المنشور

نائب الأمين العام للتقدمي في لقاء مع صحيفة الأيام …مبادرة التقدمي في 2009 فرصة تاريخية فوتت


أكد نائب الامين العام لجمعية المنبر التقدمي عبدالجليل النعيمي في لقاء مع صحيفة الأيام  بأن الإصلاح جاء نتيجة التقاء الإرادتين الملكية بالشعبية بعد تجربة ربع قرن ضائع منذ حل المجلس الوطني عام 1975 وحقبة قانون أمن الدولة السيئ الصيت التي تميزت بقمع وتشريد القوى الديمقراطية، وبعد نضال شعبي مرير من أجل عودة الديمقراطية. وشهدت بضع السنوات الأولى من الاصلاح  تطور الممارسة الديمقراطية وتحقق عدد من المكاسب واقعا، وتابع إلا ان هناك قوى متضررة تقتضي مصالحها عرقلة الإصلاحات أو العودة عنها. وهناك بعض من المعارضة متطرفة توّاقة إلى حرق المراحل.

ووجه النعيمي نقداً حاداً للجوء بعض القوى إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية ليس عبر القوى الاجتماعية الحديثة، بل القوى الطائفية والعصبيات الأخرى.
وأشار الى انه يوجد لدينا من الثغرات ما يسمح بدخول القوى الخارجية طرفاً في أزمتنا التي عجزنا عن إدارتها.
كما انتقد حجب التمويل الرسمي وأشكال الدعم الأخرى عن القوى السياسية وجمعيات المجتمع المدني الديمقراطية ومحاصرة إمكانيات تمويلها الذاتي.
واعتبر ان هناك تراجعا حتى عن نمط التنمية في ستينيات – سبعينيات القرن الماضي، حيث كان التوازن الاقتصادي – على اختلاله – أفضل منه حالياً..
 
وفيما يلي نص الحوار.

–  عادة تنطلق تحليلاتكم للأوضاع السياسية من الواقع الاقتصادي الاجتماعي المحلي مربوطاً بالأزمة العالمية. لكن تقارير تقول بأن البحرين تجاوزت الأزمة.. لماذا لا تذهبون إلى الموقف السياسي مباشرة؟

– ليس من أدوات علمية لفهم الواقع بشكل صحيح سوى تلك التي ترجع الظواهر إلى مولداتها المادية، وتقرأ السياسة على أرضيتها الاقتصادية الاجتماعية.
عالمنا مترابط عضوياً، خصوصاً في زمن العولمة الحالية. ورغم انهيار قسم من النظام الاشتراكي العالمي، إلا أن الاقتصاد الاشتراكي يستعرض في مثال جمهورية الصين الشعبية أفضليته. وبلدان جديدة في أمريكا اللاتينية وآسيا وغيرها تتحول نحو الاشتراكية أو اقتصاد السوق الاجتماعي. وتتقوى مواقع الأحزاب التقدمية حول العالم. وفي الوقت نفسه لا تزال أزمة الرأسمالية العالمية تفرز تبعاتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المريرة. وموجاتها المتتالية تضرب مختلف مناطق العالم.
بالنسبة لبلادنا التقارير مختلفة إلى حد التناقض. أما الحقيقة فإن خصائص اقتصاد البحرين تجعله واقعا في عين الأزمة. وإذا كان قطاعا المال والعقار يشكلان مرض الاقتصاد العالمي الأول، فوزنهما مجتمعين في ناتجنا الإجمالي المحلي يفوق الثلث، أي أكثر بكثير مما في البلدان الرأسمالية. وبينما تلك البلدان تتخذ إجراءات لكبح دور هذين القطاعين لصالح القطاعات الإنتاجية، فإن الحديث يجري هنا عن دورهما الريادي في الاقتصاد. صحيفتكم نشرت في 28 يوليو أن قيمة المشاريع العقارية المتعثرة قاربت 878 مليون دولار، والقضايا العقارية تقارب 60% من إجمالي النزاعات أمام القضاء البحريني. المفارقة أن ممثلي هذين القطاعين يطالبون الدولة بالتعويض على حساب المال العام.
المديونية هي المرض الثاني للاقتصاد العالمي. ومديونيتنا ارتفعت الى 42 % ناتجنا الإجمالي المحلي، وتتصاعد بوتيرة كبيرة. وكما ترون فنحن مكشوفون تماما أمام موجات الأزمة العالمية، بتبعاتها التي ذكرنا.
 

–  بالنسبة للبحرين لماذا ينعكس عليها هذا الامر خصوصا كما اشرتم الى ارتفاع مديونيتها؟

لأن بلادنا تراجعت حتى عن نمط التنمية في ستينات – سبعينات القرن الماضي، حيث كان التوازن الاقتصادي – على اختلاله – أفضل منه حاليا. فقد شيدت صناعات تصديرية كالألمنيوم والبتروكيماويات وذات علاقة بأمننا الغذائي كمطاحن الدقيق، أو خدمية صناعية كالحوض الجاف. أما الآن فالغلبة للقطاعات غير الإنتاجية، خصوصا المعتمدة على العمالة غير الماهرة دون التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة.
 

–  معلومات مهمة التي طرحتها في السؤال السابق ولكن ما العلاقة بين هذا والأوضاع الاجتماعية والسياسية ؟

– الإنحراف التنموي زاد من اختلال توازن الهيكل الاقتصادي، وبالتالي التركيبة الاجتماعية والسكانية. غدا المواطنون أقلية، ضعفت البرجوازية الوطنية الصناعية، تباطأ نمو الطبقة العاملة الصناعية، تضاءلت أعداد الحرفيين المنتجين وانهارت الفئات الوسطى. وهذه الطبقات والفئات هي محور الاصطفافات الاجتماعية وأساس البناء الصحيح والفاعل للمجتمع المدني والأحزاب السياسية وكذلك بناء الدولة الحديثة. متى تشوه البناء الاقتصادي تشوه البناء الاجتماعي بقيام مجتمع مستهلك ومقترض أكثر مما هو منتج ومُدَّخر، ودبَّ الفساد وذهبت السياسات مذهبا غير حميد، وتحولت لدى كثير من الناس أنماط الوعي والتفكير من العلمية إلى الغيبية والطائفية الدينية السياسية، وتجاذبت قوى السلطة والسوق والغيبيات أعدادا كبيرة من المثقفين لتتشوه الثقافة أيضا. وبالتالي ينشأ نظام اقتصادي اجتماعي قد يعتقد بعض ذوي النفوذ أن مصلحتهم تقتضي الحفاظ على طابعه غير المتوازن.
فليست الاصطفافات على أساس طائفي من طبيعة مسار تطور الحركات السياسية في البحرين، بل من بعض تعرجاته، والتي استطاع شعبنا تخطيها في الماضي. لكن الطابع الطائفي يبدو سائدا الآن. ومع تعمق الأزمة تلجأ بعض قوى النفوذ إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية ليس عبر القوى الاجتماعية الحديثة، بل القوى الطائفية والعصبيات الأخرى. ولكي تُطمس التناقضات الاجتماعية المحركة والدافعة نحو بناء الدولة الحديثة فلابد من تقوية الصراع الطائفي، مع ما يتطلبه ذلك من امتيازات وتمييز والنفخ في هويتَي «نحن» و»هم». النتيجة – أن القوى الطائفية تتقوى، أما القوى الديمقراطية (ومعها الجماهير من الطائفتين) فتتحمل عبء هذا الصدع المجتمعي. تلك هي الجذور الاقتصادية – الاجتماعية التي تفسر، مثلا، لماذا فازت كتلة الشعب الديمقراطية في انتخابات السبعينات، وتفوز قوى الطائفية في انتخابات هذا الزمن.

–  هناك من يقول ان تفاقم الطائفية جاء بتأثير التطورات والتدخلات الإقليمية والخارجية؟

– لكي لا يُخلط السبب بالنتيجة، نقول ان هذا صحيح فقط لأن لدينا من الثغرات ما يسمح بدخول القوى الخارجية طرفا في أزمتنا التي عجزنا عن إدارتها. الثغرات الداخلية هي التي تجعل للإنقسامات الطائفية الإقليمية والعربية عظيم الأثر في تفاقم أوضاعنا الداخلية. ليس سرا أن كبار دول المنطقة تتنافس على النفوذ في صغارها وفي كامل المنطقة. وكذلك دول العالم الكبرى. وهذا ما يسمح بأقلمة وتدويل الأزمة المحلية بارتداد تفاقمي. وليس سرا أيضا أن للقوى الإقليمية – على تناقضاتها – مصلحة في حرف نضالنا عن مساره الوطني من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلام. إنها تخاف عدوى الديمقراطية، إنْ نجحت لدينا.

–  وكيف يمكن سد هذه الثغرات ؟

– بناء جبهة وطنية على قاعدة إصلاح ديمقراطي حقيقي لن يوجد ما تقتات عليه القوى الخارجية. بالعكس، تستطيع هذه المملكة الصغيرة أن تتحول من ساحة لتصفية حسابات دولية وإقليمية إلى أن تكون السباقة في وضع قواعد للعلاقات بين دول المنطقة قائمة على أساس توازن المصالح بدلا من توازن الرعب الحاصل حاليا، وبالتالي النأي بالمنطقة عن تدخلات القوى الكبرى وشحن بلداننا ضد بعضها على قاعدة الانقسام الطائفي. ليس للبحرين أن تختار جيرانها، لكنها تستطيع المساهمة في صياغة أسس التعايش معهم وزرع بداية لتعاون إقليميي قائم على التكافؤ والاحترام المتبادل بما يحوِّل الخليج العربي إلى منطقة تعاون من أجل التنمية والسلم، وتخدم أمن واستقرار العالم وتطوره.

–  في هذا الصدد.. ما موقف المنبر التقدمي من فكرة الاتحاد الخليجي؟

– هو نفسه موقف شعوب بلدان مجلس التعاون الطامحة إلى أن تنبسط الرقعة الجغرافية الخليجية أمامها وتتحقق المواطنة الخليجية. ذلك يستجيب لحاجات تطورها. وفي عالم التكتلات والوحدات الإقليمية، لن تستطيع بلداننا فرادا حماية مصالحها في علاقاتها مع العالم وأزمته. لكن أن يُدعى لهذه الوحدة تحت الظرف والهاجس الأمنيين ووفق سياسة المحاور الإقليمية، ودون دراسة وتخطيط علميين، فأي اتحاد قد تنهار بذات السرعة التي أقيم بها. ولنا في التاريخ عبر.

–  ما المطلوب عمله لسد الثغرات الداخلية برأيكم؟

– ذلك يحتاج إلى إرادة سياسية وطنية جازمة لدى السلطة وسائر القوى السياسية على اختلافها. نحتاج إلى حوار وطني، أكثر فاعلية من الذي جرى العام الماضي، لا يستثني طرفا سياسيا من المشاركة الفعالة.
وأن يفضي الحوار هذه المرة ليس إلى تبادل الآراء، فهي معروفة، بل إلى تفاوض واتفاقات أكيدة حول جوهر الإصلاح الذي يعطي للمجلس النيابي حقوقه العليا كمؤسسة تشريعية ورقابية منتخبة من الشعب، وأن تتمثل القوى السياسية المعارضة وقوى المجتمع في مجلس الشورى، وأن تتشكل حكومة وطنية تضم ممثلي مختلف القوى السياسية والاجتماعية دون محاصصة طائفية، وتحظى بثقة مجلس النواب، ويعاد رسم الدوائر الانتخابية وقوتها التصويتية بشكل عادل، وبناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية، لتستمد الدولة هيبتها من انتظام علاقتها بالمجتمع عبر القانون لا القوة، والاحترام الصارم لحقوق الإنسان ومعاقبة منتهكيها، وأن يعطى للقوى السياسية وقوى المجتمع المدني الحقيقية دورها الفاعل والمقرر في الحياة السياسية والاجتماعية، وإعادة صحافتها المعطلة، والاعتراف بحقها في الدبلوماسية الشعبية وتمويلها الكافي كحق ينظمه القانون وليس الولاء أو أية اعتبارات أخرى.
عموما، نرى أن مبادرة سمو ولي العهد التي قدمها في ذروة الأزمة في مارس 2011 بنقاطها السبع ودعواته المتكررة ذات الرجع الطيب للبحث عن حلول ناجعة ومنصفة يمكن أن تشكل قاعدة انطلاق للحوار والتفاوض. ولا ضير أن تأتيها السلطة السياسة بمنطلق «مبادرة ولي العهد، ليس أكثر»، والمعارضة بمنطلق «مبادرة ولي العهد، ليس أقل»، لنلتقي في منطقة ذهبية بين المقاربتين. طبعا، الدولة هي الأقدر على قيادة هذه العملية وعليها تقع المسؤولية الأكبر لتهيئة شروط نجاحها.
على أن التنفيذ التام والنهائي لجميع توصيات اللجنة الملكية لتقصي الحقائق ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بكل ما يتطلبه ذلك من قوانين وإجراءات وعقوبات وتعويضات ورد اعتبار وغيره. فذلك ليس من قضايا النقاش، بل متطلب إنساني وحقوقي ومقدمة ضرورية للإصلاح الوطيد الذي لن يتحقق دون المرور بطريق العدالة الانتقالية والإنصاف.
ومن المهم جدا أن يُهيأ الإعلام الرسمي وشبه الرسمي لتشكل تلك الأهداف رسالته الحقيقية، وأن يستوعب جميع إعلامييه بلا تمييز، وبلا تمييز يخاطب كل المواطنين.

–  ألن تعيق التدخلات الإقليمية ذلك؟

– ستعيق إذا استسلمت لها قوى في السلطة أو المعارضة. أما إذا استبقنا التطورات الإقليمية بالوعي المطلوب فسنكسب أنفسنا والتاريخ. أُوضِّح أكثر: إن كل العمليات الاجتماعية – السياسية التي تختمر حاليا في أحشاء مجتمعات المنطقة ستطفو قريبا على السطح دافعة بقوة نحو التغيير الديمقراطي حتما. وستكون البحرين في المقدمة إن هي عالجت أوضاعها منذ الآن بحكمة، أو في المؤخرة إن ظلت أسيرة الظروف الحالية.

–  تتحدثون عن ضرورة الإصلاح.. هل هو غير موجود برأيكم؟

– دعني أخبرك شيئا. معرفتي بجلالة الملك تعود إلى دراستنا معا في الثانوية. ضم صفنا طلبة من العائلة الحاكمة وعوائل ثرية وفقيرة، من المدن والقرى، سنة وشيعة وغير مسلمين، ومن أصول بحرينية وغير بحرينية، حزبيين وغير حزبيين. ولو كانت مدرستنا للإناث والذكور لكانت العينة أصدق تمثيلا لمجتمع البحرين بتلاوينه. كان التعايش طبيعيا. وكثيرا ما تحدَّث جلالته في لقاءات سياسية وفي بعض خطاباته الرسمية باعتزاز عن هذه التجربة وأثرها عليه. هذه الخلفية تساعد في تفسير أن جلالته جاء إلى الحكم حاملا مشروعه الإصلاحي حتى قبل أن تُفعِّل الولايات المتحدة الأمريكية برنامج مبادرة الشرق الأوسط لنشر الديمقراطية. جاء الإصلاح نتيجة التقاء الإرادتين الملكية بالشعبية بعد تجربة ربع قرن ضائع منذ حل المجلس الوطني عام 1975 وحقبة قانون أمن الدولة السيئ الصيت التي تميزت بقمع وتشريد القوى الديمقراطية، وبعد نضال شعبي مرير من أجل عودة الديمقراطية. أكثر من ذلك كان جلالته يأمل بأن تصبح مملكة البحرين مركز إشعاع ديمقراطي في المنطقة. وحكما على كل ذلك فليس من سبب وجيه للاعتقاد بأن الملك أطلق مشروعه الإصلاحي كمناورة سياسية محدودة زمنيا. يشهد على ذلك تطور الممارسة الديمقراطية خلال بضع السنوات الأولى وتحقق عدد من المكاسب واقعا، وقبل ظهور قاعدة تشريعية تحميها، ولكن هناك قوى متضررة تقتضي مصالحها عرقلة الإصلاحات أو العودة عنها. وهناك بعض من معارضة متطرفة تواقة إلى حرق المراحل وتخلط، فهماً وممارسةً، بين الإصلاح والثورة التي يجب أن تتوافر شروطها الموضوعية والذاتية. هنا اشتغلت القاعدة المجربة تاريخيا: «أقصى اليمين وأقصى اليسار يلتقيان». تتابعت حلقات سلسلة القوانين والإجراءات المكبلة للحريات. وفي حين وجد ذلك رفضا شعبيا عاما، إلا أن مواجهات العنف الرسمي والعنف المضاد أوصلا البلاد إلى احتقان أخذ في الاشتداد خلال النصف الأول من عام 2009. في مايو من ذلك العام طرح «التقدمي» للجميع مبادرة الحوار الوطني من أجل الخروج من المأزق. التيار الوطني الديمقراطي دعا إلى تفعيلها. معظم المعارضة رحب. أما السلطة فلم تقل سلبا أو إيجابا. الآن يمكن القول ان فرصة تاريخية فُوتت. ولو أُخذ بالمبادرة فالأرجح ألا يتطور المأزق إلى الأزمة الشاملة التي انفجرت في فبراير 2011 على إثر هبات الربيع العربي في تونس ومصر وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الداخلية. ومهما حُمِّلت بعض قوى التطرف في المعارضة من مسؤولية، إلا أن السلطة السياسية تتحمل المسؤولية الأكبر.

–  بأية أدوات تم إضعاف القوى الديمقراطية وتقوية نقيضها ؟

– المال السياسي المغموس في الفساد ودوره في تشويه الوعي وإعادة بناء المصالح على أساس الانتماء الطائفي والقبلي والمناطقي والأصل القومي وصلات القرابة وغيرها من العصبيات. ولذلك أساسه المادي. اقتصادنا القائم على عائدات النفط لا يستطيع بهيكله استيعاب إلا اليسير منها. ويسمى الباقي «فوائض» يتم تصريفها عبر قنوات مختلفة. من أهمها، ضخ المال السياسي عبر وخارج ميزانية الدولة عن طريق وجهاء الطوائف والمؤسسات الدينية والخيرية لإعادة اصطفاف المجتمع ومؤسساته على أساس طائفي. ومن حيث يدري رجال السلطة السياسية أو لا، فإنهم يضعفون الدولة التي يديرون. أمام تغوُّل الاستقطاب الطائفي تضطر الدولة لإبداء تنازلات رجعية لشراء «الولاء» أو السكوت المؤقت فتفقد مشروعها الخاص. بالمقابل يتم التضييق على القوى الديمقراطية التي تناضل ضد المشاريع الرجعية والصفقات الطائفية. من أهم التضييقات ترسانة القوانين والإجراءات المقيدة للحريات، وحجب التمويل الرسمي وأشكال الدعم الأخرى عن القوى السياسية وجمعيات المجتمع المدني الديمقراطية ومحاصرة إمكانيات تمويلها الذاتي. بالمقابل يستمر تدفق المال السياسي الوفير لقوى الطائفية من مصادر داخلية وخارجية، تستطيع به تفعيل مؤسسات دينية وخيرية كبديل لمؤسسات المجتمع المدني. أما الدولة فتملك ما تشجع به قيام مؤسسات سياسية ومدنية «بديلة» (تعرف عالميا بالجونجو)، تتمتع بالدعم اللامحدود. 
  


–  2  -

 

 النص الأصلي للحلقة الثانية من مقابلة “الأيام” مع عبد الجليل النعيمي، نائب الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي


“الأيام”، الجمعة، 10 أغسطس 2012

 


يبرز خلال الحديث في السياسة جانب مهم ويلعب دورا كبيرا في مجريات العملية السياسية سواء على مستوى القوى السياسية أو على الأفراد وهو استخدام المال السياسي.. كيف تعلقون على هذا الموضوع؟

حسب السيناريو الذي وضعه مصرف “سويس كريديت” هناك احتمال كبير وقريب بتدهور الاتحاد الأوروبي، ما سيهوي بأسعار النفط دون 50 دولارا للبرميل. إذا حدث ذلك فسينعكس بالسلب اجتماعيا وسياسيا في بلداننا مع ارتفاع أسعار السلع الأخرى وفي ظل التوترات الأمنية الإقليمية والداخلية الدافعة لمزيد من التسلح وهروب الأموال المحلية. هنا ستطرح بقوة مسألة إعادة اقتسام “الفوائض” المالية المتناقصة. وعليه سيضعف التمويل الداخلي والخارجي للقوى السياسية والاجتماعية الطائفية، وخصوصا الموالية.
 
وما الآثار الاجتماعية السياسية لذلك ؟

 تردي الأوضاع الاقتصادية سيشدد الضغط حتى على قوى الموالاة السياسية لأن تبرر وجودها أمام “جماهيرها” بغير وسائل الشحن الطائفي. وهذا سيجبرها على تصعيد مطالب اقتصادية اجتماعية وربطها بمطالب الديمقراطية السياسية. إرهاصات هذه الظاهرة بدأت تحدث حتى قبل موجات الأزمات القادمة.



كيف قرأتم ذلك على أرض الواقع ؟

خذ مثلا الطرح السياسي في مؤتمر تجمع الوحدة الوطنية الأخير. فمهما أثير حوله من نقد من خارج وداخل التجمع، إلا أنه يشكل نقلة نوعية قياسا بالخطاب السابق. وهذا يؤشر على أن استنفاذ إمكانيات الشحن الطائفي قد وجد بداياته. لكن هذه العملية ستسير ببطء، ما لم يعجلها ارتقاء وعي أشخاص من بين قيادات الطائفتين ليسمو فوق الطائفية. هنا بالذات يمكن أن يلعب ممثلو التيار الوطني الديمقراطي دورا مهما. وهنا أيضا مصدر الخطر على دعاة الانقسام الطائفي واستنفارهم للأموال والأقلام وماكنات التشويه والتسقيط ضد أي نفس وطني ديمقراطي في داخل التنظيمات الطائفية، وضد ممثلي التيار الوطني الديمقراطي على غرار الحملة التي لا تزال مستعرة ضد “التقدمي”.
 
أليست أسباب ضعف التيار الديمقراطي داخلية ؟ فبالنسبة “للتقدمي” مثلا كثر الحديث عن انشقاقات وخلافات أدخلته في فتور ملحوظ منذ أشهر، ما صحة ذلك؟

تعقيد الأوضاع التي مرت بها البحرين انعكس تعقيدا على العلاقات الداخلية في كل قوى المجتمع. في “التقدمي” بدت الأمور أكثر وضوحا لأسباب، منها : أولا، أن المنبر ينتهج الشفافية والإفصاح ما يسهل لأي متابع الوقوف على حقيقة الأمر. فكثير من الجدل اتخذ طابعا تسجيليا في وثائق ومقالات ظهرت إلى العلن.  ثانيا، يضم “التقدمي” أعضاء من كل المحافظات والطوائف والأقليات. هذا التنوع مصدر ثراء، لكنه خلال الأحداث المؤسفة كان أيضا مصدر أشكال مختلفة من المعاناة. البحرين كلها عاشت أوضاعا سيئة، لكن مناطق بعينها كابدت بشكل يومي أشكالا من العنف الرسمي والعنف المضاد، ومن العقوبات الجماعية التي طالت أطفالا ونساء وشيوخ جراء الغازات السامة لمسيلات الدموع والإطارات المحروقة، ومن الاعتقالات والفصل من العمل والمحاكمات غير العادلة. فليس هناك أحد من رفاقنا في هذه المناطق، إن لم يكن هو فكثير من أقربائه وأعزائه راح ضحية القمع أو عسف الإجراءات. رفاقنا من مناطق أخرى لم تعان بنفس الدرجة، أبدوا التضامن القوي مع جميع الضحايا بلا تمييز. لكن يبقى صحيحا القول أن تفاوت الأوضاع أوجد تفاوتا (مشوبا بالتشوهات) في أشكال الوعي الاجتماعي في المناطق. ومهما كان وعيك الفردي أرقى بحكم ثقافتك الأيديولوجية وتربيتك الحزبية، إلا أنه معرض للتفاعل مع الوعي الاجتماعي المحيط. فلضغوط الواقع والأهل والمعارف أثرها. من هنا تأتي المقاربات المختلفة أحيانا. ولا يعود ذلك لجذور طائفية كما يصور البعض.
وقد تفاعل “التقدمي” مع الأحداث وفق تقديراته وقدراته. لنا رفاق وأصدقاء أبلوا بلاء حسنا في مختلف المجالات، ودفعوا ثمن مواقفهم.
 
تم الترويج لوجود انسحابات واستقالات مستمرة في المنبر التقدمي جراء الأحداث الأخيرة، فكم نسبة المنسحبين، وهل لا زالت الإنسحابات مستمرة؟

نعم، روجت بعض الصحف لذلك كثيرا. هناك “مطبخ” سبق وأن مارس طهاته هذا الفعل، وبتنظيرات تفوح بؤسا. لا تهمهم مشاكل “التقدمي”، إذ كل “التقدمي” بالنسبة لهم مشكلة إِنْ هو لم “يؤَبَّط”. ولمزيد من الإثارة جمعوا هذه المرة أعداد من استقالوا أو ابتعدوا خلال الأعوام الأخيرة ليصوروا الأمر وكأن ذلك حدث كله، فجأة، في مؤتمرنا الأخير. ولم يلتفتوا إلى الرفاق الخمسة استقالوا من اللجنة المركزية وليس من المنبر. وقد أكدوا رفضهم استغلال استقالتهم في حملة الترويج ضد منبرهم التقدمي، بعكس ما فعل “المطبخ”. وفي “المطبخ” من عرف أن هناك خطوات معينة يجري بحثها على طريق المعالجة، فراح يتحدث وكأنها اقتراحات من عندياته كـ”مرجعية نضالية”. طبعا، هم لا يتحدثون عن طلبات عضوية شابة جديدة تتقد حماسا. هناك بالطبع من مارس تجاهنا نقدا بناءا، ونحن مدينون له، وحقه علينا أن نتعلم من نقده ونستفيد.
 
هل تعتقد أن مواقف المنبر التقدمي من الأحداث خصوصا في العام الماضي أفقدته كثيرا من جماهيره، وأصبح الرقم غير المحسوب في خارطة العمل السياسي في البحرين؟

هناك غلاة في الموالاة كما في المعارضة. هاجمت الموالاة مواقف “التقدمي” من باب “تبعيته” للوفاق. وهاجمته بعض المعارضة من باب القرب من السلطة. كلاهما خسر الإجابة الصحيحة. الذي يتهمنا بهذا أو ذاك إما أنه، إذا أحسنا الظن، لا يفهم الطبيعة الفكرية والسياسية والاجتماعية لا للسلطة ولا للوفاق ولا للتقدمي، أو أنه يخلط الأمور عمدا. في نفس الوقت فرغم قلتنا العددية نسبيا، إلا أن مواقف المنبر لها وزنها السياسي لدى كل الأطراف ويحاول كل الشد باتجاهه. وما هدف كل الهجوم الإعلامي على المنبر سوى شده إلى مواقف هؤلاء أو أولئك. 
أما جماهيريا فهذا الزمن الطائفي الرديئ ليس زماننا عموما. بل أننا خلال الأحداث المؤسفة دفعنا ثمن لا طائفيتنا وعدم سيرنا وراء أحد. ومواقفنا هذه هي رصيدنا للمستقبل. لقد تعودنا العيش في كل الأزمان الصعبة معبرين عن الضمير الشعبي. لكن كوننا رقما غير محسوب في خارطة العمل السياسي فهذا ما لم يحدث في تاريخ البحرين ولو ليوم واحد منذ تأسست جبهة التحرير الوطني عام 1955 وباعتبارنا حامل تقاليدها النضالية. وكم من كؤوس قرعت في نخب “إنهائنا” في أزمان مختلفة.
نعم، في الفترة الأخيرة خضنا تجربتنا الخاصة. أصبحنا خارج إطار الجمعيات الخمس لنستطيع أن نُعمل أدواتنا الخاصة في دراسة الأوضاع ونقول الرأي الذي نعتقده صحيحا وفق قراءتنا للوضع، وأن نتفاعل مع الأحداث بالطريقة التي نراها مناسبة. وفي نفس الوقت نلتقي مع كل طرف من الأطراف السياسية التي نبادلها كل احترام لأنها قوى وطنية لها رؤاها وجماهيرها وثقلها السياسي، ونتبادل الآراء والتجارب والخبرات، ونتعامل بانفتاح لتتضح نقاط الاتفاق والافتراق ونحدد علاقاتنا على هذا الأساس. بكلمة، نحن نمثل التيار التقدمي ونرى في التيار الوطني الديمقراطي بيتنا الطبيعي الذي علينا ألا نتوانى في النضال من أجل بنائه وتوسيعه وتعزيز دوره في الحياة السياسية للمملكة. وطبيعي أن تلك ليست مهمتنا وحدنا. إنه قبل أن يكون هذا التيار طريقنا إلى تحقيق الأهداف السياسية المشتركة مع القوى السياسية الأخرى، فهو طريقنا لتحقيق الوحدة الوطنية وقضايا المرأة والحريات العامة والشخصية التي لا تقل أهمية، بل وبدونها لا يمكن تحقيق تلك الأهداف أصلا.
ولكي يكون المنبر رقما حاضرا فليست الأولوية للأعداد على أهميتها ، بقدر ما يجب أن نعبئ طليعة نوعية واعية من شغيلة بلادنا ومثقفيها الكفاحيين وأن نوسع قاعدة الأعضاء والأصدقاء والمناصرين والحلفاء للنضال من أجل وطن حر وشعب سعيد. يجب أن ننجح في بناء حزب توحده نظرية الاشتراكية العلمية – حلم البشرية ومستقبلها، ويوحدنا بناء تنظيمي قوي يوفق تفاعليا بين الديمقراطية والمركزية، وبرنامج علمي واقعي، يدافع عن مصالح الجماهير ويستجيب بصدق لحاجات شعبنا.
 
بعد مؤتمركم العام السادس هبت رياح الخلافات مجدداً جراء توزيع المناصب الإدارية خصوصا المتعلقة بالأمانة العامة، حيث استغرق المنبر أسابيع قبل إعلان توافقه على المناصب، ألا تعتقد أن تلك الخلافات ستجعل المنبر في حالة ارباك مستمرة؟ وهل هناك تحفظ من أعضاء اللجنة المركزية على بعض المناصب وممثليها؟

الجدل في الأساس حول قضيتين : أولا ، الخط الذي انتهجه المنبر ما قبل وبعد الأحداث الأخيرة تمت مقاربته من على يمينه ويساره، من خارج المنبر وداخله. رفاق نشدوا التصحيح في هذا الجانب وآخرون في ذاك. وهذا طبيعي قياسا إلى تعقيد الأوضاع التي ذكرنا. وطبيعي أيضا أن المنبر عمل قبل المؤتمر وخلاله على مراجعة مواقفه نقديا، وقد أكد المؤتمر بشكل عام على الوثيقة النقدية المقرة، وهي تلاقي استحسان الغالبية الساحقة من الأعضاء. وبعد المؤتمر أكد بيان الدورة الأولى للجنة المركزية على روح هذه الوثيقة الهامة. ولا نزال مستعدين لمراجعة مواقفنا مع مضي عملنا النضالي الدؤوب. فالممارسة تختبر الطرح وتساعد على تصحيحه.
الأهم الآن أن ننظر بعين فاحصة نحو المستقبل. عنوان الفترة المنظورة القادمة هو البحث عن مخرج واقعي من الأزمة بعد إعادتها إلى أطرها وأطرافها وحلولها الوطنية. ونعتقد بأن دورنا كمنبر وكتيار وطني ديمقراطي مطلوب بإلحاح. فطبيعتنا وتركيبتنا غير الطائفية تؤهلنا لاقتراح برنامج الحد الأدنى الذي يعيد إلى الإصلاح معناه ويصون الوحدة الوطنية في ذات الوقت.
هذه المرحلة تتطلب أن يتهيأ المنبر داخليا ويستنفر كوادره كي تسهم في إعداد تصورات وبرنامج عمل المنبر والتيار الوطني الديمقراطي للمرحلة القادمة.
ثانيا، هناك دعوات من عدد من رفاقنا بإعادة النظر في التوازنات التي أفرزتها نتائج انتخابات المؤتمر، بما يجعل هذه التوازنات جاذبة أكثر ولأكبر عدد ممكن من الأعضاء. وحيث أن هذه ليست مسألة تنظيمية فقط، بل وسياسية، فقد وجدت هذه الدعوات ترحيبا وتجري دراسة تحقيقها.
حول تشكيل المكتب السياسي كان تحفظ بعض الرفاق ليس موجها ضد أحد، بل ارتباطا باستمرار الجهود من أجل التنويع. أما تحفظ بعض الرفاق الآخرين فأصدقك القول أن أحدا لم يوضح الموقف بصراحة. ربما هو مُحمَّل على التحفظ الأول. وبالمناسبة، ليس صحيحا ما نشرته صحيفتكم من أنني هددت بالاستقالة. الصحيح أنني أبديت استعدادي للعمل من أي موقع متى كان ذلك مناسبا.



يؤخذ على المنبر الديمقراطي التقدمي أن عناصر منه ساهمت في شق الحركة النقابية والعمالية بتأسيس اتحاد النقابات الحر. ما قولكم في ذلك ؟

“التقدمي” بأيديولوجيته لا يمكن أن يقبل أصلا بشق وحدة الطبقة العاملة، فما بالك على أساس طائفي، وضد أن تسلك أي قيادة عمالية هذا المنحى. وقف رفاقنا العمال ضد ذلك في المؤتمر الأول لاتحاد النقابات. وقد أخطأ بعض الأطراف حينها عندما جرى استبعاد ممثلي قرابة ثلث الطبقة العاملة من قيادة الاتحاد. لكننا أكدنا على وحدة الطبقة العاملة في إطار هذا الاتحاد، وأنه لا يمكن معالجة الخطأ بخطأ. وحيال الأزمة الأخيرة فإن موقف “التقدمي” موضح في بياني الدورة الأولى للجنة المركزية والقطاع العمالي للمنبر بتأكيد التمثيل العادل في إطار وحدانية الاتحاد. ونحن نعرف من تجارب الحركة العمالية العالمية أن الطبقة العاملة تعرضت في بلدان وأزمان مختلفة لمحاولات قوى رأس المال شقها بتفعيل ظاهرة “الأرستقراطية العمالية” ذات الامتيازات الاستثنائية. وقد تنجح لبعض الوقت، لكن ليس لكل الوقت.
 
لنختم بسؤال ماذا لو حدثت حرب في المنطقة؟ وما العمل لدرئها ؟

بالفعل الأمور مهيأة لأن تصل التوترات الأمنية في المنطقة الخليجية والعربية حد الإنفجار، سواء في حرب ضد سوريا أو إيران أو في شكل نزاعات إقليمية مسلحة أخرى.
ولا ندعو أحدا للتفاؤل بهذا السيناريو من منطلق الثأر السياسي أو من منطلق أنه سيؤدي إلى تضاعف أسعار النفط وارتفاع عائدات بلداننا. فالنفقات الدفاعية والأمنية “ستحرق” هذه العائدات مهما بلغت. كما يجب تذكر أن النفط نفسه مادة سريعة الاشتعال. ناهيك أن بلداننا تأوي قواعد عسكرية أميركية تجعلنا هدفا مباشرا في أية حرب.
قوى التيار الوطني الديمقراطي أكثر من يكره حدوث هذا السيناريو، ليس فقط لأنها ضد الحرب وداعية إلى التعايش السلمي بين الشعوب، وليس فقط لأنْ لا مصلحة تجمعها بأيِّ من أطرف النزاع. فكما في الصراع الطائفي المحلي كذلك في أي نزاع إقليمي مسلح ستكون القوى الديمقراطية هي الخاسر الأكبر. وفي ظروف الحرب عادة ما تنتعش الدكتاتوريات، بينما تقمع الديمقراطيات وإلى أمد طويل. إن النضال ضد الحروب ومن أجل السلام هو نداء طبيعي لكل القوى المناضلة من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. وهو نضال من أجل أهم حقوق الإنسان والشعوب – الحق في الحياة.


 
إنتهــــــــــى