المنشور

الغـربُ يقـود العالـم


ريادة الغرب في العالم المعاصر لا تحتاج إلى نقاش، ولكن مع هذا فإن الماضويين يؤكدون ان الغرب استعماري وعدو للشعوب وموجد إسرائيل وحاميها وغير ذلك من السياسات المرفوضة كذلك لدى التقدميين العرب.
ولكن موجات السياسة الطافية في كل مرحلة شيء وكيان الحضارة التاريخي شيء آخر.
كانت معاداة الاتحاد السوفيتي الناشئ في العقد الثاني من القرن العشرين للغرب تستند إلى تدخل الغرب بقوة عسكرية كبيرة في كيان هذا الاتحاد السياسي الوليد بحيث إن اثنتي عشرة دولة كانت تقتحمُ حدوده الشاسعة من الغرب والشرق.
لكن كان عداء الاتحاد السوفيتي للغرب قد تنامى لتصاعد القوى الدكتاتورية داخله، سواء بتصاعد دور الدولة الهائل في الاقتصاد، وتضخم الأجهزة العسكرية والأمنية أو بصعود الزعماء الفرديين الدمويين كستالين.
فهذه القوى رفضت التعددية السياسية والانتخابات الحرة وشكلت هيكلها الحكومي المسيطر، فظهرت المبررات بالاختلاف عن الغرب(الاستعماري) وإنها رسالة مقدسة للقضاء على سيطرته على العالم.
وكانت سيطرة الغرب على العالم الثالث خاصة أمراً رهيباً واستغلالياً كبيراً، لكن ذلك لا يبرر غياب الديمقراطية الداخلية للشعوب السوفيتية.
وتسوقنا تجربة الهند الدولة الشديدة التخلف في الشرق ولكن بقيادة غاندي رفضت أن تعادي الغربَ أو تقمعَ مواطنيها بحجةِ القفزة الاقتصادية أو أن تلغي التنوع الثقافي الهائل لديها بحجة القفز على الفقر ومقاومة الاستعمار وتحقيق الأحلام القومية.
إن التنوع الثقافي الديني والمذهبي والسياسي هو ثروة للأمم، وهو سجلٌ لدروب شعوب وطوائف لها الآلاف من السنين خلقاً للعادات والتقاليد والثقافات، لكن حين يأتي دكتاتور ويقرر بأنها ثقافة متخلفة ويجب القضاء عليها ويقوم بذلك منتزعاً أجراس كنائسها وصلبانها وقاتلاً رهبانها ورجال دينها فهو يجعل تلك البلدان متصحرة اقتصادياً وثقافياً.
نعرفُ مفكرين وباحثين في الغرب توجهوا لدراسة ثقافة العالم الإسلامي وكرسوا حيواتهم للبحث فيها، وهناك باحث غربي تخصص فقط في المذهب الإسماعيلي وعاش طويلاً في اليمن والهند وكان هذا المذهب قد طـُمس فكان بعد جهوده مضاءً بقوة.
وقد بدأ الغربُ الدكتاتورية الحديثة عبر ثوراته الأولى ثم وجد ان فرض الدكتاتوريات العلمانية هو اسوأ من الدكتاتوريات الدينية البابوية، بل كان قمعه للأديان مدمراً لديمقراطيته ولحضارته الجديدة، التي لا تقوم إلا على التنوع واحترام العقائد والأفكار، وتخصابها الجدلي لإثراء العقول، فالشراراتُ المتنوعة هي مفجرة المعرفة، أما الصوت الواحد فلا يخلق شرارات بل يخلق قبوراً، ومن هنا غابت ثورية الإسلام في الدول الدكتاتورية الدينية، وتجمدت الأفكار السنية في الدول التي أقامت دكتاتوريات مذهبية، وغابت ثورية الأئمة في الدول التي زعمت أنها الناطقة الوحيدة بهم، وتحجرت الأفكار الماركسية في الدول التي سمتْ نفسها اشتراكية.
ومضى الغربُ عدة قرون في بلدانه الداخلية لخلق هذا الجدل الفكري، ووسعه في كل مجالات الحياة، فلم يقل إنه ديني أو بروستانتي أو إلحادي أو كهنوتي، إن الدولة بلا إنغلاق فكري هي انتصار كبير للإنسانية!
إن الدولة بلا عقائدية جامدة هي ثمرة طويلة لكفاح مليارات البشر عبر التاريخ، الذين سُحقوا باسم الدول المذهبية والدينية وباسم الجهاد وباسم تحرير الأماكن المقدسة وباسم الحروب الصليبية وباسم تحرير الشعوب الوثنية وباسم تحرير البلدان من ربقة الغرب الكافر!
رغم أن الغربَ الاستعماري لم يطبق ذلك وهو يجتاحُ البلدان الشرقية، ولم يتبن الأفكار الديمقراطية التي سادت في مجتمعاته وهو يتحول إلى شركات وبنوك تبحث عن الأرباح أينما وجدت وتدير الانقلابات ضد الحكومات المختلفة التي تعادي مصالحه.
إن الدولة بلا فكر متزمت هي مؤسسة المدنية السياسية التي تنظر للمواطنين كمواطنين، بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية و(الجنسية)، أي لا تهتم بكونهم نساءً أو ذكوراً.
وهي تتطلب هذه الدولة اللادينية من المجتمع السياسي أن يكون كذلك، بمعنى ألا يكون متحيزاً بشكل ديني، فإذا كان كذلك سقطتْ مبرراتُ الدولة اللادينية. فالحزب السياسي – كما يُفترض أن يكون – يبحث عن الحقيقة لا عن إخفاء المعلومات ولا عن أنصاف الحقائق والتركيز على أخطاء الخصوم فقط. وهذا يعني كذلك إنه يبحث عن ازدهار الاقتصاد (الوطني) وتطور عيش العاملين.
فلا معنى أن تكون الدولة الفرنسية دولة لا دينية وتكون الأحزاب دينية، ولقد قامت الثورة الفرنسية على مبدأ العلمانية وإبعاد الدين عن السياسة، وبالتالي فإنها رفضت وجود أي أحزاب ذات صفة دينية.
لأن وجود الحزب الديني يلغي صفة تطوره ونقده وتعريته إذا أخطأ فهو مقدس، ولا يعني هذا كذلك عداءه للدين. وهذه مسائل دقيقة مركبة، فيتوهم بعضُ الشرقيين ان الحزب العلماني هو ضد الدين. لا! فهو ضد استخدام الدين في السياسة.
فالأحزاب يجب ألا تكون مقدسة، وهذا لا يعني كذلك أن تكون غير أخلاقية، لكن الكثير من الأحزاب انغمست في السياسة التكتيكية واستخدام أي شيء من أجل الفوز.
وقد اعترفت الدولُ الأوروبية تدريجاً بالمبادئ العلمانية وازدهرت حضارتها، فقد كانت مجتمعاتها الممزقة طائفياً وعرقياً بحاجة إلى الوحدة فكانت العلمانية هي السوق وهي المصرف الوطني وهي المصنع المنوع من الأعراق كافة.
وبانتشار هذه الروح الغربية شرقاً بدأت القارات الأخرى تفصلُ الاقتصادَ والسياسة عن الدين وتكون رأسمالياتها الوطنية، وبطبيعة الحال كانت طرق تطور الشرق مختلفة، وغدتْ الدولُ المرتبطة بالمفاهيم العتيقة لفهم الأديان متخلفة وهذا بسبب استخدام الدول القديم جداً للأديان، وإضفاء سيطراتها على الاقتصاد من خلال هذا الفهم.
فكانت الدولُ والجماعاتُ القديمة تصور سيطراتها على المال العام والنساء والعاملين بأنها جزءٌ من الأديان، لكن كان هذا يعرقلُ تطورَ الاقتصاد، وحين بدأ تفكيك ذلك اتسعت الأسواق والصناعات.
كان التاريخ الإنساني يعتمد على تطور دول الشرق، وها هو يعودُ إليه، لأن سيطرة الغرب الكلية مؤقتة، فالغربُ أصغر بكثير وموارده أقل، وقد جاءَ تميزهُ في زمنٍ خاص، معتمداً على الرأسمالية الخاصة الكلية، في حين يعتمدُ الشرقُ على القطاعات العامة والرأسماليات الخاصة، حين تكون في حالةِ تعاونٍ وثيق، وليس في حالاتِ العرقلة والتدخلِ من قبلِ طرفٍ ضد آخر، وهي صيغ سوف تسرع من تطوره، وتشكلُ سمات خاصة له، في ثنائية الرأسمالية والاشتراكية، الليبرالية والتقدمية، ولعلها ستظل عقوداً طويلة حتى تحسم خياراتها وتقفز الهوة بينها وبين الغرب.


أخبار الخليج 24 نوفمبر 2008