المنشور

الشيعة والنقد الذاتي فقهيا

ثمة أربعة بلدان عربية هي لبنان والعراق والبحرين ولبنان ينتمي إلى تراب كل منها شيعة عرب بكثافة متفاوتة الأحجام والنسب المئوية باتت كل منها تشكل مسرحا للخلافات المذهبية بينهم وبين السنة أشقائهم في الدين الواحد والمواطنة والمصير الواحد المشترك أيا تكن العوامل الموضوعية والذاتية لتلك الخلافات، فما إن يهدأ مسرح لبنان نسبيا ولفترة قصيرة جدا من المواجهات والاحتقانات حتى يلتهب مسرح العراق، وما إن يهدأ نسبيا مسرح العراق، الملتهب دوما، من النيران الطائفية المشتعلة بالمعنى الحرفي للكلمة حتى تحدث توترات في البحرين، وما إن يهدأ مسرح البحرين حتى يشتعل مسرح الكويت. ولعل آخر جولة من دوامة مسلسل هذه التوترات الكئيبة جرت في المسرح الكويتي خلال الأسبوع الماضي
على خلفية مطالبة بعض النواب بإبعاد رجل الدين العراقي الذي يحمل كما يبدو جواز سفر إيرانيا محمد الفالي على خلفية اتهام أولئك النواب له بالإساءة إلى صحابة الرسول (ص) مما كاد أن يفجر الساحة الداخلية المأزومة أصلا منذ سنوات بقضايا عديدة وأضيفت إليها في السنوات القليلة الأخيرة القضية الطائفية والتي كادت أن تعصف بالبرلمان لتشدد أولئك النواب بالمطالبة باستجواب رئيس الوزراء حول خلفيات القضية. وسواء أكان الشيخ الفالي مذنبا أم بريئا في القضية المنسوبة إليه، حيث مازالت قضيته معروضة على القضاء، إلا انه حسنا فعلت السلطات الكويتية بإبعاده عن البلاد لنزع فتيل الأزمة، تماما كما أحسنت سابقا البحرين حينما قامت بإبعاد رجل دين سني عربي قيل إنه أساء إلى الشقيقة الكويت وقيادتها أبان الغزو العراقي. ففي المنعطفات الصعبة المعقدة التي تشهد احتقانات وتوترات طائفية تبلغ ذروتها بسبب “فرد” أو بضعة أفراد فلابد أن يضحي الفرد بنفسه أو يضحى به مؤقتا لصالح الجماعة بابتعاده من تلقاء نفسه او إبعاده عن مسرح الاحتقان من اجل نزع فتيل التوتر المذهبي او الطائفي الذي يطاول شعبا بأكمله حتى تهدأ الأمور والحساسيات تدريجيا، ثم يمكن أن يعاد الاعتبار إليه إن كان “مظلوما” حقا إذا ما سنحت الظروف بذلك.
وعلى الرغم من البيان الهادئ العقلاني الرزين الذي أدلى به الفالي لدى مغادرة الكويت، فإنه كان الأجدر به ألا يضع السلطات الكويتية في هذا الإحراج وان يغادر الساحة الملتهبة من تلقاء نفسه وحينها يمكنه ان يصدر ذلك البيان ذا النبرة الهادئة. وسواء كان الفالي، كما ذكرنا، بريئا من التهم التي نسبت إليه ام مذنبا، كما ذكرنا، إلا انه ينبغي الاعتراف بأن قطاعا غير قليل من رجال الدين الشيعة مازالوا متخلفين عن متغيرات العصر وتحدياته البالغة الخطورة لتمسكهم بخطاب الغلو في المذهب وتصوير أنفسهم وطائفتهم بالفرقة الناجية على نحو ما تفعله سائر الفرق.
 ومن حسن الحظ انه بالتوازي تماما مع تفكيك الحكومة الكويتية هذا اللغم الطائفي البغيض على الساحة السياسية إن اصدر 11 شخصا من رجال الدين والمثقفين الشيعة في المنطقة بيانا أعلنوا فيه صراحة رفض كل أشكال الغلو والتسييس والفساد الداخلي باسم المذهب في الطائفة الشيعية، ومن هذه الأشكال التي أدرجوها في 18 بندا: مسألة التقليد، وإعطاء الخمس لرجال الدين، والتطبير في شعائر عاشوراء، وولاية الفقيه، والمطالبة بدفع الحقوق الشرعية عبر القنوات الحقيقية المؤتمنة التي تكفل وصولها إلى الفقراء، وتشييد المشاريع التي تساهم في تنمية وتعمير أوطانهم، ورفض قذف الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الثلاثة السابقون على الإمام علي “ع”.
 كما لمن حسن الحظ أيضا، وبالتوازي مع نزع فتيل الأزمة الكويتية المتصل تحديدا ببعدها الطائفي، ان استقبل المرجع الديني العربي العقلاني الوحدوي الإسلامي آية الله السيد محمد حسين فضل الله وفدا كويتيا على مستوى عال ضم في صفوفه وزيرين سابقين، حيث أكد فضيلته مجددا فتاواه برفضه الحازم الإساءة إلى أمهات المسلمين أيا تكن الذرائع والحجج الدينية أو التاريخية، واستنكاره تيار الغلو والخرافة في صفوف طائفته، كما في سائر الطوائف الإسلامية الأخرى، والتصدي للمعاهد الدينية، ومنها بالطبع الحوزات الشيعية كما يُفهم من كلامه، التي تخرج المتعصبين، مؤكدا في هذا الصدد “ان أية فئة تسيء إلى جهة كويتية معينة فإنها تسيء إلى الكويتيين جميعا والى المسلمين جميعا”، مناشدا الجميع التمسك بثوابت الوحدتين الوطنية والإسلامية.
وبصرف النظر عما ينطوي عليه بيان الـ11 شيعيا عربيا المتقدم ذكره من نقاط، قد تكون محل خلاف داخل صفوف الشيعة أنفسهم، إلا انه يمكن القول أن هذا البيان هو أجرأ نص في النقد الذاتي والمراجعة الفقهية والاجتهاد داخل الطائفة الشيعية منذ صعود الإسلام السياسي الشيعي قبل نحو ثلاثة عقود حتى الآن. ولعل من الغريب أن أكثر الموقعين عليه هم ينتمون إلى تراب وطن – السعودية – لم يشهد الاحتقانات بالشدة التي شهدتها الأوطان الأربعة المذكورة، لا بل إن العقلانية تسود في أوساطهم على الرغم من ان بوسعهم لو أرادوا أن يشكوا من “مظلومية” تاريخية أو معاصرة، وإذا كان يمكن فهم الاختلاف مع أصحاب البيان في بعض النقاط المتصلة بالمعتقدات الداخلية للطائفة وكيفية تصحيح ممارساتها وتحصينها من الفساد باسم الدين والمذهب، وكذا الطقوس المرافقة لشعائر عاشوراء فإن ما لا يجوز الاختلاف فيه هو أهمية الانخراط في المهام الآنية الملحة المتعلقة بالنقد الذاتي والمراجعة الفقهية لنبذ مظاهر الغلو والتطرف الديني التي تسيء إلى نقاوة المذهب الشيعي، وتسهم بقصد او من دون قصد، في زيادة الفجوة بين أتباعه وبين أشقائهم أتباع مذهب أهل السنة والجماعة. وإذا كانت مسئولية المراجعة الفقهية والنقد الذاتي لتصحيح مظاهر الغلو والتطرف والتكفير هي مسئولية جماعية تقع على مذاهب الإسلام كافة فإن هذا لا يعفي أي مذهب بأن يبدأ بنفسه دونما انتظار ما يفعله المذهب الآخر، ذلك بأنه اذا ما ساد هذا المنطق الأناني الضيق النظر فإن بؤر التوتر والاحتقان المذهبي لن تبارح مكانها في دوامات متصلة لتأكل بذلك الأخضر واليابس حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

أخبار الخليج 25 نوفمبر 2008