المنشور

الكذابون في يومهم العالمي..!!

 

قبل أيّام، وتحديدًا يوم الأحد الماضي، الأول من ابريل صادف يوم الكذب العالمي، وهو يوم مخصص للكذب في كل أنحاء العالم، وفيه يسمح بنوع من الأكاذيب البيضاء المعفية من أي مآخذات، هذا بافتراض انه يوجد نوع من الكذب النظيف، هذا اليوم الذي يقال إنه بدأ في فرنسا منذ أكثر من خمسمائة عام، ومنها انتشرت الفكرة لدى شعوب العالم، فيما عدا الشعبين الإسباني والألماني، والسبب أن هذا اليوم مقدس دينياً في اسبانيا، أما في ألمانيا فهو يوافق ميلاد «بسمارك» الزعيم الألماني المعروف..!

الكذب أنواع، عدم قول الحقائق، او تشويه او تزييف الحقائق، او حتى قول أنصاف الحقائق، وحتى النفاق والرياء والتلفيق والتدليس وقولبة الوقائع، وشهادة الزُّور، هذه أنواع من الكذب، هناك أنواع أخرى تتجلى في تظاهر العفة والاستقامة والنزاهة والوطنية، القائمة تطول، وقيل بأن الكذب يجر الكذب، بمعنى أن الشعور بأي انزعاج يتلاشى تدريجياً مع المثابرة في الأكاذيب، وهنا يكفي أن نذّكر بمقولة وزير الدعاية الألماني غوبلز إبان حكم هتلر «اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس، ثم اكذب واكذب حتى تصدق نفسك»، ولا بأس من باب التذكير ايضاً بما خلص اليه أحد الباحثين في أصول الكذب ودوافعه، «أن الكذب أصبح صفة يتميز بها البشر عن سائر المخلوقات»..!

لا بأس أن يكون للكذب يوم يحتفل به، فهو يحيطنا داخلياً وخارجياً وعالمياً من جميع الجهات، وربما يكون اليوم العالمي للكذب أكثر مقبولية لو كان للصدق حضور بقية أيّام السنة، الصدق تجاه أنفسنا، تجاه مجتمعاتنا، وتجاه أوطاننا، وتجاه بَعضُنَا البعض، لو كان الأمر كذلك لكان لهذه المناسبة العالمية قيمة ومعنى، ولكن الطامة الكبرى حين يتجلى الكذب في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل مجال وميدان، وعلى كل المستويات، وبشتى الأساليب والطرق، ونحسب أن أكثر الناس كذباً هم رجال السياسة ورؤساء الحكومات وأعضاء البرلمانات والمستبدون بالدين والمتاجرون به، وبعض من ظهروا لنا بصفة نشطاء ومحللين وخبراء ورعاة عمل خيرى واجتماعي، بجانب بعض شاغلي مواقع في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية والأكاديمية وفي الوزارات، وبعض المنخرطين في عمل مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية، ومعهم وربما قبلهم من دخلوا بحرفنة في صراعات المصالح الخاصة تارة تحت يافطة المصالح العامة او الدين، او الطائفة او المذهب، او الوطن والوطنية تارة أخرى..! التجارب المرّة والتي لا يسع المرء حيالها إلا أن يشعر بالأسى والقلق، هذه التجارب علمتنا أن الكذب بات مصدراً أساسياً للفساد لا بل منبعه، وهذه حقيقة أكد عليها رئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص في كتابه «في زمن الشدائد»، قال «إن من يستبيح الكذب يستبيح المحرمات كيفما عرفناها، وإن من مشتقات الكذب الرياء والخداع والنميمة، والكذب درع السارق والمرتشي والمختلس، وهو السبيل الى الإثراء غير المشروع، والكذب كما مشتقاته وروافده سلاح الكثير من الأضاليل وسبب كثير من النكبات الإنسانية..!» وهذه حقيقة لا أحسب أن هناك من يشكك فيها..

لا حاجة للتنقيب عن الكثير من الأكاذيب المبطنة والسافرة والمستفزة التي مرّت وتمر أمامنا، ومنها أكاذيب زعماء وسياسيين ورؤساء حكومات ودول، منهم من تَرَكُوا او أجبروا على ترك مواقعهم الحساسة في بلدانهم بسبب الكذب، فالكذب هناك جريمة لا يغفرها المواطنون، واذا كان هناك من لازالوا يواصلون الكذب بمهارة على شعوبهم ويبدعون فيه إبداعاً لم يسبق له مثيل، جعلوا المواطنين غارقين في بحار من الأكاذيب السياسية والفكرية والدينية وغيرها، ينامون ويستيقظون على أكاذيب تتم صناعتها وفق أحدث التقنيات والمعايير عبر كل القنوات والوسائل التي تتنامى باستمرار ويتزايد معها ترويج الأكاذيب، وإبداعات الكذب بشكل لم يسبق له مثيل، ونكاد نجد الكذابين في كل زاوية، وفي كل ركن، وفي كل موقع، ووجدنا مواقع تواصل إلكترونية وقد أصبحت حاضنة للكذب والكذابين، مغرضة ومثيرة للشائعات وللفتنة، فيها من يصرون على أنهم أصحاب رأي، ولا همّ لهم من الرأي إلا إحداث ضجة وحالة من البلبلة والغوغائية، والتشهير، او زج الناس الى درجة من السفه حين يراد جر الناس الى فخ التربص بعضهم ببعض، ولا مانع عند هؤلاء من أن نكون تحت رحمة أفق مشتعل بالنار، او نتحول لشعب يعيش حالة تقاطع، يأكل بعضه بعضاً، فهم بذلك يتاجرون ويتربحون، كثر يفعلون ذلك في الوقت يقدمون أنفسهم باعتبارهم نماذج في الوطنية والإنسانية والشهامة..!

وجدنا مسؤولين يكذبون، نعم يكذبون حين يموهون او ينفون المشكلات، لا يعترفون بها، ربما ظناً منهم أن ذلك يجنبهم المساءلة، وعلينا أن نلاحظ أن من هؤلاء من طوروا سياسات نفي المشاكل، فلم يعد النفي الساذج للمشاكل هو الوسيلة المناسبة لنفيها أمام الناس، او من الوعي العام، بل انهم يتبعون سياسات تؤدي في النهاية الى توجيه الإحساس العام بعدم وجود مشكلة أصلاً، او أن ما يثار حول هذه المشكلة او تلك مبالغ فيه، او أن وراء إثارة أي منها أصحاب مآرب، بل قد نجد من يظهر لنا مطلقاً تصريحات هي بالنهاية تدخل ضمن ما يمكن أن يعرف بسياسات نفي المشاكل، وهي سياسات تنتج تحت السطح مائة مشكلة، ويتجاهلون أن هذا أحد نتائج الكذب..!!

فيما يخص النواب، نعود اليهم دائماً، وجدنا منهم خلال معمعة الانتخابات الماضية يكذبون وهم يشترون الأصوات والضمائر، ويلعبون على كل وتر، ووجدنا منهم من ضحكوا على ناخبيهم في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقف، يكفي كذبهم حين تعهدوا ووعدوا ولم يوفوا بشيء، الكذب عندهم بالجملة والمفرق وقد حفلت الصحف بما يوثق هذه الحقيقة بالوقائع والتواريخ، تماماً كما الحال بالنسبة لمسؤولين أعلنوا عن استراتيجيات عمل لا أحد يعلم مصيرها، وعن مشاريع لا يلمسها الناس، ولا أحد يتابع لا هذه ولا تلك، وفي أمور كثيرة تمس المواطن، وعن… وعن… الى درجة شعرنا فيها بأن هناك من يريد لنا أن نعيش حالة استسلام او تصالح مع صناعة الكذب وقبول الكذابين، وهذه حقيقة وإن تلفعت بالصمت والإنكار، حقيقة عن أكاذيب تُصنع وتُهندس ويعاد إنتاجها وكلفتها مثيرة للهلع، والكارثة حين يتعامل الناس مع كذابين بوصفهم أنقياء، وحكماء و،،،،..!!

بقي – مهماً – أن نسأل، هل نبالغ اذا اعتبرنا أن مناسبة اليوم العالمي للكذب باتت في حد ذاتها أكذوبة، عساكم تشاطرونني الرأي بأنه ليس من المنطق أن نحتفي بيوم الكذب العالمي وكل أيامنا أكاذيب، نتصالح مع أكاذيب، ننام ونصحو على أكاذيب، ونشتري بضائع من الأكاذيب، ونسمع ونقرأ ونتابع أكاذيب، محق من قال إن الكذب أقبح اختراع إنساني، ولا يوجد منه نوع نظيف، حقاً إننا أمة صابرة على أكاذيب لا تنتهى صلاحيتها وهي سالكة في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات..!!