المنشور

خندقان

الصراعات الضارية غير العقلانية في الدول العربية والإسلامية متباينة بمظاهرها وقساوتها عن كل مظاهر العنف في العالم، توجه الأنظار نحو الخندقين الاجتماعيين في المنطقة المتباعدين أشد التباعد، فثمة هوة هائلةٌ بينهما.
هذان الخندقان لا مثيل لهما بمثل هذه (الضراوة) في بلدان أخرى، رغم أن الديانة تجمع بينهما.
خندق الغنى الواسع المنفصل عن الفقراء والعمالِ الذي يعيش في قصوره وفيلله الفارهة، وهي مظاهر غنى موجودة في بلدان أخرى خاصة بلدان الغرب، لكنها لا تقوم على شبه الانفصال الكامل عن الأهالي، فيجري التحدث في منطقتنا بلغة أخرى غير لغة المواطنين، وتجلب عمالة ليست من البلد المعني، وتقوم الثقافة المستوردة عبر الفضائيات والنت، بتشكيل علاقات منفصمة عن ثقافة البلد، ولا تتداخل معها.
وفي العلاقات الاقتصادية فإن الطبقةَ الغنية تضع السيولة في خدمة الخارج بشكل أساسي، وما الداخل سوى حصالة لتجميع النقد المحلي، وتقوم القوانين الاقتصادية بإعطاء التسهيلات كافة لرأس المال هذا بالحراك من دون قيود. بعض الدول العربية تتبع نظاما ضريبياً، ورغم كل سوئه فهو يمثل شكلا من الحماية الوطنية ومن الاهتمام الحكومي بالأوضاع العامة، وعلى مستويي الرقابة والحريات السياسية والفكرية، تتحددُ عمليات توزيع الضرائب وإدخالها في تغيير حياة الجمهور، وقليلا ما يحدث ذلك، لكن ثمة أدوات قوية من قضاء مستقل ومن صحافة حزبية معارضة تواجه التحايل الضريبي أو الفساد.
وليس الإفراط في حرية رأس المال هذا عملا مفيدا لرأس المال نفسه، بل هو جزء من سياسات الرأسماليات الحكومية العربية الإسلامية الفاسدة، بفصل رأس المال الخاص عن البنى الاجتماعية وتغييرها، وجعله يهيم خارجاً، وتكتفي بعض الدول بالرسوم وهي عمليات تحايل يقصد بها دعم تلك الرأسماليات وتوفير مصادر غنائم لها.
ويرتبط هذا بأزمات الرأسماليات الغربية الراهنة التي تجعل الدول السائرة في سياساتها توجه الفوائض النقدية نحوها، بغرض تقوية اقتصادها، وحصول القادمة على أرباح محدودة في الواقع، ولكن هي ضمان سياسي للعلاقة بين التابع والمتبوع، بين الدول (الرأسمالية) المتخلفة والدول الرأسمالية المتطورة، ولكن الفوائض النقدية والتراكمات المالية اتضح انها اتجهت للبذخ وشراء البيوت الفخمة كما تفجر ذلك في الأزمة المالية الأخيرة وتأثر البلدان الرأسمالية المتخلفة أكثر بغياب الأدوات البرلمانية والرقابية الحقيقية.
وهو أمر يمثل الارتباط بين الخندق المتخلف في الدول العربية الإسلامية، والخندق المتقدم في الدول الغربية، وهما يعيشان في مستوى رفاهية متقاربة، وبالتالي فإن مصادر الثقافة كالأفلام والمسلسلات والأغاني واللغة والنت تتسم بخطوط متشابهة في تبادل المواد، وتغدو هي ذاتها مصدر استنزاف غربي.
وبالتالي فإن السياسة والقواعد العسكرية والصراعات الحادة تغدو أدوات هذا الخندق الغربي في إدارة الأزمات وليس لديه قدرات على تغيير هذا الطابع الصراعي الحاد من جذوره لأنه جزء من أدوات الاستغلال.
ومن جهة أخرى فإن الخندق الآخر خندق الفقراء في الدول العربية الإسلامية يغرق أكثر وأكثر في الانفصال عن الحياة الحديثة، والاستقرار الاقتصادي، ونظرة عامة على تدهور الحياة المعيشية وتبدل أنماط المعمار في هذه الدول، يوضح كيف غدت المقابر سكنا في بعض الدول لتستوعب عدة ملايين، وتفاقمت ظواهر الأكواخِ والبيوت القديمة والعشوائيات خارج الأحياء البسيطة وبطبيعة الحال خارج مدن الرفاه الخاصة، بل ان العمران تدهور داخل العواصم وقرب أحيائها التجارية الخ. وهذا يشير إلى غربة الحكومات والبلديات عن العمران وهي العتبة الأولى للتدهور العام.
في هذه الظروف ينفصم العامة هنا عن الثقافة الحديثة فهي مكلفة، وتتطلب سيارات وتلفزيونات وهواتف نقالة سريعة التبدل وأجهزة غالية ذات موضات مستمرة، فهم بالتالي يعرقلون توجه أولادهم وبناتهم لهذه الحداثة المكلفة، ثيابا واكسسوارات وعطورا وحلياً، خاصة مع ارتباط هذه الثقافة بالخندق الآخر وبذخه، وبالتالي فإن الثقافة الدينية المحافظة المتقشفة الزاهدة تغدو هي السبيل الوحيد العام للاقتصاد العائلي ولحفظ الأخلاق المتصورة هنا.
وتقود هذه الحياة للصراع السياسي العالمي، للانفصال عن خندق الغرب، وتعلل الأخطاء والنقص في الخيرات بأسباب غيبية أو سياسية مباشرة مؤدلجة حسب طبيعة الجماعات الدينية المتغلغلة هنا التي ستوظف هذه الجماهير الشبابية المأزومة من العيش المخنوق وحصار الآمال إلى أشكال معينة وعقائدية خاصة بحيث يغدو الشباب ثائرين وقانعين في ذات الوقت.
هي أزمة عالمية بين نمطين أو خندقين تتمظهر بأشكال شتى حسب البلدان وظروفها، وهما يتواجهان أكثر فأكثر: خندق يصنع السلع والفقر، وخندق آخر يشتري السلع ويصنع العنف.

صحيفة اخبار الخليج
31 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

نيكوس يضحك دائما!

التقيت بشخصية نيكوس في احد مقاهي نيقوسيا ’ وإذا ما قلنا وكتبنا عن طبائع تلك الشخصية فهو بالضرورة بحاجة لروائي عبقري مثل نيكوس كازانتزاكيس لتصوير نسيج هذه الشخصية العجيبة ’ ففي شخصيته طباع من زوربا وملامح بحار مغامر وسائح جوال ومكتشف للثقافات ومجنون من نمط جميل ’ إذ يجعلك كلامه المجنون المقارب للفلسفة تود مجالسته ’ فلديه من الأسئلة الاستفزازية المثيرة للفضول والعقل . كان نيكوس منتظما في حضوره للمقهى وتربعه طاولته التي تنتظره في وقتها المحدد ’ فقد عقد نيكوس معها ومع الزمن ومناخ المقهى وزبائنه علاقة ود مستمرة ’ وهو يفرض حضوره بمودته تلك مع كل الرواد هناك ’ كما أن صاحب المقهى يعتبره أبو الهول ’ هكذا صار اسمه وقد أحب نيكوس تلك التسمية ’ مع انه كرر مرارا علنيا انه والمكان عمود من أعمدة البارثينينوس في معبد الاكروبولس في أثينا ’ حيث انتصبت عالية فوق الهضبة ويراها الأثينيون من بعيد ’ منذ نشأتها حتى الان ’ كلما ابتعدوا ووجدوا مرتفعا بعيدا لا يقطع أبصارهم الممتدة .
ومثلما كنا نسميه أبو الهول فهو لا يمكنه أن يترك الضحك يغادر وجه الصبوح الطيب والمفعم بالمودة للجميع ’ فقد وزع الأسماء على رواد المكان بطريقته كما يوزع السخي كرمه للجميع دون انتظار أو مجاملة أو تزلف. بقيت وحدي بلا تسمية لكوني زائر جديد للمكان ’ غير أن نيكوس كسر هدوئي وعزلتي حينما قال لي ’ يبدو عليك من دول الجوار ’ فكان يتصورني بسبب البياض إنني لبناني أو من سكان بلاد الشام .
فقال مداعبا هل تدعوني لطاولتك أم انك بخيل ’ وإذا ما كنت خجولا فانا ادعوك لطاولتي ! تعجبت من بساطته وصراحته العجيبة وذلك الخطاب المباشر والتلقائي ’ فأدخلني في تساؤل الدهشة وحيرتها ’ غير إنني كسرته فورا بالرد ’ لكي لا تتهمني بالبخل فانا ادعوك إلى طاولتي ’ إذ يفضل الواحد فينا صفة الخجل بدلا من البخل. في تلك اللحظة لم أكن اعرف أن نيكوس يعرف كل الجالسين فهو ملك المقهى وأميرها المتوج ’ ومحبوبها اليومي ’ فيما عدا شخصي الغريب الذي سقط من السماء عليهم ’ فانتحى داخل المقهى في زاوية هادئة لو لا ضوء النافذة الذي يسمح بنفاذ خيوطها الشتائية الدافئة .
حالما جلس بقابلتي مد يده إلي مصافحا : نيكوس أندرياس لاجئ في بلاد تنتظر موتها ! فقلت له بحريني مفلس يبيع لؤلؤ صناعي ! ضحك بقوة لم أكن أتصورها فبدا كطفل كبير ’ فصرخ بيونانية اقرب للهجة أهل قبرص ’ وجدت التوأم الذي ابحث عنه فانا نصف مجنون وهأنذا وجدته هنا بعد أن طفت بلاد الانديز ولم اعثر عليه . أصبحنا بعد تلك الجلسة أصدقاء دائمين نتجاذب أحاديث الحياة والسياسة والسفر والنساء والفن والأدب والموسيقى. ومن خلال يوميات نيكوس العجيبة الغريبة ’ عرفت عن انه تخرج من إحدى جامعات روما في مجال الانثروبولوجيا ’ واخبرني أن حلمه كان الذهاب فيما وراء جثث الموتى في حضارة المايا والانكا ’ لكي يبعثر أحجارهم بطريقته حسبما يقول ’ فقد جذبته الرغبة الى هناك بسبب الموسيقى والحيوية والجنون والضحك ’ وأكد لي أنهم يناسبون شخصيته ودمه الحار وجنونه الجنسي وحبه للنساء . لم يستكمل نيكوس أحلامه ’ كابن للطبقة الوسطى ’ فقد مات والده وهو في سنة تخرجه ’ فحمل الأب للقبر غضبه على ابنه معه ’ فقد كان الأب يود لو تخصص ابنه في التجارة أو أي تخصص له علاقة بالبزنس ’ فدراسة جثث الإنسان الحي أو الميت لا تعني للأب عالم مفيد ’ كما أن ثقافة الشعوب وعاداتها وألسنها ليست أهم من التجارة معها ومناقصتها وغشها والكذب عليها . ماذا تعمل مع أب كهذا نصفه جاهل والنصف الآخر أحمق ! لقد أتعبني والدي بنصائح غبية لطالما كررها الآباء على الأبناء ’ حتى طفشنا منهم نحو المجهول ’ أمي وحدها كانت تغمز لي من وراء ظهره ’’ دعه يقول كل ما يريد وافعل ما تريد ’’ فلدى كل واحد فيكم عقل وروح مختلفة ’ انه بخيل جمع ثروته لكي يتركها لابن كريم جاء لينفقها بطريقته .
ظل نيكوس يمجد والدته التي علمته إن يحب الرقص والغناء والسفر ’ بدلا من ولولة والده المملة والجمل الميتة . عندما عاد نيكوس من ايطاليا اثر خبر وفاة والده وجد أمامه ثروة كبيرة ’ دزينة أوراق من أراض صارت أسعارها ثروة لوحدها وعمارتين بدخل ثابت في شارع رئيسي ’ ورصيد بنكي أرباحه السنوية تكفيه أن يعيش أميرا كل ليلة كما يشاء .
لكنه ظل متواضعا ’ بسيطا ومحبوبا كبساطة أمه التي هجرت عائلتها الثرية بسبب حبها المجنون لوالده المدقع ’ وعاشت معه رومانسية الفقر والبؤس ’ فكان على نيكوس أن يشهد حالة معاكسة ’ فهي امرأة جاءت من بيوتات غنية لم تلتفت للثروة وإنما لجنون قلبها وأب بائس محروم انغمس في تجميع المال ونسى كل ألوان المتع والضحك والفرح ’ ومكث يعد كل يوم دخله من متجر متواضع ’ بوجه مكفهر وكيف يتصرف مع أرباحه ’ وكلما دخل فناء البيت زعق على زوجته ’’ انك ستفسدين هذا الولد بدلالك ’ لا ألومك فأنت جئت من بيوت النعمة ’’ متناسيا بكل جحود تضحياتها من اجله . تلك التضحية – قال لي نيكوس – علمتني أن الحياة عبث ’ مثلما قالت لي أمي وهي على فراش الموت ’’ لا تكن يا بني مدفونا في الحياة كما ندفن في القبر ’ ولا تكرر ما عاشه والدك من حزن وهم وغم ’ فافرح بكل لحظة واضحك من أعماقك للحياة ’ فليس للحزن فائدة ’ وإذا لم تمنحنا الثروة سعادة وفرحا ’ فالأجدى أن نموت مبكرا ’’ . وبالرغم من سرده السريع ذكرني بموعد الغد على طاولته ’ فهو على عجالة من أمره ’ وهو يضحك قائلا ’’ تايم فور وومن ’’ وبصوت عال سمع الجميع صرخته وهو يخرج ’’ ينيكيس ’’ وتعني النساء . فهل نلوم نيكوس عندما يكرر علينا دائما بضحكته ’’ إن الزواج نقيض للحرية’’.
 
صحيفة الايام
31 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الحفاظ على الحريات العامة


في غمرة التطورات التي تشهدها البحرين خلال هذه الفترة، عشية الانتخابات البلدية والنيابية المقبلة، يهمنا التأكيد على أن صون الحريات المتحققة في البلاد  هو في مقدمة المهام الملحة، والإلحاح على صون هذه الحريات ينبع من إدراك أهمية هذه الحريات التي طالما طالبنا بها وناضلنا في سبيلها ومن أجلها قدم شعبنا التضحيات الكبيرة إلى أن بلغنا القدر المتاح منها بعد ميثاق العمل الوطني.
 
لا يجب الاستخفاف بهذا القدر من الحريات المتاح ولا الاستهانة به، ولكي ندرك أهمية ذلك علينا تصور الوضع الذي يمكن أن ينشأ في البلد لو جرى، لا قدر الله، مصادرة هذه الحريات في أي ظرف وتحت أي سبب أو ذريعة.
 
ومن هذه الزاوية بالذات حرصنا على التعاطي المسؤول مع المناخ الايجابي المتحقق في هذا المجال، واستثماره بصورة رشيدة تؤدي إلى تطوير الأداء السياسي في البلد وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل دورها، واستخدام الآليات التي يوفرها القانون في العمل السياسي الوطني، وهي ليست قليلة.
 
هناك في المواقع المختلفة من لا يعجبه هذا القدر المتاح من حرية العمل السياسي، رغم النواقص القصيرة غير الخافية علينا، لذلك فان صون الحريات لا يتأتى بالحفاظ على ما تحقق فحسب، وإنما تطويره والدفع به نحو آفاق جديدة، فأي مكسبٍ هو عرضة للتآكل، إن لم يجرِ الحفاظ على زخمه بتدابير إضافية تعزز منه وتوطده وتحميه من  الخطر.
 
 وكما قُلنا في مرات سابقة فان هذه الحريات بحاجة في درجة أساسية إلى بنية تشريعية تحميها وتكرسها، فمثلما أصبح العمل الحزبي، في صورة الجمعيات السياسية، ممكناً بقوة القانون، رغم تحفظاتنا على عدة بنود في قانون الجمعيات السياسية قيدت هذا الحق، فان العمل الحزبي يتطلب ضمانات إضافية، لن تتحقق إلا بإعادة النظر في المنظومة التشريعية المقيدة للحريات العامة والمعيقة لها، والتي صُممت على مقاسات مرحلة قانون الدولة البغيض.
 
وكانت آمال كل القوى المخلصة للوطن بعد إقرار ميثاق العمل الوطني وعودة الحياة النيابية أن يجري التوجه لتحرير القوانين المعمول بها من روح ونصوص قانون أمن الدولة، وتطوير التشريعات لتلبي حاجات الإصلاح والتحول نحو الديمقراطية، وهي المهمة التي عطلت من جانب الدولة وبتراخي وصمت الغرفة المنتخبة في مجلس النواب.
 
إن عالم اليوم، بفعل آليات العولمة التي هدت جدران العزلة وأسقطت الكثير من النظم الشمولية، وبما تتيحه هذه العولمة من تدفق المعلومات وانسيابها، وبالاتفاقيات الاقتصادية والثقافية بين الدول، ورسوخ معايير دولية متوافق عليها إزاء قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وتشريعات العمل وغيرها أضفت طابعاً دولياً على جميع القضايا، والبحرين، البلد المعروف بانفتاحه على الخارج وعلى الثقافات الأخرى، لا يمكن أن تكون خارج هذا السياق.
 
وعود على بدء نقول أن الحريات السياسية المتوفرة في البحرين هي المنجز الرئيسي الذي تحقق في بلادنا خلال السنوات القليلة الماضية، مما يجعل الدفاع عن هذه الحريات وصونها ومنع التراجع عنها في مقدمة المهام الملحة أمام شعبنا وحركته السياسية.
 

اقرأ المزيد

حرائق الإطارات والمقالات


لحساسيته المفرطة تصعب الكتابة في موضوع كهذا في ظرف مشحون يتراجع أو حتى يغيب فيه العقل أحياناً. إنها لمخيفة حقاً وصمة «يا إحنه يا هم» التي تحدث عنها أخي وزميلي عثمان الماجد في مقالته الرائعة في إحدى الصحف المحلية الأسبوع الماضي «أية معارضة هذه؟». ولأن الغبار المثار لم ينقشع بعد فإن بقاءه يدفع للكتابة بإلحاح.

تذكروا… من أيام هيئة الاتحاد الوطني في خمسينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته… من ذا الذي يمكن أن يجرؤ فيصم أياً من التنظيمات السياسية أو قادتها بالطائفية؟ تذكروا يوم خرج شعبنا موحداً لنصرة شعبي مصر والجزائر ووقوفه الدائم إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. تذكروا إرادتنا التي تلاحمت كشعب بحريني في مقاومة الاستعمار البريطاني – بالسلم والقوة – والدفاع عن مصالح الشعب المقهور. من ذا الذي كان يميز بين بونودة والقصاب ونجم وغيرهم من الشهداء الذين اختلطت دماؤهم الزكية فداء للوطن، من أية طائفة هذا الشهيد أو ذاك؟ تذكروا مارس/ آذار 1970 حين أسمع شعب البحرين بصوت واحد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة أنه يريد بلاده عربية مستقلة عن المستعمر البريطاني أو الطامع الإيراني، وبذلك وضعت انتفاضة مارس 1965 واستفتاء مارس 1970 الاستقلال الوطني على جدول الأعمال بكل قوة.

هل كان إنجاز الاستقلال شيعياً أم سنياً؟ تذكروا يوم صوّت شعبنا على ميثاق العمل الوطني بنسبة (98.4 %) الذي ارتضاه نقطة انعطاف ونبراساً للتطور اللاحق لمجتمعنا وبلادنا. وهل في هذه النسبة ما يشي بأن شعب البحرين كان يفكر «برأسين»، سني وشيعي؟ تذكروا اليوم المشؤوم الذي سقطت فيه طائرة طيران الخليج وهي تحمل على متنها نموذجاً مصغراً لشعب البحرين، فتجلببت البلاد كلها بالسواد. من كان يفكر، وهو يجوب البلاد ويصلي صلاة الميت أو يقدم التعازي، في أن ضحية الحادث سني أو شيعي؟

ويمكن أن نتذكر عشرات الأمثلة التي تؤكد وحدة شعبنا التي أصيبت اليوم بمكروه بسبب «نضالات» من نوع مختلف عن تلك التي عرفناها من أجل الشعب والوطن.
فعن وعي في الغالب أو غير وعي أحياناً، عمل ذوو تفكير «يا إحنه يا هم» على تزييف الوعي الاجتماعي والتقاليد النضالية الأصيلة لشعبنا. ومهما قال دعاة هذا التفكير سواء على جبهة إضرام النار في الإطارات أو إضرامها في مقالات الصحف والخطب فإن جوهر أطروحاتهم الأيديولوجية من على ضفتي الطائفية واحد: إن على الشعب أن يُقدم على الانتحار الجماعي فداء لرسالتهم «السامية». أما أية رسالة هذه التي يجب أن يذهب عامة الشعب فداء لها، فحول ذلك يجري بين قوى التزمت الطائفي «حوار طرشان» لا ينقطع. وبالنسبة لنا فالأمر سيان سواء جرى الحديث عن هدف الصعود إلى المريخ أو زراعة الفجل على الأرض، كما يقول الناقد المعروف ليف بيراغوف. إنهم – هنا وهناك – يدفعون بشعبنا نحو الانتحار الجماعي. وحكاية الانتحار الجماعي تتكرر في تاريخ الجماعات والشعوب بأشكال ومضامين مختلفة.

في العام 1561 وفي أشد الحالات تطرفاً أقدم هنود ماي على انتحار جماعي عن طريق شنق أنفسهم. كانوا يعتقدون أنهم بذلك يقدمون أرواحهم قرابين في سبيل إنقاذ شعبهم. واعتبروا الحبل الملتف على أعناقهم بمثابة الوصل مع الآلهة. وللإنصاف فقد كان هؤلاء، بعكس ما يعمل به المتطرفون في أماكن وحالات أخرى، يمنعون إجبار أي أحد على الانتحار بالإكراه. وحسب تفكيرهم البدائي فقد كانت تلك محاولة لحل المشاكل الاجتماعية المعقدة. لكن أكثر حالات الانتحار الجماعي إثارة للدهشة في القرن العشرين كانت تلك التي قام بها أكثر من تسعمئة من جماعة طائفة «المعبد الشعبي» في العام 1978 في غويانا هرباً مما أسموه «بالحضارة البرجوازية المثيرة للريبة». يقول يرامي بارنوف في هذا الصدد: «إن ارتباط الإنسان المعاصر بالأوهام السوداء يحمل في طياته عواقب وخيمة»، مشيراً إلى أن هذا ما قامت به تلك الطائفة المؤسسة «على شاكلة» شبه فيوررية (نسبة إلى هتلر) – شبه دعوية نبوية. ورغم اختلاف الخبراء حول ما إذا أقدم هؤلاء على الانتحار الجماعي طوعاً أو أنهم شُرّبوا «كول إيد» المبرد والمشبع بسم سيانيد البوتاسيوم، فليس هنا يكمن الجوهر. الأكثر مرعباً هنا هو أن يكون هؤلاء الناس قد تدنوا إلى درجة من فقدان الصواب ليقيموا «الليالي البيضاء» (هكذا سميت التمارين العامة على الانتحار الجماعي التي كانت تجرى في معسكر اعتقال جونس) أو غيرها من البدع الخرافية ليسير الناس نحو حتفهم مستكينين».

أيها الطائفيون المتزمتون اعتبروا من التاريخ وكفى تزييفاً لوعي شعبنا وشحنه طائفياً. دعوا الشعب يعود إلى تقاليده النضالية الأصيلة والإبداعية البناءة، المتجهة باتجاه التاريخ لا عكسه. نعم، في تاريخها تحدثت الحركة الوطنية عن مختلف أشكال وأساليب النضال ومارستها. لكنها لم تقل لمناضليها يوماً سمموا أجواء الأحياء المكتظة بالسكان بدخان الإطارات، وقولوا في الوقت نفسه «يحيا الوطن»، أو دسوا السموم في مقالات وخطب الشحن الطائفي كما تدس في مياه الشرب في بعض الحروب، واهتفوا «يحيا الوطن»… أي وطن هذا الذي تريد بناءه دعوات كهذه؟!
 
صحيفة الوسط
30 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الديمقراطية في زمن القلاقل والحروب (1-2)

على الرغم من مرور قرنين ونيف على ارساء النظم الديمقراطية والدستورية في الغرب فان كل الدول الغربية التي اخذت بهذه النظم عجزت عن ان تؤمن كفالة الحريات العامة وحقوق الانسان بأزهى صورها لمواطنيها في أوقات الحروب الخارجية أو الحروب الاهلية وغيرها من القلاقل الداخلية والاضطرابات ككفالتها في أوقات السلم والاستقرار واستتباب الامن.
وإذا ما قارن المرء مقارنة ممعنة متفحصة بين نجاح أي دولة غربية ديمقراطية معروفة بعراقتها في توخي ومراعاة حقوق المواطنين السياسية والمدنية في أوقات استتباب الهدوء والسلم الاجتماعي الداخلي وبين نجاحها في ذلك خلال دخولها في حروب خارجية أو في اوقات اختلال الاستقرار والقلاقل والهزات بجبهتها الداخلية فان نجاحها في الحالة الأولى هو الأكثر تفوقا وترجيحا من الحالة الثانية، وسواء استندت عند مسها وانتهاكها بدرجة أو اخرى لحقوق مواطنيها إلى قوانين استثنائية دستورية تبيح لها تعطيل بعض الاحكام الدستورية في زمن الحرب والقلاقل أم لم تستند في ذلك، وهنا المصيبة مضاعفة.
هذا الوضع من الاشكالية التاريخية في التباين بين الحالتين ظل مستمرا في كل الدول الغربية الديمقراطية بلا استثناء، حتى وقتنا الحاضر، ولعل آخر تجلياته ما جرى ويجري في الدول الغربية من إجراءات وممارسات استثنائية لمواجهة “الإرهاب” على خلفية احداث سبتمبر 2001، وعلى الأخص في امريكا وبريطانيا، ففي ظل تلك الإجراءات والممارسات الاستثنائية لم تستطع هاتان الدولتان ان تمارساها جنبا إلى جنب مع التقيد الدقيق بحقوق المواطن وحرياته المكفولة دستوريا، ولاسيما المواطن المنحدر من فئة أو ديانة موصومة بـ “الإرهاب” كالمسلمين، لا بل ان تلك الإجراءات والممارسات الاستثنائية المتخذة لم تقتصر عليهم في الاخلال بحقوقهم السياسية والمدنية والانسانية التي كفلها لهم الدستور بل طاولت مواطنين من فئات مختلفة ومن ضمنهم المواطنون البيض الاصليون.
وكما هو معروف فان كل تلك الممارسات المنافية لحقوق الانسان كانت مثار احتجاجات منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية، فضلا عن كل القوى السياسية الديمقراطية سواء القلقة من تلك الإجراءات، أم المتضررة منها تضررا مباشرا، ام القلقة من اثرها في المكتسبات الحقوقية والديمقراطية التي حققتها شعوب تلك الدول الغربية بعد تضحيات هائلة دفعتها على مدى قرون.
وبالتالي وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول ان معادلة الجمع بين الحقوق والحريات العامة بكل دقة من جهة والتدابير الامنية سواء – المخولة للدولة دستوريا أم غير المخولة لها دستوريا – من جهة أخرى هي معادلة ما برحت صعبة التحقيق ومن اعقد الاشكاليات التي ما برحت تواجه الفكر الديمقراطي في النظرية والتطبيق، إذ ظل النجاح فيها محدودا جدا على صعيد الممارسة العملية.
بعبارة اخرى لا توجد دولة ديمقراطية غربية حتى اليوم تمكنت من أن تصون الحقوق والحريات لمواطنيها خلال ازمنة الحروب والقلاقل والاضطرابات الداخلية كصيانتها هذه الحقوق والحريات في أزمنة الاستقرار واستتباب السلم الاجتماعي والهدوء.
صحيح ان الدولة أو السلطة الغربية الديمقراطية مقيدة دستوريا في استخدام التدابير والاجراءات الامنية الاستثنائية التي تحدد بدقة الحالات التي يجوز لها استخدامها ومدتها وتتوخى كل ما من شأنه عدم المس بحقوق المواطنين الاصلية، الا انها لم تنجح حتى الآن في تطبيق القانون الاستثنائي وعدم المساس بحقوق المواطن بشكل ناجح في آن واحد، فغالبا ما تلجأ السلطة الغربية – لسبب أو لآخر – إلى التوسع في استخدام الإجراءات الاستثنائية بما يمس وينتهك ولو بعض حقوق المواطن الاصلية.
وإذا كان هذا هو الحال في الدول الغربية الديمقراطية العريقة فما بالك بالدول النامية الحديثة العهد بالتجارب الديمقراطية والدستورية، كدولنا العربية، التي مازالت بناها الاجتماعية تقليدية متقادمة لا تكاد تتجاوز المرحلة الاقطاعية وان حاولت ان تتجمل بعكس مظاهر تلك البنى؟ هنا فما لم تتحل القوى السياسية بنضج سياسي كبير ومعمق وتدرك بسعة افق مبكر المخاطر التي تواجه العملية السياسية الهشة والتي يمكن ان تواجهها مستقبلا ومن ثم تعمل باتجاه منع كل ما من شأنه دفع السلطة العربية إلى فرض القيود الاستثنائية واطالتها فانها تشارك موضوعيا بقصد أو من دون قصد – السلطة العربية في مسؤولية نشوء المناخ المتأزم الذي هيأ لتنفيذ أو فرض تلك القوانين والإجراءات الاستثنائية.

صحيفة اخبار الخليج
30 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الأزمة وصراعُ الإقطاعين في مصر (4-4)

أخذت تجلياتُ الصراعِ العميقةِ الهيكيلية في النظام المصري تتجسدُ سياسياً واجتماعياً، فالجمهورُ لم يعد يتلقى السياسات الحكومية بسلبيتهِ السابقة، برز حراكٌ نضالي متعدد الأشكال، مطلبي بين قوى اجتماعية متعددة، بدأت أولاً بالقوى العمالية التي تعاني أكثر من غيرها، وفي ظروف صعبة من بيع المصانع إلى ظروف العمل الرهيبة.
إن الارتباط بالدولار خفّض الأجورَ الحقيقية بعد تردي قيمة الجنيه المصري، وهذا يتداخل مع السياسة الأمريكية كذلك، بسبب التبعية لإسرائيل، وإيذاء المشاعر الوطنية والقومية، مما أحدث حراكاً سياسياً وطنياً رافضاً للتبعية، وتوجه نحو ضرورة تغيير البنية الاقتصادية المُدارة بشكلٍ سياسي سيئ، وتركز النقد في النخبة الحاكمة ومسألة التوريث وبضرورة تغيير مواد من الدستور. وكانت قضايا المعيشة والفقر هي من أكثر البؤر التي فجرت الأزمة:
(وفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الامم المتحدة عام 2009 جاء وضع مصر في المرتبه الـ 123 من بين 182 من أكثر دول العالم فقراً.. ووصلتْ نسبةُ السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى “مستوى أقل من دولارين في اليوم” الى 45% من السكان، ووفقاً لتقرير منظمة الاغذية والزراعة “فاو” لعام 2009 تعاني نصف الأسر المصرية سوء – تغذيةٍ نتيجة تدني الأجور ومستوى الدخل وأظهرت دراسة أعدتها وكالة بلومبرغ الألمانية للأنباء عام 2009 عن احتلال مصر المركز الـ 57 من بين 60 دولة في معدلات التضخم العليا ووفقاً لمؤشرات الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء وصل معدل التضخم فى الطعام والمشروبات الى 6،19% خلال الفترة من يناير إلى مايو 2010 وارتفع معدل البطالة وتدهور مستوى الأجور)، (من بيان الحزب الشيوعي المصري السابق الذكر). وهذا ما أدى إلى أكثر من ألفي إضراب عمالي في الستة الشهور الأولى من سنة .2010
هي أزمةٌ عامة ومشكلات من كل نوع، لكن الوضع السياسي يستجيبُ لها ببطء، لضخامةِ البيروقراطية العتيقة وتخلف الجمهور، والمعارضة الرئيسية الاخوانية تشارك بحذرٍ شديد في التحركات، لكونها تريدُ قطفَ ثمرة السلطة شبه الناضجة عبر الانتخابات بالشكل الراهن، ومن دون تغيير كبير في النظام، فأعضاء الحزب الوطني أنفسهم يقلدون الاخوان ويرفعون الشعارات الدينية المحافظة نفسها، ويرسمون الشكلانية الديكورية في الوجه والعادات ويعم التظاهر بالصلاح والتقوى، وهم ينتظرون من هو الغالب في ماراثون الالتهام الأكبر للأموال والشركات العامة والخاصة حتى ينتقلوا إلى سفينته.
أي بدلاً من أن يتوجه الحزب الوطني للحداثة والعلمانية والتقدم وإيجاد إصلاحات للجماهير الفقيرة عاد إلى الوراء.
العالم المقحمُ من الفضاءِ الدولي وهو المرشحُ محمد البرادعي، جاءَ من خلال التوجيه الغربي، لوضعِ حدٍ للتكلسِ في السلطة المصرية، التي لم تعدْ مقبولةً لأمريكا وأوروبا الغربية، ومن أجلِ أن تظهر سلطةٌ تخففُ من الصراعات وتبقي العلاقة المصرية – الإسرائيلية – الأمريكية كما هي، أي إنهم لا يريدون تغييراً ثورياً أو دينياً محافظاً، ولا يريدون أن تبقى السلطة في الحزب الوطني الذي احترقتْ أوراقه!
كما أن البرادعي تهديدٌ للحزب الوطني بضرورة أن يتغير وأن يغدو ليبرالياً تحديثياً!
ويبدو ان فرص البرادعي ضعيفة، وإذا اشترك في الانتخابات يكون ذلك مهماً لكن النتيجة محسومة للحزب الوطني ولجمال مبارك واستمرار السياسة الساداتية المباركية نفسها بديكورات جديدة.
الاضطرابُ هو نفسه في أحزابِ المعارضة الليبرالية واليسارية، فمصر الليبرالية التقدمية لا تريد العودة للوراء عبر الاخوان المسلمين، ولا تريدُ البقاءَ في أحضان الإقطاع السياسي المترسمل، لكن ليس لديها البديل.
فبؤرُ الأحزابِ اليسارية لم تحسمْ حتى المفردات بعد كل طوفان الأحداث والتحولات في العالم الشرقي خصوصاً، لاتزال العقلية اليسارية القديمة سائدة، كالحديث عن انتصار الاشتراكية في حين يتطلب البلد جبهةً واسعةً لتشكيل نظام ديمقراطي علماني يبعدُ الدينَ عن السلطة ويبعدُ السلطةَ عن الحزب الحاكم الأبدي.
فحتى حزب الوفد يغازل المفردات الدينية الشمولية وتخلى عن ميراثه الديمقراطي العلماني، أي أن كل أجنحةِ البرجوازية تخافُ من أي تغييرٍ عميق، فرؤوسُ أموالِها في حالاتِ سيولةٍ بين الداخل والخارج، وهي في نفسية مرتعبة من الثورة الداخلية ومن حكم الاخوان المتشدد ومن الجماهير التي تعيش في حالة تخدير ديني وفي هذيان اجتماعي عام، غير قادرة على التصويت الجيد.
ربما تحدث المفاجأة وتفوز المعارضة الليبرالية عبر البرادعي وربما يتكرر سيناريو إيران، لكن من الصعب أن تتكرر سيناريوهات الدول الأوروبية الشرقية، وهذا يعبرُ عن كونِ الطبقة السائدة الغنية ذاتِ أجنحةٍ متضادة بشكل كبير، لم تنشئ ثقافة منسجمة عصرية ديمقراطية بينها، بسبب طبيعة إنتاجها المتخلفة وقواها المنتجة العاملة الريفية والحرفية، ولعدمِ وجودِ طبقةٍ صناعية كبيرة متقدمة تفرضُ التحولَ للديمقراطية الحديثة.

صحيفة اخبار الخليج
30 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

تسقيط الوطنيين

خلص الأخ عبيدلي عبيدلي في مقالٍ أخير له، إلى دعوة من لم ينفكوا عن شن حملات التشهير والتعريض الشخصي بالجمعيات السياسية الوطنية وممثليها «إن لم يكن في الوسع تقديم الدعم لهم، والتعبير لعبيدلي هنا، فان أضعف الإيمان الكف عن تشويه صورتهم التي لم تتوقف آلات كثيرة عن تهشيمها، لا لشيء سوى الحيلولة دون وصول أي من ممثلي هذا التيار إلى قبة البرلمان».
تنطلق دعوة الأخ عبيدلي هذه من حرصه الذي عبر عنه مراراً في مقالاته المتعددة حول أهمية تعزيز مكانة التيار الديمقراطي ودور قواه السياسية وشخصياته الوطنية في الحياة السياسية في البلد، بوصف ذلك شرطاً للتطور الديمقراطي ولمعافاة المجتمع من لوثة الطائفية.
والحق ان مهمة تشويه صورة ممثلي التيار الوطني، وان اختلف الأفراد والجهات والمنابر التي تشنها، الى حد التناقض، كما يبدو ظاهراً، لكن الغوص في عمق الأمور سيكشف أن الدوافع والأهداف واحدة عند كل هؤلاء، وهو تحطيم صورة هذا التيار وممثليه، وقطع الطريق بوجه أي فرصة له لتحسين مواقعه في المجتمع.
ومن يقرأ سطور ما يكتبه البعض على بعض المواقع، وما خلف هذه السطور لن يحتاج لكبير عناء كي يكتشف أن الهدف المباشر لحملة هؤلاء التي اشتعل اوارها في الفترة الأخيرة، لا يختلف عن أهداف حملة أشمل ترمي لتسقيط ممثلي التيار الوطني حتى قبل بدء الحملة الانتخابية.
وفي هذا السياق فان هؤلاء لا يتورعون عن اقتراف كل المخازي التي يمكن أن تخطر في البال، و حتى التي لا يمكن أن تخطر بتلفيق الأكاذيب وخلق الاشاعات والتعريض بالشرف الوطني والنزاهة الشخصية، كأن الناس الذين افنوا حياتهم في النضال الوطني، باتوا يباعون ويشترون في سوق النخاسة السياسية، وهو تفكير مريض نأسف أن يصدر من أشخاص، كنا نأمل لو انهم احترموا أعمارهم على الأقل، فإذا بهم يتصرفون بمراهقة سياسية، وبصورة لا تنم إلا عن الخفة.
إن مناضلي المنبر التقدمي والقوى الوطنية الأخرى، ومن الأجيال المختلفة الذين ناضلوا وما يزالون في سبيل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحياة الحرة الكريمة للمواطنين، ليسوا بحاجة لمن يعلمهم دروساً في الوطنية ولا بالطريقة التي عليهم أن يديروا بها خطابهم السياسي، ففي المنبر التقدمي من المناضلين الأكفاء والشجعان الذين عركتهم الحياة طوال عقود من النضال من هو قادر على رسم سياسته وتوجهاته.
ويشكل مصدر فخر واعتزاز لنا أن تنظيمنا يضم في صفوفه مناضلين من وزن أحمد الشملان ومحمد نصر الله ومحمد جابر الصباح والراحلين مؤخراً مجيد مرهون وجليل الحوري وعبدعلي الخباز وغيرهم الكثير ممن يُعدون مرجعيتنا المعنوية والسياسية، وشركاء في صوغ خطنا السياسي.
والمنبر التقدمي المناضل من أجل الإصلاح السياسي وفي سبيل الديمقراطية والتصدي للفساد، ومن أجل حقوق الطبقة العاملة التي يتمتع بثقل نوعي كبير في صوف حركتها النقابية، وضد أي انتهاك لحقوق الإنسان لن يتردد في التأكيد على ضرورة النضال السلمي ونبذ ممارسات العنف من أية جهة جاءت، وعلى أهمية بناء مؤسسات المجتمع المدني واستنهاض دورها، ولن ينجر لأية مزايدات.
ووفق هذا الفهم يخوض المنبر التقدمي حملته الانتخابية الراهنة، وسواء افلح مرشحوه في الفوز أم لم يفلحوا فانه سيواصل نهجه المعروف لدى الجميع.
 
صحيفة الايام
30 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

الأزمة وصراعُ الإقطاعين في مصر(3)

عبّرَ صراعُ الحزبِ الوطني الحاكم والإخوان عن صراعٍ عميقٍ في الطبقةِ الماليةِ الاقتصادية السائدة التي تكونتْ خلالَ العقود الأخيرة في مصر، وعن عدمِ قدرةِ هذه الطبقة على حلِ تناقضاتها الاقتصادية والسياسية والايديولوجية، والقيام بالتوحد وتشكيل نظام رأسمالي ديمقراطي علماني.
المصدران الرئيسيان اللذان كونا الرأسمالَ العامَ والرأسمالَ الخاصَ جاءا من السرقةِ السياسية أو من السرقةِ الدينيةِ الاقتصادية، ولم ينشآ بشكلين (طبيعيين)، أي من خلالِ بناء المصانع وتحويل الفلاحين والنساء إلى عمال. إن كل رأسماليةٍ وليدة تحتاجُ إلى فترةِ تراكمٍ بدائي، تتسمُ بالاستغلال العنيف الفاحش، وقد طالتْ فترةُ التراكم المحاصرة كذلك بالهجوم الرأسمالي العالمي وبالجذور الإقطاعية العميقة.
لقد عرفنا كيف هيمنَ الضباطُ الأحرارُ على الملكية العامة، وتكونتْ رأسماليةُ الحزب الوطني التي هي ذروةُ ذلك الفساد السياسي، وقطعتْ تراكمات الوطنية والديمقراطية:
(يؤكد الدكتور جمال زهران عضو مجلس الشعب وأستاذ السياسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة قناة السويس أن الحكومة هي التي تحمي المفسدين، مشيراً إلى أنه تقدمَ وبعض النواب بمشروع قانون الحقوق السياسية لكي يكون هناك نوع من المشاركة من جهة، ومن إحكام السيطرة على النواب من جهة أخرى، ولكن الأغلبية تُجهض أي قانون تتقدم به المعارضة خصوصاً في ظل الضعف العام والتشرذم الذي تعانيه)، شبكة الإعلام العربية، أغسطس 2010).
(رصدتْ مجلةُ الإيكونومست الإنجليزية مظاهرَ الفقر والبطالة والتعسف الأمني والتناقض في مستويات المعيشة، ومظاهر الفساد الناتج عن تزاوج المال والسلطة في مصر، وهو المناخ الذي سمحَ بظهور من تسميهم المجلة بالانتهازيين داخل الحزب الوطني الحاكم، حتى إن نوابَ البرلمان صار هدفهم الحصول على الحصانة للاستفادةِ من امتيازاتها، وليس للتعبيرِ عن هموم الناس، وعن الطوارئ قالت المجلة، لم يُستخدم ضد الإرهاب والمخدرات مثلما تزعم الحكومة).
ومن جهةٍ أخرى تكونتْ ماليةُ الاخوان وخطابهم السياسي عبر الإقامة في السعودية، فجاءوا بأموالٍ وبأحكامٍ فقهية من المجتمع السلفي، الذي يشكلُ الإسلامَ عبرَ نصوصيةٍ، وكونوا أكبر قوةٍ مُنظمةٍ للرأسماليةِ الخاصة في مصر، وأدلجوا الفقهَ الإسلامي لتوسيعِ رأسمالِهم الخاص:
(ظهر هذا في موجة توظيف الأموال وما صاحبها من(المصارف الاسلامية) و(البنوك الاسلامية) وتجريم وتحريم التعامل مع البنوك العادية لأنها بنوك ربوية، ولابد من هجرها والتوجه لتوظيف الأموال والبنوك الاسلامية. وفي أواخر وأوائل التسعينيات اشتهرت شركات كثيرة في توظيف الأموال منها الشريف والريان وسعد. وظهرَ كبارُ الدعاة يروجون لها، أهمهم الشيخ الشعراوي والدكتور عبدالصبور شاهين، ومعهم كبار الصحفيين وأجهزة الاعلام، وفي الخفاء كان يؤيدهم كبار السياسيين مثل رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب، ووزراء ووكلاء وزارات. ومن الطبيعي أن يتسابق المصريون على إعطاء(شقى العمر) الى تلك الشركات، بسبب كل هذا الألق الاعلامي وهوجة الربح المضاعف والطمع الذي أضاع قيمة القناعة عند المصريين.)،(أحمد صبحي منصور).
تنامتْ التناقضاتُ الحادةُ بين أجنحة الطبقة السائدة، المختلفة التركيب، والأهم فيها والأقوى هو الذي يرضعُ من (أثداءِ) الدولة الوفيرة المال، والقريب من المدينة، والثاني الذي يرضع من الدين، ويقارب البداوة والريف، وقادر على حشد الجمهور المتدين الواسع بسبب هذا، وهذا نتاج رأسمالية غير تصنيعية بدرجة كبيرة وتحديثية، وذات أشكال مالية وعقارية أكبر.
إن الرأسماليةَ المصرية ككلِ الرأسمالياتِ الشرقية الدينية نشأت من أشكالِ الإقطاع في الأرضِ والسلطة، واندفعتْ للأرباح السريعة في العقار والبنوك، وفي العهد الثوري كونتْ بعضَ الأسس الصناعية الكبرى، وتخلت عن ذلك في عهد رأسمالية الانفتاح، التي تداخلت بتوسع مع الرأسماليات العالمية والفوضى وتهريب الأموال والفساد وترحيل العمالة وتكوين أزمات حادة في الاسكان والصحة الخ.
وتفاقمتْ أزمةُ هذه الرأسمالية المتخلفة المركبة خاصة في السنوات الأخيرة مع الأزمة المالية العالمية، وحسب معلومات البنك الدولي فقد انخفضَ معدلُ النمو بسببِ انخفاض تحويلات المصريين بالخارج ثلاثة وعشرين ونصف بالمائة وانخفض دخل قناة السويس والضرائب وانخفض معدل النمو من خمسة وعشرين بالمائة الى خمسة بالمائة بالنسبة إلى قطاع العقارات، كما واصل الفساد الحكومي أعماله:
(ومن افتضاح عقود الإذعان والبيع لأراضي مصر وثرواتها العقاريه(عقد مدينتي وتوشكي وجزيرة أمون وأرض التحرير وبيع مساحات واسعة من الأراضي في الاحياء القديمة والفقيرة عبر الاخلاء القسري من سكانها لشركات استثمارية عربية وأجنبية) إلى الكوارث التي نتجت عن الخصخصة وبيع المصانع والشركات لمجموعة من المغامرين (عمر أفندي وطنطا للكتان والمراجل البخارية وغيرها) وعمليات الفساد التي صاحبتها حيث تحتل مصر المركز الـ 111 في الشفافية والنزاهة من 180 دولة)، بيانٌ للحزب الشيوعي المصري.
إنها رأسماليةٌ متخلفة غيرُ قادرةٍ على نشرِ التصنيع والثورة التقنية، وتلاحق الأرباح السهلة السريعة، في شكليها الحكومي والديني المعارض، وبالتالي لا تستطيع تطوير القوى الشعبية وتثوير عملها وعلاقاتها الاجتماعية ومستواها الثقافي فينعكسُ ذلك سياسياً بمقولات الدولة الدينية الشمولية بجناحيها.
هذه الأزمة الطاحنة أدت إلى ظهورِ قوى جديدةٍ تحديثيةٍ مختلفة عن العقود السابقة.

صحيفة اخبار الخليج
29 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

برودسكي : برداً وسلاماً على إسرائيل!

قبل شهور استنفر العالم اعلاميا وسياسيا وامنيا حدث اغتيال المبحوح في دبي ’ وعرضت السلطات في دبي العملية بتفاصيلها الى درجة ذهل العالم من القدرة التقنية للسلطات الامنية المحلية هناك . تواصلت الضجة لايام كلما طفح على السطح موضوع جديد ’ ففي البداية كان العدد المتورط لا يتجاوز اكثر من 12 -14 شخصا ثم بدأ الرقم يتزايد ’ ثم بدأت الصور المعروضة تتسع الى حد بلغ فيها الرقم 26 شخصا متهمين كعملاء للموساد . سمعنا ضجيج الدول التي تم تزوير جوازاتها تعلن فحيحها من الجحور ’ قرأنا تصريحات دبلوماسية كاذبة لذر الرماد في العيون ’ انتظرنا الهاربين جميعهم أن يقفوا في قفص الاتهام في كل بلد وان يتم اصطياد ولو واحد منهم ’ توقعنا الكثير من شرطة الانتربول أن يفعله مع اشخاص اغلبهم ذهبوا نحو بلدان اوروبية ’ فان لم يذهبوا بنفس الجوازات التي استخدمت في الدخول او الخروج من دبي ثم استبدلوها بغيرها نحو مناطق اخرى ’ فانهم في النهاية غير قادرين على استبدال صورهم بكل سهولة حتى وان تزينوا بالشنبات والباروكة والالوان والنظارات ’ فنحن في عصر الكومبيوتر قادرين على رسم صورة الاشخاص بعدة ملامح ومن كل زاوية ’ بحيث لا يمكنه التملص بكل سهولة.
صمت العالم بنفس السرعة والقوة التي برز فيها الحدث ولمع بريقه واثار استغراب العالم ’ وقلنا ان الامن والشرطة الدولية الان منشغلة بكثافة وتنقب عن الهاربين ’ ولكن كل ذلك ذهب سدى ’’ وابن عمك اصمخ ’’ وما عادت حتى وسائل الاعلام ووكالات الانباء تجد لها خبرا منشورا عن تلك الجماعة العجيبة المحترفة لفن الاغتيال والتخطيط له عن بعد ! والتنفيذ عن قرب !! .
فص وملح وذاب هكذا بات المثل المصري هو المناسب لتلك الجماعات والعملية التي نجحت في تنفيذ مهمتها .
ربما الاعلام في اسرائيل ضج اكثر من اي بلد غربي واوربي ’ بل وهاجم الاسلوب الامني الاسرائيلي والعودة لسياسات التصفيات الجسدية السابقة كحقبة السبعينات ’ وحمّلوا السلطات العليا في الموساد مسؤولياتها كاملة ’ وبضرورة التحقيق معها قضائيا ودستوريا لمثل تلك التجاوزات غير القانونية بتزوير جوازات دول صديقة لاسرائيل! .
انشغل العالم باحداث جديدة وعواصف وفيضانات وحرائق ومباريات كأس العالم فنسوا تلك العملية الكبيرة في عالم الاغتيالات والتجاوزات من حيث ’ اولا تنفيذ العملية في بلد ثالث له استقلاليته وسيادته وثانيا استخدام جوازات ووثائق سفر مسروقة من مواطنين في دول صديقة . بعد كل هذا الضجيج والسكوت والملاحقة نجحت بولندا في اصطياد اول شخص من تلك المجموعة وهو برودسكي ’ ولا يهم كيف حدثت اللعبة والمطاردة والرصد ’ المهم هو ان برودسكي زوّر جوازا المانيا او هكذا تم بواسطة محترفي التزوير للوثائق في الاجهزة الامنية العالمية ’ ولكي لا تتحمل بولندا ضغوطا اسرائيلية وغيرها من وسائل قادمة من الاتحاد الاوربي كونها عضوا جديدا فيه ’ فعليها ان تلتزم بالاجراءات الامنية الوقائية في الاتحاد وتقديم كل اشكال التعاون بين اعضائه ’ لذا سلمت برودسكي الى المانيا بسرعة تحاشيا لكل شيء ’ بينما المانيا ’ التي لم تجد خلال الشهرين من التحقيق مع شخص استبدل جواز لاحد مواطنيها الا ان تراها تهمة بسيطة ’ وكأنها ليست معنية بقضية اوسع هي عملية اغتيال شخص في بلد ايضا له حقوقه الدولية وسيادته السياسية ’ خرج برودسكي من التوقيف في المانيا حاملا ترخيص امكانية السفر ’ خرج كما تخرج الشعرة من العجينة ’ بل ولم تعرف وسائل الاعلام المحلية بالتفاصيل بقدر ما عرفت كيف عاش المتهم برودسكي في بحبوحة السجون الالمانية . غادر مودعا المانيا بكل هدوء نحو اسرائيل ’ وهناك سيمنح ميدالية من المستوى الرفيع ’ كالتي تمنح لابطال مغاوير في انجاز مهماتهم بكل جدارة واتقان .
برودسكي ينعم في صيف 2010 باجازة صيفية مميزة على احد السواحل الاسرائلية ’ وبراتب مريح مثل اي عميل يتم مكافأته بشكل مجز لتلك المغامرة المتقنة ’ والتي اعتبرت اكبر مغامرة وحدث في عالم الاغتيال لعام 2010 ’ وحدثت بأرض دبي الهادئة والهانئة بامنها وارضها ’ غير ان امثال برودسكي المختفين حينها ’ كانت لهم ارض اسرائيل دائما وابدا بردا وسلاما ’ حينما تقفل في وجوههم مطارات العالم بحثا عنهم .
صارت اسرائيل ارض النعيم والطمأنينة لكل من يود انجاز مشروع اغتيال من هذا الطراز في بلد اخر’ المهم ان تدرك الدول ’ التي ستقبض على من يزيف جوازات سفرها بانهم يؤدون مهمة مشتركة لكل دول العالم كونهم يطاردون ارهابيين .
هذا ما جعل كل الدول التي زورت جوازاتها الموساد ان تغمض عينها عن حقيقة واحدة هي توظيف هوية تلك البلدان في عملية ارهابية بالمعنى القانوني والسياسي’ حتى وان كان التحقيق الداخلي السري معهم اجاز لهم قول اننا ننجز هدفا مشتركا في ملاحقة الارهاب العالمي والدفاع الامني عن بلدنا وبحاجة للدخول في تلك المناطق بجوازات سفر مقبولة ومشروعة هناك ’ لكون اسرائيل وجوازاتها ليس معترف بها في كل البلدان العربية ’ فيما الجواز الاوربي يشكل بردا وسلاما على اسرائيل في حقها اجتياز المناطق المحضورة بكل هدوء واحترام .
هكذا تورطت البلدان التي تم استخدام جوازها بينما كان في الجانب الاخر تفّهم غير معلن من تلك البلدان بمهمات الموساد ’’ الدولية’’ لمكافحة الارهاب ’ ورسالة لكل من يهمه الامر في تنقية وتصفية مثل هذه الاجواء من الشخصيات الارهابية وفق منطق المتصارعين في وضع دولي مزدوج ومختلف في مفاهيم كثيرة ’ وحائر في كيفية معالجتها بما فيها منظمة الامم المتحدة ’ التي لاذت بصمتها المطبق كون الفاعل هي اسرائيل ’ التي كانت ومازالت تتمتع بمقولة مهمة هي انها بردا وسلاما على العالم الحر وليس على اسرائيل وحدها !
 
صحيفة الايام
29 اغسطس 2010

اقرأ المزيد

إلى متى ستكابر إيران

‘‬السياسة ليست كشارع نيفسكي‮’.. ‬عبارة شهيرة كان أطلقها أحد عظماء صانعي‮ ‬أحداث القرن العشرين في‮ ‬تعبير بليغ‮ ‬عن أن البروغماتي‮ ‬وحده لا‮ ‬يرى في‮ ‬السياسة سوى خط شديد الاستقامة مثله في‮ ‬ذلك مثل استقامة شارع نيفسكي‮ ‬في‮ ‬العاصمة الروسية موسكو‮. ‬أما السياسي‮ ‬فإنه‮ ‬يرى في‮ ‬السياسة شيئاً‮ ‬أكثر تعقيداً‮ ‬وتركيباً‮ ‬انطلاقاً‮ ‬من نظرته الثابتة المتعددة الأبعاد إلى كل مرمى من مراميها‮.‬
هذا المفهوم العلمي‮ ‬المتراكم والمتجذر في‮ ‬تربة العلاقات الدولية عبر الممارسة التاريخية العاملة بالعبر والدروس والمعاني،‮ ‬لا‮ ‬يكاد‮ ‬يجد له مكاناً‮ ‬بين مرجعيات ومعايير مدونات سلوك القادة والساسة الإيرانيين سواء تعلق الأمر باستخدام هذه الأداة‮ (‬السياسة‮) ‬في‮ ‬الإدارة الكلية المجتمعية الداخلية،‮ ‬أو استخدامها في‮ ‬فضاء العلاقات الدولية الشاسع وتحديداً‮ ‬في‮ ‬علاقات إيران مع مختلف دول العالم‮.‬
ولعل من السهولة بمكان على أي‮ ‬مراقب متتبع للشؤون الدولية وبضمنها الشأن الإيراني،‮ ‬أن لا‮ ‬يجد في‮ ‬الخطاب الإيراني‮ ‬الموجه للخارج،‮ ‬العاكس إلى حد كبير الاتجاهات العامة للسياسة والدبلوماسية الإيرانية،‮ ‬سوى خطاب حافل بالتحدي‮ ‬والعنفوان الماسي‮ ‬المندفع والمزدحم بكم وافر من مفردات اللغة الثورية المتخشبة التي‮ ‬لا تستقيم مع الوضع السيادي‮ ‬المسؤول للدول المستقلة والمسجلة عضويتها في‮ ‬كافة المنظمات والاتفاقيات والمواثيق الدولية،‮ ‬فهي‮ ‬تليق أكثر بقادة حركات التحرر الوطني‮ ‬من الاستعمار وأنظمة الحكم المستبدة والطاغية‮. ‬وهي‮ ‬عموماً‮ ‬لغة لم‮ ‬يعد‮ ‬يستخدمها في‮ ‬عالم القرن الحادي‮ ‬والعشرين المتصل بعضه ببعض مادياً‮ ‬وروحياً‮ ‬رغم ممانعة الحدود السيادية الرسمية،‮ ‬سوى قلة قليلة من القادة السياسيين بعضهم لدواعي‮ ‬تكتيكية،‮ ‬استهلاكية محلية‮ (‬للأنصار والمريدين سواء ضمن القالب الرسمي‮ ‬أو ضمن الجبهة الأخرى المعارضة‮)‬،‮ ‬وبعضهم الآخر انطلاقاً‮ ‬من قناعات مبدئية أو إيمانية‮ (‬لاهوتية ما ورائية أو أيديولوجية أرضية‮).‬
هنا‮ ‬يذهب بعضنا،‮ ‬وهو محق،‮ ‬إلى أن السياسة الخارجية الإيرانية سياسة براغماتية‮.‬
هي‮ ‬نعم سياسة براغماتية وإنما من ذلك النوع من البراغماتية الأقرب إلى الأفعال وردود الأفعال الانفعالية ذات البواعث المتكئة على المناقبيات الخالصة من قبيل الأنفة والاعتزاز القومي‮ ‘‬الفوار‮’ ‬منه إلى العملانية‮ ‬‭(‬Practicality‭)‬‮ ‬التي‮ ‬تشكل الأساس الفلسفي‮ ‬للنظرية البراغماتية بمنشئها الأمريكي‮ ‬الأصل،‮ ‬من حيث تغليبها المصالح مقابل الايدولوجيا‮. ‬بهذا المعنى لا نكاد نرى أي‮ ‬أثر إيجابي‮ ‬لتمخضات ممارسة النهج البراغماتي‮ ‬من قبل القيادة الإيرانية بقدر ما نرى دفقاً‮ ‬جارياً‮ ‬من المواقف والخطابات السياسية الساذجة والشعوبية التي‮ ‬غلب عليها التخبط والتهالك والعفوية المرسلة في‮ ‬غالب الأحايين‮. ‬فأنت كمراقب محايد سوف‮ ‬يصدمك كم التهويش الذي‮ ‬يغلف ويطبع هذه‮ ‘‬البراغماتية‮’ ‬السياسية‮. ‬ولأن العبرة في‮ ‬الخواتيم فإن حصاد هذه‮ ‘‬البراغماتية البديعة‮’ ‬يتمثل في‮ ‬فقدان إيران لثقة دول الخليج العربي‮ ‬فيها،‮ ‬وتردي‮ ‬علاقاتها مع معظم البلدان العربية وفقدانها مؤخراً‮ ‬لإحدى أهم الدول الصديقة لها وهي‮ ‬روسيا،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن ضيق دائرة علاقاتها الدولية نتيجة لاضطرار مزيد من دول العالم للنأي‮ ‬بنفسها عن الانخراط مع إيران في‮ ‬تعاملات اقتصادية وتجارية جديدة،‮ ‬ناهيك عن علاقات سياسية‮.‬
وتقتضي‮ ‬الموضوعية القول إنه ليس من الإنصاف نسبة فضل كل هذا المثال الذي‮ ‬انتهت إليه إيران على صعيد علاقاتها الدولية إلى الممارسات الطائشة والمتخبطة للقيادات الإيرانية المعنية بنسج علاقات البلاد مع العالم الخارجي‮. ‬فمما لاشك فيه أن الاتجاهات العدوانية في‮ ‬السياسة الأمريكية الأوروبية ذات الخلفيات الاقتصادية التوسعية والسياسية المتصلة بتوفير الدعم والحماية لإسرائيل لها دور حاسم في‮ ‬تدهور الوضع الدولي‮ ‬لإيران‮.‬
على أن هذا‮ (‬المناخ الدولي‮ ‬غير المواتي‮) ‬لإيران أدعى لأن تعتصم قيادات النظام الإيراني‮ ‬الحاكم بحبل جبهتها الداخلية وتصونها من أية تصدعات قد تكون ناجمة عن إهمال أو فساد أو ممارسات خاطئة‮. ‬بيد أن هذا لم‮ ‬يحدث،‮ ‬وإنما حدث عكسه حيث أدت سياسة النظام الشمولية إلى شق البلاد وأهلها بين موالاة ومعارضة وصل إلى ذروة تجسداته صيف العام الماضي‮ ‬على خلفية الانتخابات الرئاسية التي‮ ‬اتهمت المعارضة النظام بتزويرها لصالح مرشح النظام أحمدي‮ ‬نجاد‮. ‬ومع أن النظام تمكن في‮ ‬نهاية المطاف باستخدام القمع والاعتقال التعسفي‮ ‬والملاحقات البوليسية والمحاربة في‮ ‬الأرزاق،‮ ‬إلا أن النظام صار مكشوفاً‮ ‬في‮ ‬الداخل بجانب انكشافه الخارجي‮ ‬وأصبحت المعارضة للنظام متجذرة لها رموزها حتى من داخل النظام وقياداته من كبار رجال الدين الذين استداروا على النظام واتخذوا مواقف معارضة لسياساته الداخلية وتوجهاته الخارجية‮.‬
إيران تجد نفسها اليوم في‮ ‬وضع شبيه إلى حد كبير بالوضع الذي‮ ‬وضع نظام صدام حسين بلده والمنطقة فيه في‮ ‬تسعينيات القرن الماضي‮ ‬عندما ضاعف حدة أزمة انكشافه الداخلي‮ ‬بانكشاف خارجي‮ ‬نتيجة لطبيعته المغامرة والمتهورة التي‮ ‬واقعته في‮ ‬الفخ الذي‮ ‬نصب له‮. ‬خطاب متعنت ومتحدي‮ ‬موجه للخارج وسباق تسلح‮ ‬يعتمد سياسة حافة الهاوية‮ (‬على‮ ‬غرار ما كان اتبعه صدام حسين‮) ‬قبل القبول في‮ ‬اللحظات الأخيرة بعرض القوى المعادية والمتربصة‮. ‬ولذا فإن الاعتقاد السائد هو أن إيران إذا كان ساستها براغماتيين حقاً‮ ‬فإن طريق إثبات ذلك لا‮ ‬يتأتى إلا من خلال اعتماد الكياسة الدبلوماسية بديلاً‮ ‬للشعبوية السياسية التي‮ ‬لم تجلب سوى الويلات للشعوب والبلدان التي‮ ‬خبرتها،‮ ‬وقبل هذا وذاك الإتيان بفريق إداري‮ ‬كلي‮ ‬عالي‮ ‬يحسن وزن الأمور وتقييم واقع ومتغيرات المعطيات الجارية على الساحة الدولية ويتصرف على أساسها لا من خارجها.

صحيفة الوطن
28 اغسطس 2010

اقرأ المزيد