوهم الكاتب أنه أمسك بالفكرة، ويشرع في الكتابة عنها، ولكنه ما أن يخط السطور الأولى حتى يتيقن أن المضي أبعد مما كتب ليس ممكناً، لأن محظورات كثيرة تعترضه، فيقرر صرف النظر عن تلك الفكرة فيدخل معاناة البحث عن سواها. لذا تبدو “مطالع المقالات” التي لم تكتب أو لم تتم، مداخل مهمة للتعرف ليس فقط على ما كان يشغل ذهن الكاتب ولم يتمكن من انجازه، وإنما التعرف أيضاً على تلك العوائق أو الكوابح أو الموانع التي تجعل الفكرة تختنق عند سطورها الأولى.
 
صحيفة الايام
28 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

يا تلاميـذ غـزة

يصادف يوم السابع والعشرون من ديسمبر 2009 ذكرى مرور عام على الحرب الإسرائيلية الهمجية التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 1500 شهيد و5500 جريح وما يزيد عن 600 جريح أصيبوا بعاهات مستديمة نتيجة بتر أعضاء من أجسادهم، وتدمير آلاف المنازل والبنية التحتية والمزارع ومساحات واسعة من قطاع غزة .
 

 

 


 

ذكرى الحرب28 ديسمبر2009.jpg


نختار في ذكرى هذه المأساة الأليمة قصيدة للشاعر الكبير نزار قباني
 

يا تلاميــذ غـزة

 
يا تلاميذ غزة
علمونا
بعض ما عندكم
فنحن نسينا
 
علمونا
بأن نكون رجالا
فلدينا الرجال
صاروا عجينا
 
علمونا
كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفال
ماسا ثمينا
 
كيف تغدو
دراجة الطفل لغما
وشريط الحرير
يغدو كمينا
 
كيف مصاصة الحليب
إذا ما اعتقلوها
تحولت سكينا
 
يا تلاميذ غزة
لا تبالوا
بأذاعاتنا
ولا تسمعونا
اضربوا
اضربوا
بكل قواكم
واحزموا أمركم
ولا تسألونا
 
نحن أهل الحساب
والجمع
والطرح
فخوضوا حروبكم
واتركونا
 
إننا الهاربون
من خدمة الجيش
فهاتوا حبالكم
واشنقونا
 
نحن موتى
لا يملكون ضريحا
ويتامى
لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا
وطلبنا منكم
أن تقاتلوا التنينا
 
قد صغرنا أمامكم
ألف قرن
وكبرتم
خلال شهر قرونا
 
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا
لكتاباتنا ولا تقرأونا
 
نحن آباؤكم
فلا تشبهونا
نحن أصنامكم
فلا تعبدونا
 
نتعاطى
القات السياسي
والقمع
ونبني مقابرا
وسجونا
حررونا
من عقدة الخوف فينا
واطردوا
من رؤوسنا الافيونا
 
علمونا
فن التشبث بالأرض
ولا تتركوا
المسيح حزينا
 
يا أحباءنا الصغار
سلاما
جعل الله يومكم
ياسمينا
 
من شقوق الأرض الخراب
طلعتم
وزرعتم جراحنا
نسرينا
 
هذه ثورة الدفاتر
والحبر
فكونوا على الشفاه
لحونا
أمطرونا
بطولة وشموخا
 
إن هذا العصر اليهودي
وهم
سوف ينهار
لو ملكنا اليقينا
 
يا مجانين غزة
ألف أهلا
بالمجانين
إن هم حررونا
 
إن عصر العقل السياسي
ولى من زمان
فعلمونا الجنونا

 

اقرأ المزيد

محطتان للتأمل ..!


محطتان تستحقان التوقف عندهما وتستدعيان التفكير والتأمل والحفاوة .. بقدر ما تستحقان البحث عن قاسم مشترك فيما بينهما اذا كنا نستهدف التدبر والمراجعة . المحطة الأولى عن تداعيات قضية كارثة السيول في جدة، حيث لا نجد مفراً من الإشارة إليها والتنويه بها فهي القضية التي فاجأتنا بما لم يكن في الحسبان وكشفت مستوراً لم يخطر على بال عنوانه الفساد الخطير في تداعياته ومالآته .. !
أما المحطة الثانية فهي تتصل بمبادرة وزارة الداخلية بإنشاء شعبة خاصة بمكافحة الفساد وتخصيص خط ساخن لتلقي الشكاوي والملاحظات المتعلقة بحالات الفساد لمتابعتها والتأكد من حدوثها واتخاذ الإجراءات المناسبة بصددها .
في المحطة الأولى تنبهنا قضية كارثة السيول في جدة وما أدت إليه من خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات الى ما أظهره خادم الحرمين الشريفين من شجاعة باعترافه الصريح بأن هناك أخطاء وأوجه قصور ممن أؤتمنوا على أداء مهام عامة ولم يقوموا بواجبهم، وبأن كل من أنحرف أو أخطأ أو أهمل سواء من الجهات الحكومية أو الشركات والمؤسسات التي نفذت المشاريع والمسؤولين الرسميين ، لن يكون أي منهم في منأى عن أي مساءلة أو حساب مهما علا شأنه ومقامه.
اذا أمعنا جيداً في هذه القضية وتداعياتها فسوف نجد بأنه لم يتم قلب الحقائق ، ولم تعزى أسباب الكارثة الى القضاء والقدر، ولم تبرر الأخطاء ، ولم يزين القبح، لم يحدث ذلك وإنما كان هناك اعترف صريح وواضح من قمة السلطة بالخطأ من زاوية “ إن الفاجعة لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة مثل الأعاصير والفيضانات الخارجة عن الإرادة والسيطرة، لأن الأمطار التي سقطت بمعدلاتها هذه تسقط كل يوم على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في جدة “. هو اعتراف واضح في المعنى والدلالة والتوجه اتضحت ملامحه بعد أن اقترن بتشكيل لجنة تحقيق “ منحت كل الصلاحيات لمحاسبة كل مقصر ومتهاون ومخل بأمانة المسؤولية الملقاة عليه والثقة المنوطة به “ ، واذا كان اللافت أن اللجنة قد باشرت سريعاً مهامها للوقوف على مواقع الشقوق والتصدعات في الأعمال والمهام والمسؤوليات والضمائر ومنعت من السفر مسؤولين سابقين وحاليين في أجهزة تنفيذية ورجال أعمال يمثلون الشركات والمؤسسات المعنية بالصفقات والعقود والمشاريع ذات الصلة بالبنية التحتية وأعمال الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار، والتجهيزات العامة، واستدعتهم للتحقيق في إجراء وصف بأنه غير مسبوق، وهي إشارات وتطورات رحبت بها الجمعية الوطنية السعودية لحقوق الإنسان واعتبرتها بأنها تعكس الرغبة الأكيدة في إشاعة روح المساءلة والمحاسبة لوضع الأمور في نصابها الصحيح بشكل لا يقبل التبريرات أو المواربة أو الأعذار أو التستر خاصة عندما تكون خسارة الوطن تفوق أي تقدير .
 
أليس ذلك أمرا يستحق الترحيب والحفاوة، ثم أليس ذلك الذي حدث في جدة باعث يدفعنا الى التأمل والمراجعة لعلنا نكتشف بدورنا ما لم يكن في الحسبان أو ما قد يثير لدينا أصعب وأعقد الأسئلة التي ينبغي أن تؤخذ محمل الجد .. ليس فقط تلك التي تقف عند حدود الإشكاليات التي نواجهها بعد كل موسم مطر ، كتلك التي شهدناها في الأيام الماضية رغم أن كل الجهات ذات الصلة ألفنا ادعاءاتها بالجاهزية الكاملة لمواجهة مآسي الأمطار التي تتكرر كل عام من دون مساءلة أو محاسبة ، وإنما المسألة أبعد من ذلك..!!
 
أما المحطة الثانية التي تتصل بمبادرة وزير الداخلية باستحداث شعبة في الإدارة العامة للمباحث الجنائية مهمتها مكافحة الفساد ، من زاوية أن الفساد يهدد النمو الاقتصادي ويعيق مسيرة التنمية ويخلق المزيد من الإرباكات في الخطط الوطنية للتطوير والتحديث ويزيد معدلات التضخم ويضر بمبادىء العدالة والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص ، ويهدد المال العام . هذه المبادرة تستحق الثناء ونشاطر من رحب بها وأيدها، ومن المؤمل أن تكون خطوة على طريق محاربة الفساد بجميع صوره وأشكاله ، بقدر ما هو مؤمل أن يكون توجه مجلس الوزراء المعلن في اجتماعه بتفعيل دور الرقابة الذاتية في الوزارات والأجهزة الحكومية وإيجاد آلية جديدة للتدقيق والرقابة تكفل تنفيذ توصيات وملاحظات ديوان الرقابة هو الآخر خطوة في هذا الطريق ، تضاف الى خطوات أخرى مطلوبة بإلحاح كنا قد استفضنا في تناولها سعياً وراء منظومة متكاملة رسمياً وأهلياً وبرلمانياً لمكافحة الفساد، نعود الى مبادرة وزارة الداخلية ونرى أنه بمقدور الوزارات والجهات الخدمية أن تحذوا نفس الخطوة التي قامت بها الوزارة لعل كل جهة بهذه الخطوة تفعل دورها بعيداً عن أي تقلبات ومناورات وتلكؤات يراد منها أن تظهر هذه الجهة أو تلك بأنها تتبرأ من الفساد وتكون ذا طابع مسرحي ، وهو أمر لا يستسيغه المواطن المتعطش بأن يلمس جدية في محاربة الفساد وأفعالاً تقنعه بأنه ليس هناك محصن ضد العقاب والمحاسبة، بقدر ما هو متعطش الى إجراءات وتشريعات وقبل ذلك إرادة وحسم لا مناص منهما في محاربة الفساد دونما هزل أو تمويه وبهرجة إعلامية مما ينال من صدقية الوجهة والتوجه.
 
الأيام 26 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد