المنشور

ما مَدى دٌستورية المرسوم بقانون رقم 56 لسنة 2002 !!!



تقديم :

يعد المرسوم بقانون العفو الشامل رقم 10 الصادر بتاريخ 5 فبراير 2001 من أهم الأدوات التي أصدرها جلالة الملك لحظة تدشين المسيرة الإصلاحية ومن أهم الخطوات لتحقيق المصالحة الوطنية نحو تحقيق الوئام والاستقرار الاجتماعي والسياسي في البحرين ، إذ ترتب على هذا العفو إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين .
 
 غير أن إصدار المرسوم بقانون رقم 56 لتفسير مرسوم العفو الشامل  في 23 أكتوبر 2002  على انه  لا يشمل عفوا عن الضحايا فقط بل يشمل أيضا عفوا عن أولئك اللذين ما رسوا التعذيب وقتلوا الضحايا قد شكل صدمة كبيرة لعدد غفير من أولئك اللذين ناضلوا من أجل العدالة الاجتماعية وفي سبيل الحرية والديمقراطية ودخلوا السجون وتعرضوا للأذى البدني والنفسي ومن أولئك اللذين فقدوا عائلهم شهيدا في تظاهرة أو في السجن إذ وجد هؤلاء في أحكام هذا المرسوم حماية للجلاد فيما ارتكبه من تعذيب خلال حقبة أمن الدولة ، فنال وما يزال من المسيرة الإصلاحية  ومن تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة ، وقد كشف الواقع منذ تاريخ صدور هذا المرسوم  أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البحرين الذي كان ينشده مرسوم العفو الشامل لم يتحقق ولن يتحقق دون حل عادل ومنصف يشمل جميع الشهداء وضحايا التعذيب وفي إطار وطني .  ودون التقيد  بأحكام المرسوم 56 لأنها تخالف أحكام الدستور والمواثيق والاتفاقات الدولية و تعتدي عليها ، وأوجه المخالفة هي كما يلي :
 
هل تحتاج أحكام المرسوم بقانون العفو الشامل إلى تفسير؟
 
جاءت النصوص القانونية للمرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني ، صريحة واضحة ، على أن المستفيدين من العفو الشامل هم فقط الموقوفون والمتهمون والمحكوم عليهم ، وليس من بينهم من مارسوا التعذيب مع هؤلاء بصفتهم موظفين عموميين ، وأسانيدنا في ذلك هي :
 
  جرائم التعذيب التي ترتكب من الموظف العام لا تخضع لإحكام المادة 185 من قانون العقوبات و لا تختص بها محكمة أمن الدولة.
 
1-  نصت المادة الأولى من المرسوم بقانون العفو الشامل على أنه ( يعفى عفواً شاملاً عن الجرائم  الماسة بالأمن الوطني التي تختص بنظرها المحكمة المنصوص عليها في المادة 185 من  قانون العقوبات والتي وقعت من مواطنين قبل صدور هذا القانون ) .
 
 
    وبالرجوع إلى المادة 185 من قانون العقوبات المشار إليها نجدها تتعلق فقط بالجرائم المنصوص عليها في الفصل الخاص بجرائم أمن الدولة الخارجي والداخلي في المواد من 112 إلى 184 من قانون العقوبات ، وأن المحكمة المختصة بنظرها هي محكمة أمن الدولة ، ولا علاقة لها على الإطلاق بجرائم التعذيب التي يرتكبها الموظفون العموميون ولا بالعقوبة المقررة لهذه الجرائم ، إذ لا تقع هذه الجرائم ضمن المادة 185 من قانون العقوبات التي أشار إليها المرسوم بقانون العفو بل أن هذه الجرائم – أي جرائم التعذيب -  تقع في الباب الثاني من قانون العقوبات الخاص بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وبالفصل المتعلق بإساءة استعمال الوظيفة والنفوذ ، وان المحكمة التي تختص بنظر هذه الجرائم ليست هي محكمة أمن الدولة المنصوص عليها في المادة 185 بل هي المحكمة الجنائية العادية .
 
  2-    كما أن نص المادة الثالثة الفقرة الأولى من المرسوم بقانون العفو الشامل جاءت صريحة وواضحة على أن العفو يشمل فقط الموقوفين والمتهمين والمحكوم عليهم  ، وهو ما يجعلنا أمام وضوح النص أن نتساءل كيف أجاز مشرع المرسوم بقانون 56 لنفسه أن يفسر هذا النص الواضح على أن العفو الشامل يشمل أيضا أولئك اللذين ارتكبوا جرائم التعذيب والقتل ؟؟
 
   أن من ارتكب فعل التعذيب بصفته موظفا عاما ، لم يتم توقيفه حتى يكون موقوفا ، ولم توجه إليه تهمة ارتكاب فعل التعذيب حتى يكون متهما ، ولم يحال إلى القضاء حتى يكون محكوما ، ومن ثم لا ينطبق عليه العفو الشامل .
 
  3-     تلك هي النصوص القانونية التي جاء بها العفو الشامل واضحة وضوح الشمس الضاحية ، لا تحتاج إلى تفسير ، ويكون مشرع المرسوم بقانون 56 التفسيري لم يخالف الدستور فحسب بل خالف ما هو مستقر عليه عند فقهاء القانون بأنه لا يلجأ إلى التفسير التشريعي إلا إذا كان النص المراد تفسيره غامضاً يخشى معه التباس فهمه على المخاطبين به .
 
  أوجه مخالفة المرسوم بقانون56 للدستور والاتفاقيات الدولية
 
نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة من المرسوم بقانون العفو الشامل ( ومع عدم المساس بحقوق الغير لا تسمع الدعاوى المترتبة على العفو …. ) ، وجاء المرسوم بقانون 56 ليفسر كلمة ( الغير ) على إنه كل مضرور من أي جريمة مما صدر بشأنها العفو .
  وإذا كان صحيحا هذا المعنى لمفردة الغير ، فإنه  لا صحة على الإطلاق أن معنى الغير ينصرف للموظف العمومي الذي عذب الموقوف والمتهم والمحكوم عليه والشهيد ، بل ينصرف هذا المعنى إلى المجني عليهم الذين أحاق بهم ضرر مادي جراء الجرائم التي شملها العفو ، وبالطبع ليس من  بينهم أولئك اللذين ارتكبوا التعذيب ، ذلك أن هؤلاء لم يلحق بهم ضرر بل هم فاعلين له وقد جرم الدستور .
 
كما فسر المرسوم بقانون 56 عبارة ( ولا تسمع الدعاوى المترتبة عن العفو ) على إنها تعني ( عدم سماع أية دعوى أمام أية هيئة قضائية بسبب ، أو بمناسبة الجرائم محل العفو ، أيا كان الشخص رافعها ، وأيا كانت صفة المقامة ضده ، سواء كان مواطنا عاديا ، أو موظفا عاما مدنيا أو عسكريا ، وأيا كانت مساهمته في تلك الجرائم ، فاعلا أصليا ، أو شريكا ، وذلك خلال الفترة السابقة على هذا القانون ) .
 
وهذا النص مثل سابقه يفسر نصا واضحا في المرسوم بقانون العفو الشامل هو عدم سماع الدعاوى المترتبة عن العفو المتعلقة فقط بالموقوف والمتهم والمحكوم عليه وليست تلك الدعاوى التي ترفع من الضحية ضد الجلاد الموظف العام ، لان جرائم هذا الأخير تخضع في قانون العقوبات للفصل الخاص بالجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وإساءة استعمالها ولا تخضع على الإطلاق للجرائم محل العفو الشامل كما أوضحنا سلفاً ، غير أن مشرع مرسوم بقانون 56  حشر في تفسيره الموظف العام المدني والعسكري مهما كانت مساهمته في الجريمة ، بغية تحصين مقترف التعذيب من المحاكمة والعقاب .
 
وإذا كان المرسوم بقانون 56 كما أوضحنا قد صدر بهدف حماية الجلاد سواء كان مدنيا أو عسكريا مما ارتكبه من جرائم، بعد تفسير قسرى  لإحكام العفو الشامل ، فأنه يكون قد خالف ما نص عليه  الدستور من أحكام تتعلق:
 
بتجريم التعذيب. ( المادة 19 البند (د) من الدستور ) .
 
  ومعاقبة من يرتكبه . ( نفس المادة السابقة ) .
 
وحق الإنسان في السلامة البدنية والذهنية . ( نفس المادة السابقة ) .
 
وحق الأفراد في التقاضي ( المادة 20 البند ( و) من الدستور ).
 
وعدم جواز أن ينال تنظيم الحق من جوهره ( المادة 31 من الدستور ) .
 
ولا تقتصر مخالفة المرسوم بقانون 56 على أحكام الدستور بل تمتد هذه المخالفة لإحكام ومبادىء الاتفاقيات والمواثيق الدولية وعلى وجه خاص اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1984 وانضمت إليها البحرين سنة 1998 فصارت جزءاً من التشريع الوطني لمملكة البحرين ، وتتمثل هذه المخالفة على وجه التحديد فيما يلي :
 
1-  حق كل من تعرض للتعذيب في أن يرفع شكوى إلى السلطة المختصة
 
  إذ نصت الاتفاقية  في المادة 13على انه ( تضمن كل دولة طرف لأي فرد يدعى بأنه قد تعرض للتعذيب في إقليم يخضع لولايتها القضائية ، الحق في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها المختصة وأن تنظر هذه السلطات في حالته على وجه السرعة وبنزاهة …. ) . والمرسوم بقانون 56 لا يضمن هذا الحق بل يعتدي عليه .
 
2-إنصاف من يتعرض للتعذيب  بتعويض عادل وإعادة تأهيل       
  
  إذ نصت الاتفاقية في المادة 14 البند أ على إنه تضمن كل دولة طرف في نظامها القانوني ، إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب وتمتعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب بما في ذلك وسائل إعادة تأهيله على أكمل وجه …. ) . والمرسوم بقانون 56 يتجاهل مثل هذا الحق .
 
لكل ما تقدم من أسباب فأن المرسوم بقانون 56 يستحق المقصلة ،  حتى لا يكون حجر عثرة في  المصالحة و الإنصاف لضحايا ولشهداء البحرين .
 
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كتلة النواب الوطنيين الديمقراطيين قد تقدمت في الفصل التشريعي الأول المنصرم لرئيس مجلس النواب بطلب الطعن في عدم دستورية المرسوم بقانون 56 إلى المحكمة الدستورية لذات الأسباب التي أشرنا إليها غير أن الرأي الملتوي الملتف على الحقيقة للمستشار القانوني لمجلس النواب حال دون إحالته للمحكمة الدستورية ، يقول سعادة المستشار في رأيه المقدم للجنة التشريعية والقانونية  حول الطعن وبدون إن يتناول أسباب الطعن أو يرد عليها ( أولا : أن المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 ، والمرسوم بقانون رقم 56 لسنة 2002 قد صدرا وفقا لإحكام الدستور ، ثانيا: إن المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 لم يشمل الجرائم المتعلقة بإساءة استعمال الوظيفة والنفوذ …. ) .( انظر الوثيقة رقم ف1 د3 – م ر – م ق – 94 المؤرخة في 29 ديسمبر 2004 ، الصادرة من مجلس النواب ) .
 
    هكذا ينتهي المستشار – ويبدو أن رأيه دائما مؤثر – إلى نتيجة بعيدة كل البعد عن أسباب الطعن غير إنه يقر بوضوح إلى أن مرسوم العفو الشامل لا يشمل الجرائم المتعلقة بإساءة استعمال الوظيفة مما يعني إن المرسوم بقانون 56 كان على خطأ حين فسر مرسوم العفو على أنه يشملهم .